- ما بعد الضيافة
بعد ثلاثة أيام من " الضيافة " القذرة ، تقرر توزيعنا على العنابر ... يضم السجن أربعة أحياء ، وهي الحي العربي وحي التوبة والحي الجديد ، المخصص عادة للرعاع ، والحي الفرنسي الذي خصص أحد ممراته لعلية القوم ، قيل لي أنه منذ الاستعمار الفرنسي أفضل حالا من الحي العربي ، الأ ول كان يضم الفرنسيين والثاني يضم المغاربة ...تم إرسالي إلى العنبر رقم واحد من الحي العربي ، بمجرد ولوجي للعنبر شعرت بما يشبه الدوار ليس هناك موطئ قدم فارغ في الداخل .. بدأت المساومة مع عريف العنبر من أجل الحصول على مكان للنوم ، وكأنني مقبل على كراء غرفة في فندق مع فرق بسيط ففندق الحي العربي تنقصه خمس وعشرون نجمة ... تم الاتفاق على مبلغ مائتين وخمسين درهما ، فأفزغوا لي مكانا يمين الباب وأمدني سجين بغطاءين أسودين من الأغطية التي توزعها الإدارة على النزلاء مقابل علبة سجائر ، تنبعث منهما رائحة خانقة ...
جلست القرفصاء بعدما فرشت الغطاءين محاولا فهم مايدور حولي ... كل ما استطعت اكتشافه أن الأمنكة المحادية للحائط ، وأن وسط العنبر أو "لاكار" خصص للباقين الذين لا يملكون مكانا ، وعبثا حاولت معرفة الطريقة التي سينام بها ذلك الكم الهائل من الناس لم أهتد إلى حل . في تمام الساعة العاشرة ليلا انطلق عريف العنبر ومساعده في عملية ترتيب النزلاء للنوم كدست مجموعة من الجثث داخل المرحاض ، ووضع الآخرون على جنوبهم في وسط العنبر ، بحيث يلتصق كل نزيل بزميله في وضع يجعل رأس كل واحد مقابل رجلي الآخر الذي يليه ... امتلأ كل شبر فارغ في العنبر باللحم الآدمي ، ومع ذلك ظل ثمانية نزلاء واقفين ... وضع خمسة من الباقين فوق الجثث الملتصقة وسط العنبر وراح عريف العنبر ومساعده يدوسان عليهم بأرجلهما لتستوي الأجساد جميعها على الأرض أما الثلاثة الآخرون ، فنام أحدهم في المكان الذي كانوا يقفون فيه ، وفضل اثنان الإتكاء على سور قصير مواز للمرحاض ورجلاهما فوق جسد صاحبهما ... كان المنظر مريعا لدرجة لاتتصور ، فلو أن أحد النزلاء رفع رجله أو يده للأعلى لما كان في وسعه أن يعيدها لمكانها ... عندما انتصف الليل اختلط الحابل بالنابل وتشابكت الأجساد مكونة طبقتين إحداهما في الأسفل والأخرى في الأعلى ...
لم يكن مكاني يتجاوز شبرا ونصف الشبر جهة العرض ومترا وخمسيين سنتيمترا طولا لكنني حمدت الله كثيرا لأنه بإمكاني أن أحرك رجلي ويدي ورأسي بكامل الحرية كلما أحسست بالعياء ... كان الجو باردا وتساءلت بخوف : ماذا سنفعل إذا حل الصيف ؟
عمل هيئة الإنصاف والمصالحة كان قد بلغ ذروته ، وجلسات الاستماع تشد إليها الملايين من المشاهدين في الداخل والخارج ... وخلصوا إلى توصية كذا وتوصية كذا وماذا يعنيني من أمر هذه الأحاديث الفارغة ؟ لسنا غير حشرات ضارة يجب سحقها كما سيخبرني مدير السجن يوما .... عانيت الأمرين في سبيل تعلم طي الأغطية ولفها لتتخذ شكل سرير بحجم المكان المخصص لي ، ولأنني حديث عهد بالسجن غالبا ما كان جيراني يستغلون الفرص لتقليص مكاني بأصبع أو أصبعين دونما ألتفت لذلك ، ستعلمني الأيام فيما بعد حجم الخسارة التي تحل بالسجين لدى تفريطه في هذا الحيز الذي يبدو تافها ، لم تكن المعانات لتقف عند هذا الحد اكتشفت وجود جيوش من القمل منذ الوهلة الأولى ، وسيصير القمل عدوي اللدود الذي سأحاربه على مدى عام ونصف في الحي العربي ، علمني "زيكو " أن القمل ثلاث أنواع ، ولكل نوع طريقته الخاصة في امتصاص دماء النزلاء تماما مثل رهط من الحراس الغلاظ الشداد ... هناك "بومليس" وهو نوع صغير أملس ، وهناك "مركب خيوا" الذي يشبه القطار وهناك القمل الأسود الذي يترك بثورا واضحة على الجسد حرمني القمل من النوم في الأيام الأولى فشكوت ذلك "لزيكو" أوصاني بقراءة الجريدة كل صباح وقبل النوم في الأيام ، لم أفهم كلامه ، فلا علاقة تربط بين الجريدة وجحافل القمل ، نزع "زيكو " ثيابه قطعة قطعة كصفحات جريدة وراح يجيل بصره في ثناياها وكلما عثر على قملة قتلها ، أحصى ثلاثين قملة في ثيابه بالتمام والكمال ...