أوسلو في 16 يوليو 2009
أولويات حقوق الانسان تختلف من شخص إلى آخر، والاختلافات تنسحب على الشعوب، والحكومات، والأجناس، والجماعات، والطوائف، والمناطق الجغرافية، والأزمنة التاريخية، وغيرها ..
لو أنني أمسكت ورقة وقلما الآن لأضع الأولويات فلا ريب أنني سأعيد ترتيبها مرات كثيرة وفقا لرؤيتي الآنية، أو حالتي النفسية، أو الانفعالات الداخلية، أو الظروف الخارجية، أو الضغوطات الذاتية التي يتعرض لها العقل والنفس والعواطف، وفي هذه الحالة قد يتراجع العقل إلى الخلف قليلا، وربما تتقدم العاطفة حاملة منطقا أحسب حينئذ أنه الحق، وربما أضع ترتيبات لا يوافق على أكثرها أكثر الناس ولو عدلت، أو زعمت أنني عادل!
لو طرحت السؤالَ على قبيلة في تشاد فسيُجمع كل أفرادها على أن الأولوية للماء الصالح للشرب، وإذا طرحت السؤالَ على رجل أعمال يملك عدة فنادق في شرم الشيخ فسيردّ على الفور بأن حرية انتقال رؤوس الأموال والاعفاء من الضرائب لعشر سنوات لهما الأولوية، وإذا سمعك عضو في جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلن يتواني في التمسك بأهم الثوابت وهي اخفاء المرأة بقدر المستطاع عن الرجل ولو كانت داخل سبعين مترا من الصوف الثقيل الأسود!
سيقول لك رجل استخبارات عربي بأن أهمية الأمن تأتي في المقدمة ومنها احترام كل من تثقل كتفيه نجومٌ ودبابير وصقور ونسور، وستقول لك ربة الأسرة بأنها لا تكترث إلا باكتفاء أولادها ماديا حتى نهاية الشهر، وستختلف الردود مئات المرات وفقا لرؤية صاحب كل منها: من أهمية اللحية إلى الافراج عن المعتقلين الأبرياء، ومن صرف معاش الأرملة قبل الخامس من الشهر إلى مساهمة الدولة في القضاء على العنوسة، ومن الاشراف القضائي على الانتخابات إلى حرية نشر الكتب، ومن جواز سفر وعقد عمل في الخارج إلى محاكمة الضابط الذي مارس التعذيب، ومن المساواة بين طوائف ومذاهب وأديان المجتمع إلى علاج ابن أو أخ أو أخت أو والدة من مرض عضال.
كلما استطاع المجتمع احتضان أمنيات وأماني وآمال وطموحات وأحلام أفراد الشعب، اقترب من الخط الفاصل بين التقدم والتحضر .. وبين قيمة الانسان المكرَّم والمعزز و .. قيمته في عالم من القهر والقمع والمجاعة والفقر والبطالة والقسوة والغلظة والنفاق !
في ذهني ترتيب ما أنفك يتراقص صعودا وهبوطا، فيحل المركز الثاني مكان السابع، ويعود الثامن إلى الثالث، ويحتل العاشر مكان الخامس، لكن كرامة المرء في السجون والمعتقلات وأقسام الشرطة ومع الأمن والمحاكم العادلة والكلمة الحرة ظلت طوال سنوات امساكي بالقلم تقف منتصبة في المقدمة، وجعلتني أخسر الأصدقاء، ويتجنبني الزملاء، ولا أستطيع السفر لست عشرة دولة عربية أغضبت كتاباتي أسياد قصورها، فانتقل الغضب فورا إلى أصحاب اليونيفورم الذين يقومون بزيارة المواطن قبيل صلاة الفجر!
