لم أنظر يوما إلى البادية نظرة شاعر منبهر بجمال الطبيعة الكامن في خرير مياهها وغناء عصافيرها، وحللها المتغيرة من فصل لآخر، فأستمد من كل ذلك مادة شعري، وأستلهم من موسيقى الطبيعة موسيقاي التي أسكبها على فني فيزداد نضارة ويتدفق في شرايينه نسغ الحياة، ولا نظرت إليها نظرة الفيلسوف الباحث عن الحكمة، فأنصرف عن جمودها إلى صمتها المحفز للتأمل واستكناه حقيقة الوجود، ولا نظرت إليها نظرة العالم الذي يجري التجربة تلو الأخرى عساه يضع يده على قانون لتفسير ظواهر الحياة العجيبة، فينسيني زخم الظواهر قساوة حياة البدو، وإنما نظرت إليها نظرة ملاح أضناه الإبحار، فراح يجدف على غير هدى باحثا عن يابسة تنهي عذابه، فخاب أمله إذ رسا بجزيرة لا أثر فيها لما يأنس الناس به عادة، هكذا قضيت زهرة شبابي في البادية لا يسليني شيء عن جمودها القاتل، وهدوئها الممل، بيد أنني ما لبثت أن تكيفت مع دنياي الجديدة وإن كنت في أعماقي لا أحبها ، وما هو إلا أن أمضيت شهورا خلتها سنوات عديدة حتى أبدعت لنفسي أسلوبا غريبا في التسلية، فبالليل أتفرج في مخيلتي على كل المواقف الطريفة في حياتي فأضحك ملء فيّ ، كنت أنفق الليالي ذوات العدد في سمر فردي، وبالنهار أستمتع بشغب الصبية أيما استمتاع، كان ملح الحياة بالنسبة لي.
أذكر يوما أنني ضبطت أحد الصبية يسرق الطباشير، فأصر على أنه لم يفعل شيئا واجهته بأنني أمسكته متلبسا بالجرم المشهود، ففغر فاه، ولم يحر جوابا، كان أبلها وقد تذكرت أنني سألته من قبل عن اسمه فنسيه وبعد جهد جهيد ذكر لي اسم زميله في الطاولة، قلت لنفسي إنه أغبى من أن يسرق لوحده، وبعد أن سألت زملاءه في القسم، دلوني على الرأس المدبر، جني صغير طالما اشتكى والده من شغبه، فمرة ضبطه يذبح الفراخ الصغيرة ويدفنها، وأخرى وجده يحمل قادوما يكسر به سيقان الفول المزروع بجوار البيت ويعيد غرسه في التربة، فلا تمضي أيام حتى تصفر أوراقه، وداخل القسم كان يسرق أقلام التلاميذ. أذكر أيضا ذلك الصبي "عثمان" الذي لا يضع محفظته التي تفوقه حجما عن ظهره مخافة أن يسرقه أحدهم، يرتدي سريدة سوداء وسريلا رماديا وحذاءا رياضيا صيفا وشتاءا كلما طلبت منه إنجاز واجب ما خط خطوطا متشابكة ودوائر متداخلة فإذا سألته أجاب والبسمة لا تفارقه "أرسم طفلة"... ذات مساء طلبت من التلاميذ سؤال أمهاتهم عن إمكانية بيع الخبز لي فتدخل "عثمان" ليسعفني بالحل: آ السي إذا أردت سأبيعك خبزي التي أحصل عليها من المطعم بدرهم، ثمنها في السوق يصل إلى درهم ونصف، وإذا شئت بعتك حصتي من السردين أيضا، ضحكت كثيرا لعفويته.
لم أحتج بعدها لشراء الخبز من "عثمان" فقد أمطرني السكان بالخبز ضنا بسمعتهم أن يلحقها عار بيع الخبز لضيف ثقيل فرضته عليهم ظروف خارجة عن إرادته وإرادتهم، وغير "عثمان" درس عندي "مراد" كان مختلفا عن باقي الأطفال وقد أوصاني والده به وقال بأنه لا يرغب في أكثر من تكسير حالة العزلة التي يضربها هذا الصبي حول نفسه وقد تركته لعزلته زمنا، لم يكن يتجاوب مع محاولاتي المتكررة لإنطاقه إلى أن جاء اليوم الذي ثرت فيه في وجه: إما أن تكتب الجملة المثبتة على السبورة وإما أن تنال عقابا قاسيا، وإذا به يصرخ مستنكرا: آ السي هذا الضرب لا يصلح إلا للبقر، كاد يغمى علي من الضحك، بينما راح "مراد" يبحث عن مخرج من أزمته فقال" آ السي دعني أطابق أصابعي مع أصابعك، إذا كانت أصابعك تكبر أصابعي فلا تضربني، وبحركة مفاجئة أخذ قلما ودون الجملة بخط جميل، صار فيما بعد أكثر التلاميذ نبوغا فسميته "أينشتاين" تفوق على كل أقرانه ولم يعد طفلا منعزلا فقد فاجأني مرة بجمع زمرة من التلاميذ في الساحة وبتقليده لمشيتي وطريقة كلامي.
أما "فريدة" الرائعة فكانت تعبث بكل شيء، ولم تكن مسجلة ضمن قائمة الأطفال المتمدرسين لكنها كانت دائمة الحضور، لا تقيم وزنا لنظام، ولا تخيفها عصا المعلم تجرني من ملابسي مرة وتبعثر وثائقي أخرى.
شغب هؤلاء وغيرهم أذاب جزءا من جليد الملل الذي جمد حياتي، ولكم غبطتهم على براءتهم وتحررهم من كل مسؤولية ولكم تمنيت لو أستطيع إخراج الشغب الكامن بداخلي دون أن تنهال علي عصى المسؤولين الكبار وكرابيحهم لكنه حلم دون تحققه ولوج الجمل في سم الخياط، وأمل دون معانقته أن أغمض عيني وأفتحها وقد صرت في بلد غير هذا البلد ،بلد يعيش فيه الكلب في نعيم لا يحلم به الملايين من بني جلدتي.
التعليقات (0)