قلدته زمنا إلى أن صرت صحافيا لامعا ... لايتوقف السجناء عن التمني واختراع القصص التي تخلصهم من العذاب على مستوى الخيال فقط ، فمن القول بقرب استفادتنا من عفو شامل إلى القول بأن إدارة السجون قررت إيجاد حل لمأساتنا ... هذا يعضد قوله بما سمعه من التلفاز محورا مضمونه ومضيفا إليه من عنده وذلك يدعي أن أحد أقربائه لا يفارق الوزير وقد نقل إلى أسرته هذه الأنباء التي تداعب خيالنا كفقاعات الصابون ، لا تلبث إلا يسيرا حتى تتلاشى ، يصرخون كالمجانين ألم يقولوا في الأخبار أنهم سيسعون إلى تحسين أوضاع النزلاء وأنهم سيعملون على إعادة إدماجهم في المجتمع ؟ لا يمكن أن يكذبوا في الأخبار ... انظر ها قد تأكد ما أخبرتكم به ، لقد قالوا للتو أنهم جادون في تجاوز أخطاء العهد القديم ما معنى ذلك ؟ يعني أن السجون لن تضل على هذا الشكل ...ألم تروا كيف تجول المدير اليوم بين الأحياء ؟ لا بد أن الوزارة قد راسلته في هذا الشأن ... هممت أن أقول أن الربط بين هذه الأشياء كالربط بين دوران الأرض وبين انبعاث رائحة العفن من عنابر الحي العربي ، ثم أمسكت لساني ، فلا شيء أسوأ من أن أن يعيش المرء دون أن يحلم وهو مستيقظ في سجن عين قادوس .
الولوج إلى المرحاض كان مطلبا غاليا في عنبرنا ، نقف في صف طويل يصل أفراده إلى الأربعين ، وإذا حدث وتأخر أحدهم شنفوا مسامعه بكل أنواع السباب والتعليقات الساخرة ...كان الله في عونها ولادتها عسيرة ... وماذا سننتظر من آدمي يفطر بالعدس ؟؟ .. وغالبا ما كان الواقفون في الصف يقتلون الوقت في الحديث عن ماضيهم الجميل حيث كان الواحد منهم يتبول ويتغوط بكامل الحرية ويخرج من المرحاض دون أن يجد من ينتظره في الخارج ... ولكن السجن للأسف تغير للأسوأ .. لأتجاوز محنة المرحاض صرت أستفيق منذ الخامسة صباحا ، وفور خروج النائمين بالداخل ألج مباشرة لكي أتجنب الصف ومتاعبه ...
كما نخرج للفسحة مرتين في اليوم ، الأولى تمتد من التاسعة صباحا إلى الزوال ، والثانية تمتد من الثالثة بعد الزوال إلى السادسة ، والخروج إلى الفسحة من جحيم إلى جحيم ... في الفسحة نجد أنفسنا وجها لوجه أمام الذئب وهو حارس قديم شرس ، لا يترك فرصة تمر دون أن يبرهن على أنه جلاد استثنائي ، إذا توقفنا لنلتقط أنفاسنا اللاهثة من كثرة المشي في جميع الاتجاهات ، طرق مسامعنا صوته اللعين آمرا تحركوا يااولاد القح... فنهب مسرعين مخافة إثارة سخطه ، وإذا مررنا بمحاذاة باب الإيقاف التي تتوسط ساحة السجن وتفصل بين المعقل ومرافق الإدارة أسمعنا سيلا من الشتائم واندفع إلينا بعصا لا تفارق يده يطوح بها يمينا وشمالا ، لا يهمه من أصاب ولا أين أصابه ... نطرد من ساحة السجن الكبرى نحو ساحة الحي الصغرى ، حتى إذا طاب لنا المقام بها أخرجونا منها مرة أخرى ... وبين الذئب في الخارج وابن آوى الذي يعرفه كل مرتادي الحي العربي جيدا كنا نتنقل كالأنعام ، بل إنني أجزم أن الأنعام كانت أفضل حالا ، فلدى أقربائي بالبادية لم أرها مكدسة بذلك الشكل المريع الذي كنا عليه في عنابرنا ، ولا رأيتها تجلد دون سبب...تعرفت في العنبر تعرفت على أصدقاء جدد "زعبول" و "تيتي " و سامبا" كل واحد منهم يحمل على أكتافه قصة أثقل من جبل "العياشي " تعلمت منهم أشياء كثيرة مما يلزمني للحياة داخل السجن ، رغم مظهرهم الذي يوحي بالقسوة كانوا أناسا طيبين ، بعد أشهر قليلة ، خلتها عقودا ، بدأ اليأس يتسرب إلى نفسي وتردد في ذهني صوت مسؤول أمني من أيام الولاية ..."إما أن تشتري حريتك أو تقضي بقية أيامك خلف القضبان "... ترى هل سأقضي بقية عمري هنا ؟؟ نفذ صبري مامن إنسان يستطيع تحمل كل هذا ...ما من إنسان...
التعليقات (0)