الحرية لمعتقل الضمير والرأي، مسكن لائق لكل أسرة، طعام جيد لكل فم، مياه غير ملوثة، مساحة خضراء تتنفس فيها الروح لتمنح الجسد قوة جديدة، انتهاء آخر أميّ لا يستطيع أن يقرأ رسالة من الدولة أو يكتب خطابا لأمه، إدارة سليمة وذكية وشريفة تنهي عصر الموظفين الموميائيين القساة، حرية دينية تجعل المواطن يتوجه إلى الله بارادة حرة وليس بعصا غليظة فوق ظهره، مساواة كاملة بين كل الأديان والطوائف والمذاهب، حرية الخروج من الوطن والدخول إليه ولو سبعين مرة في اليوم، معاش كريم لكل مُسِنّ، مستشفيات نظيفة، أطباء رحماء وممرضات لهن أجنحة ملائكة، أسعار مواد استهلاكية ضرورية لا تثقل كاهل الفقير، تذويب للفوارق بين الطبقات، رجال دين يعيشون العصر الحديث ويستخدمون عقولهم فينقلون المواطن إلى القرن الثاني والعشرين بدلا من اعادته إلى القرن السابع، وسائل اعلام تمارس المصداقية والشفافية والشرف والنزاهة، مشروع قومي ينهي كل قطعة بانجو وحشيش ومخدرات وهيروين مع علاج المدمنين الذين افترستهم وحشية مهربي وتجار السموم البيضاء، قضاء تام على العنوسة وانهاء آلام وأوجاع ملايين من أولياء الأمور في عالمنا العربي الذين تتحول دموع بناتهم إلى جمرات يتقلب الآباء والأمهات عليها، دواء لكل مريض، وطبيب يلهث إليك قبل أن تضع سماعة الهاتف فقيمتك الانسانية بين يديه، ضمان اجتماعي لكل من لا يستطيع أن يعول نفسه أو أسرته، ومئات .. بل آلاف من الأشياء التي يطاردني التفكير فيها عندما يأتيني الوطن، في يقظتي ومنامي، فأشعر أن الغربة ليست في الابتعاد عنه ولكن في حمله معي فلا أدري بعدها إن كنت أعيش هنا وأتنفس هناك، أم أنني خسرت الاثنين معا!
فجأة قفزتْ إلى الصدارة أولوية ما كان لها أن تتقدم صفوف المطالبات الوطنية لكرامة المواطن في عالمنا العربي لولا بضعة أيام قضيتها أوائل هذا الأسبوع في مستشفى ريكس هوسبيتالا بالعاصمة النرويجية أوسلو!
إنها العلاج المجاني والكريم والتام لكل مريض!
قلت لطبيبي الخاص ( لكل مواطن في النرويج طبيب ثابت يختاره بنفسه أو تختاره له الدولة ) بأنني أشعر بآلام في الرقبة ، وأن تورّما بدا ظاهرا في جانبيها. قام على الفور بعمل كشف مبدئي، وكانت يداه ترتعشان قليلا لأن ذهنه كان منشغلا باحتمال اصابتي بمرض السرطان.
اتصل على الفور بالمستشفى، وطلب كشفا عاجلا في القسم الجديد والمجهز بأحدث تقنيات الكشف ومعالجة الأورام السرطانية، ثم قام بعمل تحليل للدم لم يجد فيه شيئا يثير الاشتباه.
في الموعد المحدد تم الكشف الكامل فلم يعثروا على أي دليل، فعدت إليهم لتحليل جديد في خلايا الرقبة لعله يهديهم إلى معرفة المرض.
بعد شهرين من كل أنواع الكشف والتحليل، جاء موعدي مع طبيب جراح وهو الدكتور أولاف يتليند الذي استقبلني بحفاوة، وسألني عن مسقط رأسي، وبدأ يتحدث عن أن مكتشف كروية الأرض عالم ليبي كان يعيش في الاسكندرية.
قال لي بلهجة الخبير بأنه ليس هناك في جسدي أي أثر لمرض السرطان، وأن هذا تضخم في الغدة الدرقية مضت عليه سنوات دون أن أنتبه إليه، وأنه يفضل اجراء عمليه جراحية لاستئصاله، ولعلها تكون في نهاية الصيف، وسيجريها لي بنفسه.
طلبت منه أن يُعَجّل قدر المستطاع، فكتب في ملفي الصحي عن رغبتي في التعجيل بالجراحة.
بعد فترة قصيرة تسلمت ثلاثة خطابات من المستشفى: الأول بتحديد موعد العملية الجراحية، والثاني يسبقه وهو لعمل أشعة مقطعية لتسهيل الأمر على الطبيب الجراح، وبينهما موعد لبحث الحالة الصحية لي لتكون جاهزة قبل العملية تجنبا لأي خطأ في التخدير أو الحساسية أو ردود فعل الجسد غير المتوقعة حينما أرقد تحت مشرط الجراح!
في كل زيارة يكون هناك تحليل للدم، ويكون هناك جورنال، أي ملفي الصحي، كاملا على الكمبيوتر، فالدولة مؤسسات متكاملة ومتصلة ببعضها، ولعلك لن تكون بحاجة لشرح زيارة لطبيب أو عملية جراحية سابقة أو حساسية ضد دواء، فملفك الصحي مفتوح في دائرة الكترونية صغيرة لا يطلع عليه إلا الأطباء .
الطبيب المساعد قام في يوم بحث الحالة الصحية بكشف دقيق على أجهزة الجسم الذي سيكون بين ايديهم في خلال بضعة ايام: الأنف والأذن والحنجرة والجهاز التنفسي وتحليل الدم ونبضات القلب والضغط وأي دواء لمرض آخر قد يتصادم مع الجراحة، وشرح لي احتمالات الخطورة.
