أين الإنسان؟.
عندما نحاكم السلوك الجمعي المرتبط بتفاصيل الحياة اليومية في مجتمعاتنا و نحاول مقارنته بواقع الأمر في المجتمعات الغربية، نصاب بحالة من الصدمة و عدم الفهم. فما الذي نحتاج إليه حتى نتعلم النظام و الانتظام و المسؤولية؟. و لماذا تتحول كل دروس الوعظ و الإرشاد بهذا الشأن إلى مجرد كلمات تذروها الرياح؟.
يعرف السوسيولوجي الفرنسي" إميل دوركهايم" مفهوم التربية بأنه يشير إلى " الفعل الذي يمارسه جيل الراشدين على جيل الذين لم ينضجوا بعد، وذلك لتنمية عدد من الوضعيات الجسدية و العقلية و الأخلاقية التي يتطلبها المجتمع...". وبهذا المعنى فإن التربية هي ممارسة حياتية تستوجب التدريب و التعليم و المتابعة سواء تعلق الأمر بالأسرة أو المدرسة... و ذلك بهدف تحقيق تنشئة إجتماعية سليمة. و لأن " الإناء بما فيه ينضح " فإن نتائج التربية ليست إلا مرآة تعكس طبيعة القيم الإجتماعية السائدة في أحسن الأحوال. و القصد أن تلك الوضعيات الجسدية و العقلية و الأخلاقية التي يراد نقلها من جيل إلى آخر لا تعدو أن تكون سوى صورة مكررة لنفس السلوكات الإجتماعية. و عملا بقاعدة " فاقد الشيء لا يعطيه " نصل إلى استنتاج أساسي مفاده أن غياب آليات السلوك المنظم و المسؤول في المحيط الإجتماعي يؤثر بالتأكيد على أنماط التربية و أشكالها، و هو ما يؤدي إلى غياب تلك الآليات عند المربي الذي يمارس فعل التربية ( الأب – المدرس... ) و عبره عند الذي يخضع لتلك التربية ( الإبن – المتعلم... ).
إن ما يتم توارثه بين الأجيال المتلاحقة لا يتوقف عند حدود الوضعيات المذكورة في التعريف، و بما أننا بصدد عملية تروم إعادة إنتاج القيم الإجتماعية السائدة، فإن ذلك يعني أن ما يتم تلقينه للأجيال اللاحقة عبر التربية و التعليم هو الثقافة الإجتماعية بالتحديد. و عندما يغيب النظام و تنعدم المسؤولية أو تكاد في السلوك اليومي و في كل ما يتعلق بالشأن العام، فإن خطابات الوعظ و الإرشاد التي تستند إليها أدواتنا التربوية لا تجدي نفعا لأن فعل التربية لا يتأسس على الأقوال بل على الأفعال. و لأن الهوة عميقة بين ما نريد أن يكون عليه مجتمعنا و بين واقع الحال، فذلك يعني أن الحلقة المفقودة و التي تحول دون تغيير ملموس يرتقي بالسلوك و يطوره إلى مستوى المسؤولية الأخلاقية هي التوظيف الواقعي للفضائل و المثل الإنسانية في الفعل و الممارسة. و بالتالي يفقد المربي مشروعيته لأنه لا يقدم النموذج الواقعي و العملي عن السلوك الذي يراد تنميته لدى الأفراد. و تتجلى هذه المفارقة في مختلف أشكال العلاقة التواصلية اليومية. وعندما لا يجد الطفل الترجمة الفعلية لما يلقن له من قيم أخلاقية في الأسرة و الشارع و في علاقته مع أصدقائه يميل إلى الإستعاضة بالواقع لأنه يمثل المسرح الحقيقي للتواصل مع الآخرين. و هكذا تنتهي تنشئته إلى الإستجابة لمتطلبات المجتمع، لكنها متطلبات تعبر عن ثقافة تفتقر للمسؤولية و تفتقد لمعاني الوجود الإنساني.
إن المعضلة الحقيقية التي تعاني منها ثقافتنا الإجتماعية تتجلى في العجز الذي يلازم كل المشاريع التصحيحية التي تتوخى الرقي بالسلوك. و هو عجز سيظل مستمرا و متجليا على مستوى الممارسة الفعلية لأن التربية تقتضي أولا و قبل كل شيء صناعة إنسان حر و مسؤول و ملتزم. وفي انتظار أن ينبثق هذا الإنسان عندنا سنظل نجتر الكلمات و ستظل التربية عنوانا لنص مفقود. محمد مغوتي.22/10/2010.
التعليقات (0)