اختارت ثلاثة أحزاب سياسية مغربية تاريخ الثالث والعشرين من مارس للإعلان عن ميلاد فيدرالية اليسار التي ضمت المؤتمر الوطني الإتحادي والإشتراكي الموحد والطليعة الديموقراطي، وذلك استحضارا للانتفاضة التلاميذية والشعبية التي انتهت بتدخل عنيف من طرف قوات الأمن بأسلوب أدخل المغرب بعد ذلك في مسلسل من الممارسات القمعية التي عرفت داخل الأوساط الحقوقية بسنوات الرصاص. واختيار الأحزاب المذكورة لهذا الموعد كتاريخ للإعلان عن تحالفها يحمل رسالة مفادها أن هذا التكتل الثلاثي يصطف بجانب "الجماهير الشعبية"، ويحاول أن يقدم نفسه ناطقا باسم كل المقهورين والمظلومين في هذا البلد، وذلك في أفق الوصول بالمغرب إلى ممارسة ديموقراطية حقيقية ومعبرة عن اختيار المغاربة وإرادتهم.
القاسم المشترك بين تيارات اليسار الفيدرالي هو الحرص على الرقي بالفعل السياسي في بلادنا وتخليق الحياة العامة عبر التصدي لمظاهر الفساد والإستبداد، وذلك من خلال رفض سلوك التحكم المخزني الذي يعيق التقدم ويكرس مزيدا من التراجعات. والخلفية المؤطرة لهذا التحالف مستلهمة من بعض الملكيات الديموقراطية الغربية التي يسود فيها الملك ولا يحكم. أي أن الأفق السياسي الذي يعد المطلب الأساسي لهذا التحالف اليساري هو الوصول إلى ملكية برلمانية. وقد كان هذا المطلب دائما جزءا أساسيا في خطابات وأدبيات اليسار المغربي، لكن أحكام السياسة وقواعدها أدت إلى إحداث شرخ عميق في الجسم اليساري منذ تجربة التناوب التوافقي التي أوصلت حزب الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية إلى تحمل المسؤولية الحكومية. لذلك كانت تداعيات ونتائج هذه التجربة بمثابة شهادة وفاة للخطاب اليساري المشاكس عمليا. ومازالت محاولة لملمة الجراح عصية على التحقق حتى الآن على الرغم من أن مختلف قوى اليسار تنهل من نفس المعين. لذلك فإن الإعلان عن الفيدرالية قد لا يكون له أي تأثير يذكر مادام الممثل "الشرعي" لليسار المغربي لا يتفق مع رفاقه الغاضبين، وهو ملتزم بقواعد الممارسة السياسية الحالية بدون تحفظ.
مكونات الفيدرالية ترحب بكل " الأحزاب التقدمية الديموقراطية" إذا رغبت في الإنضمام إلى مشروعها. وهذا يعني أن حزب الإتحاد الإشتراكي من بين المعنيين بهذه الدعوة، لكن مشكلة اليسار في المغرب اليوم تتجاوز مستوى الشعارات الإيديولوجية والوفاء لروح الإشتراكية ومبادئها الإجتماعية. إنها تتجلى بالأساس في تواضع حضوره الواقعي وفي ضعف قدرته على تأطير الشارع المغربي. حيث يكاد يكون هذا الحضور مقتصرا على نخبة تعيش وتتبنى هموم الشارع لكنها لا تمتلك الأدوات اللازمة للتعبئة، حيث بدا ذلك واضحا في المآلات التي انتهت إليها حركة 20 فبراير التي كان النفس الثوري اليساري حاضرا فيها بقوة، لكنه تلاشى بعد الإستفتاء على دستور 2011. مشكلة اليسار تتجلى أيضا في غياب أرضية مشتركة ومتوافق بشأنها بين الفرقاء المنقسمين إلى تيار مهادن ومنخرط في اللعبة السياسية بما لها وما عليها، وتيار آخر متردد بين المقاطعة الجذرية والمشاركة الحذرة. لذلك يبدو تأثير اليساريين في الشارع محدودا إذا استثنينا الحضور المحتشم للنقابات العمالية بين الفينة والأخرى.
وبما أننا بصدد مناقشة دلالة وتأثير خطوة اندماج الأحزاب الثلاثة في إطار فيدرالي وإمكانية توسع هذا الإئتلاف، يستوقفنا التحالف الأخير بين الأذرع النقابية لقوى اليسار وتشكيلاته، ويتعلق الأمر بالكونفدرالية الديموقراطية للشغل والفيدرالية الديموقراطية للشغل والإتحاد المغربي للشغل، وهي النقابات التي قدمت مذكرة مشتركة في إطار الحوار الإجتماعي مع الحكومة، ومازالت ملتزمة ببرنامج نضالي مشترك في مواجهة التعنت الحكومي. وعلى الرغم من الأهمية الكبرى التي يحملها هذا التنسيق الثلاثي بالنظر إلى قيمة النقابات المذكورة ورصيدها البشري في تمثيليتها للطبقة العاملة، فإن الخلافات السياسية بين شركائها تنذر عاجلا أم آجلا بإنهاء هذا التحالف. ولا يتعلق الأمر بالخلاف المعروف بين الإتحاد الإشتراكي وباقي التشكيلات التي شقت عصا الطاعة الإتحادية فحسب، بل يظهر أيضا في الخلافات المعلنة داخل الكونفدرالية الديموقراطية للشغل مثلا بين حزبي المؤتمر الإتحادي والإشتراكي الموحد في تمثيلية كل منهما في الأجهزة المركزية للنقابة. فقد أصبح العمل النقابي مرتبطا بمزاجية الخطاب السياسي لهذا الطرف أوذاك. حيث كانت هذه الحسابات السياسية الضيقة سببا مباشرا في إضعاف العمل النقابي وتراجع الإقبال على الإنخراط في النقابات خلال المرحلة التي عرفت بالسلم الإجتماعي. ومازالت تقف كعائق أساسي أمام إمكانية بناء قطب نقابي قوي يدافع عن حقوق الطبقة العاملة ويصطف إلى جانب الفئات الضعيفة ويحرص على تحقيق العدالة الإجتماعية، ويهيئ التربة اللازمة لنشر قيم اليسار في الشارع والتشبع بأفكاره.
إن اليسار المغربي يبدو اليوم إسما على غير مسمى، وإذا كانت الفيدرالية الجديدة تعبر عن الرغبة في جمع الشتات ولم الشمل، فإن أفضل ما يمكن أن تحققه في هذه المرحلة هو محاولة التقليص من مشهد البلقنة الحزبية التي تعرفها بلادنا. أما على مستوى الشارع فإن خطاب اليسار لا يعرف طريقه إلى الآذان والقلوب والعقول، لأنه يبدو متعاليا عن الواقع، ولا يمتلك الأدوات اللازمة لشرح أفكاره ورؤيته السياسية والإجتماعية والإقتصادية، وذلك بالرغم من أنه يتبنى نظريا هموم الناس ومشاغلهم. فالواقع المغربي ليس مهيأ لاستيعاب خطاب يتحدث بلغة الثورة، لكنه عاجز عن إحداث ثورة في أساليب تفكيره وغير قادر على تجديد خطابه السياسي وفرض نفسه في وجدان الشارع وروحه.
محمد مغوتي. 26 – 03 – 2014.
التعليقات (0)