كان شابا عراقيا وسيما ومهذبا، وسألني بأي لغة أفضل الحديث معه! قلت باللغة النرويجية في وجود الممرضة السكرتيرة وبالعربية عندما نكون بمفردنا.
قال لي بأننا في العراق نقول للمريض بأن كل الأمور ستجري على ما يرام، وأن الأمر بسيط للغاية، ولن تكون هناك بإذن الله أي مضاعفات، أما هنا فلدي تعليمات من الادارة الطبية النرويجية أن نقول الحقيقة كاملة دون لف أو دوران ولو كانت صادمة، ثم أكمل شارحا لي الخطورة وهي خطأ من طبيب التخدير، أو نزيف داخلي غير متوقع، أو مكروه يحدث للحبال الصوتية بحكم اقتراب التضخم منها، ثم أردف قائلا: وهذا ليس ورما خبيثا أو حميدا، لكنها تغييرات حدثت في الغدة الدرقية جعلتها تتضخم إلى الداخل.
ثم قال لي بأن العملية ستجرى قبل موعدها بيوم واحد، والطبيب الجراح ماهر جدا وقام باجراء عمليات مشابهة مئات المرات، فلما سألت عن اسمه علمت بأنه جراح آخر غير الدكتور أولاف يتليند الذي ترك لدي انطباعا حسنا، وراحة نفسية.
سألت عن امكانية أن يجريها لي الدكتور أولاف يتليند، فقامت الممرضة بالاتصال به فورا قائلة بأن المريض يريدك أنت أن تجري العملية، فوافق على الفور شريطة تأجيلها يومين فقط!
في دقائق معدودة كان الموعد قد تغيّر، ورغبتي تحققت في اختيار الطبيب الجراح، وطاقم العملية تم تحديده مسبقا، ولم تبق غير أربعة أيام أستعد فيها نفسيا لفتح رقبتي، واستئصال ما يراه الطبيب الجراح ضروريا.
الرسالة تحتوي على كل التعليمات التي ينبغي لي تنفيذها قبل موعد اجراء الجراحة بنصف يوم، وأهمها الصيام عن الطعام والشراب قبل منتصف ليل اليوم الموعود، وفعلا كنت في المستشفى قبل السابعة من صباح الجمعة 10 يوليو.
هنا يصافحك كل من يقابلك للمرة الأولى حتى لو كانت ممرضة تعطيك مسكنات، أو مساعدا يرشدك إلى التعليمات ويضع أمامك ملابس نظيفة ومفتاحا لخزنة تضع فيها أشياءك الخاصة، أو ممرضة ستقود فراشك الوثير إلى غرفة طبيب التخدير.
صافحني طبيب التخدير، وبعدها بدقيقتين كنت بين أيدي ثمانية من ملائكة الرحمة: أربعة أطباء بمساعدة ممرضتين ومعهم طبيب التخدير وممرضة التخدير أيضا.
استغرقت العملية ساعتين ونصف تقريبا، ولما استيقظت كانت أمامي ممرضة سويدية تهنئني بنجاح الجراحة، ثم جاءت زميلة لها لتقود الفراش في ردهات المستشفى إلى غرفتي.
جاء الطبيب الجراح لتهنئتي، وقال لي بأنه رأي أهمية استئصال الجزء الأيسر والمتضخم جدا حتى يجنبني أي أدوية لاحقة إن قام باستئصال الجانبين، وكانت فرحتي غامرة لأن الحبال الصوتية سليمة.
الغرفة نظيفة وبها كل ما يحتاجه المريض، وعندما علمت الممرضة بأن الفراش لم يكن بالراحة المطلوبة، أسرعت على الفور وجاءت لي بفراش يعمل بالريموت كونترول، صعودا وهبوطا وتعديلا حتى تكتمل راحتي.
كان عالما جديدا أزعم أن من وضع الخطوط التفصيلية واللمسات الفنية للمستشفى لم يترك صغيرة أو كبيرة إلا وضعها في هذا المكان الذي لا تدري إن كان فندقا راقيا أم إعدادا نفسيا لشفاء المريض قبل أن تمسه يد الطبيب!
فجأة وأنا في قمة سعادتي هبط اكتئاب شديد كأنه جبل يثقل صدري، فتدفقت أحزان الدنيا كما يفعل الاعصار بكومة قش لو هبت عليها ريح خفيفة لبعثرتها في كل مكان!
