تتبوأ الملكية مكانة كبيرة في النقاش الدستوري المفتوح في المغرب. و قد كانت اختصاصات الملك دائما خطا أحمر لا يتم تداوله إلا في غرف مغلقة، لكن النقاش حول دور الملك انفلت من سلاسل الطابوهات، وأصبح موضوعا عاما يتداول على نطاق واسع منذ حركة الشارع المغربي في 20 فبراير.
يشكل مطلب الملكية البرلمانية حجر الزاوية في دعوات الإصلاح التي رفعتها حركة 20 فبراير، و التي لقيت استجابة من الملك في خطاب 09 مارس عندما أعلن عن التعديل الدستوري. لكن المشاورات التي بدأتها اللجنة الإستشارية مع الأحزاب السياسية و التنظيمات النقابية و الحقوقية و الجمعوية أثبتت حتى الآن تباعدا في وجهات النظر بشأن كثير من محاور التعديل المرتقب. و تستأثر اختصاصات الملك في الدستور الجديد بقدر كبير من الخلاف في وجهات النظر. و بما أن الديموقراطية الحقيقية تقتضي فصلا بين السلط و الإختصاصات، و تؤسس مشروعيتها على صوت الشعب، فإن أغلب الملكيات الدستورية في الدول الديموقراطية اختارت أن تكون برلمانية، يكون فيها الملك رئيسا للدولة، والوزير الأول رئيسا لحكومة منبثقة من صناديق الإقتراع و ملزمة بتنفيذ برنامجها السياسي ( الذي أهلها للفوز في الإنتخابات) طيلة الفترة التي تتحمل خلالها مسؤولية الحكم. وذلك هو الوضع في ملكيات عريقة كإسبانيا و بريطانيا يسود فيها الملك و لا يحكم. لكن الواقع المغربي يستدعي سؤالا أساسيا يطرحه الكثيرون بصيغة: هل يمكن للملك في المغرب أن يسود دون أن يحكم؟. و يكتسي هذا السؤال مشروعيته من خلال الاستناد إلى طبيعة المجتمع المغربي و الثقافة السائدة حول دور الملك و مكانته. فصورة الملك لا تنفصل في المخيال الشعبي عن الحكم و السلطة، وهي صورة تتغذى بفهم محدد للخطاب الديني الذي يقدم السلطان كظل لله في الأرض. و من تم فإن فكرة ملك يسود و لا يحكم غير مستساغة في أفهام الغالبية العظمى من أبناء الشعب المغربي، لأنهم تعودوا على أن الملك هو صاحب السلطان. ثم إن الهواجس الأساسية للمغاربة لا تنفصل عن المعيش اليومي، و لا يحضر فيها النقاش السياسي إلا في أوساط محددة. أما الأحزاب التي يفترض فيها نشر الوعي السياسي بين الجماهير فلا نجد أي حضور لمطلب الملكية البرلمانية في برامجها وخطاباتها، و إن حاول بعضها ركوب موجة 20 فبراير التي فاجأت الجميع بسقف المطالب التي رفعتها. وهذا يعني أن هذه الأحزاب تفتقر إلى الشجاعة السياسية اللازمة و الوضوح الكافي في تحديد رؤيتها لطبيعة اختصاصات الملك في الدستور المرتقب.
و ما يتردد هذه الأيام على لسان البعض من حديث حول عدم أهلية المغاربة لبلوغ نموذج الملكية البرلمانية في الحكم، يؤكد أن النخبة السياسية في المغرب مازالت مشدودة إلى خطاب تقليدي يتحرك تحت يافطة " قولوا العام زين" التي تستهدف إبقاء الحال على ما هو عليه، بالرغم من تشدقها بشعارات الحداثة و الدعوة إلى الإصلاح... لذلك فإن السؤال الذي أشرنا إليه آنفا يتجاوز حدود مشروعيته، و يفقد براءته عندما تتضح الخلفية التي تؤطره. فعندما يتحدث عضو في لجنة المنوني قائلا أن:" أفق ملكية برلمانية يقتضي توفر طبقة سياسية متطلبة، وذات مصداقية، تتحلى بالنضج وتشعر المواطنين بالثقة، وهي أمور مفتقدة في الوقت الراهن "، فذلك يعني أن التوجه العام يسير عكس تطلعات المغاربة في تحقيق إصلاح سياسي حقيقي. و الواقع أن كلام " محمد الطوزي " (الذي يفترض فيه أن يلتزم الحياد في هذا النقاش) صحيح لأن النخبة السياسية في المغرب مازالت غير مؤهلة لتقبل التغيير، لكن مثل هذا الكلام لا ينطبق على الشعب المغربي الذي عبر عن نضج سياسي متميز عندما أعلن عن رغبته في تغيير حقيقي من خلال المطالب التي رفعها المحتجون في مختلف الحركات الإحتجاجية التي عرفتها بلادنا منذ 20 فبراير. و قد أكدت هذه التحركات الشعبية أن المغرب يعرف تحولات عميقة فرضها الوضع الإقليمي و الداخلي على السواء. و أن هموم الحياة اليومية لم تمنع الفئات المتعلمة منه على الأقل من الإنخراط بطريقتها الخاصة في المشهد السياسي. بل إنها اكتسبت درجة من الوعي جعلها تدرك أن تحقيق العيش الكريم و القضاء على الفساد و تحسين الخدمات الإجتماعية مطالب لا بد أن تتأسس على إصلاح سياسي بسند دستوري. و هذا يعني أن مكونات الشعب المغربي هي بصدد إفراز نخب جديدة شابة و واعية تنادي بتغيير و تخليق الحياة السياسية، وتنتظر المناخ الملائم للإنخراط في البناء و التغيير. و بإمكان هذه النخب الجديدة تأهيل هذا البلد إلى الأفضل.
إننا إذن نعيش مفارقة بين نخبة سياسية مترهلة و غير قادرة على تجديد خطابها، وحراك شعبي ناضج و مسؤول يطمح للوصول بهذا البلد إلى مصاف الدول الديموقراطية، ويحاول تقديم صورة مختلفة عن المألوف و المعتاد. و عندما يرفع هذا الحراك الشعبي مطلب الملكية البرلمانية، فهو لا يصطاد في الماء العكر كما يتهمه البعض، بل يطمح إلى دولة يضمن فيها الدستور الفصل بين اختصاصات الأطراف المتدخلة في صناعة القرار السياسي. لذلك فإن الدستور الجديد ينبغي أن يتضمن تحديدا دقيقا لصلاحيات الملك و الحكومة و البرلمان مع ما يتطلبه هذا الفصل من سلطة قضائية مستقلة. و من شأن هذا الفصل وحده أن يضع المغرب على الطريق الصحيح. محمد مغوتي. 15/04/2011.
التعليقات (0)