وماذا عن الآخرين في عالمي العربي؟
ملايين يعتبرون عملية غسيل الكلى رفاهية وكأنك تعرض على جامع قمامة أن يشارك بيل جيتس قصره ، ومستشفيات تعج بالصارخين ألما،ً وأطباء تتسع ابتسامة كل منهم وفقا لسعة جيبك، ومع ذلك فسيقول قائل بأن المستشفيات الخاصة في عالمنا العربي والاستثمارية تجد فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وهذا ليس صحيحا بالمرة.
العلاج يبدأ من هنا .. من الشعور بأنك ابن الوطن، وأن السلطة التي تحكمك خادمة لديك فتقوم بتوزيع ايرادات الدولة بعدالة تامة، وأن حاكما ينام ملء جفونه وأحد أبناء رعيته لا يجد ثمن دواء، ولا يستطيع اجراء عملية جراحية في القلب أو الرئتين أو الظهر أو العينين ، فليتبوأ هذا الحاكمُ مقعده من النار!
قضيت أيامي في المستشفى لا أعرف إن كنت فرحا بنجاح الجراحة أم تعيسا بالمقارنة مع أبناء قومي.
في الوطن العربي ثروات ونفط وممرات مائية وأراض زراعية وتصدير واحتياطي عملات أجنبية وتحويلات من الخارج ودعم مالي من الدول الأكثر ثراء ومليارات تدرها السياحة في الوقت الذي تهتز السماوات العلا بنحيب الملايين الذي يعتبرون أن ملك الموت أقرب إليهم من رفاهية العلاج.
خرجت من المستشفى ولم أدفع كرونة واحدة، فأنا دافع ضرائب يعيش منذ 32 عاماً في كنف دولة تتعهد لي حكومتها بالحفاظ على كرامتي، أمنا وحرية وسلامة وعلاجا وتعليما وتأمينا وضمانا اجتماعيا، فكل ايرادات الدولة عائدة للمواطن في أي صورة من الصور.
أتذكر يوم أن طلبت السيدة جرو هارلم برنتلاند رئيسة الوزراء من البرلمان النرويجي لأكثر من عشرين عاما خلت حارسا شخصيا لها، فقامت الدنيا ولم تقعد، وعاتبها أعضاء كثيرون في البرلمان لأنها تريد أن تتميز، فنحن دولة لا يحرس فيها أحد .. أحدا!
ثم كيف تتجرأ رئيسة الوزراء وتطلب حارسا سيكلف الدولة مبلغا سنويا، وانتهى النقاش لصالحها لأنها امرأة تحتاج في تنقلاتها إلى حارس واحد فقط لحمايتها من أي موقف حرج!
أيامي في المستشفى جعلتني أضع العلاج المجاني والكريم والتام في صدارة أولويات التقدم والتحضر والانسانية.
في عالمنا العربي تستفتي طبيبة شيخا عن حرمة توسعة فتحتي النقاب حتى ترى مريضها بوضوح، ومع ذلك ففي مستشفياتنا الحكومية لا تميز أحيانا قبل الجراحة بين المريض و .. خروف العيد، ولا تعرف الفارق بين المشرط وسكين الجزار، ونظافة فراشك تحددها الاكرامية، أما طهارة الحقنة فحدّث ولا حرج.
في مستشفياتنا الحكومية يجلس موظف أمام سجل مكتوب بخط اليد، ويطرح عليك عشرين سؤالا وأنت تنزف، ثم تسدد مبلغا استدنته من جارك أو صديقك أو سلفة من العمل فالموظف يعرف أن الداخل إلى مديرية الأمن أو المستشفى ينبغي أن يقوم بتوديع أهله، فالدخول هو نصف الطريق إلى الموت!
أيامي في المستشفى جعلتني لا أرى عدلا أو انسانية أو كرامة أو وطنية أو دينا أو صلاة أو رحمة إلا أن تكون مرتبطة بالعلاج المجاني حتى لو كانت جراحة عاجلة تكلف الدولة نصف ما ينفقه أحد أثريائها على تجهيز حمام السباحة المودرن الخاص داخل فيلته!
لو أرسل الله نبيا الآن وشاهد فاجعة المرضى والمتألمين والموجوعين لكانت أولى أوامر العلي القدير العلاج .. العلاج .. العلاج فهو الشرط الوحيد للعبادة الصحيحة، والدولة التي لا تعالج أبناءها، حكامُها بعيدون عن الله ولو صلوا وصاموا.
تذكرت وأنا صغير جارتي التي كان يصلني صراخها طوال الليل، وآلام قلبها لو تم توزيعها على سكان مدينة لأوجعتهم جميعا، وبعد عشر سنوات من صراخ مستمر انتقلت إلى المستشفى، ثم لم يمر وقت طويل حتى استراحت إلى الأبد في سن السادسة والعشرين فالموت كان أقصى أمانيها كما هو اليوم يمثل رفاهية في التمنيات لدى ملايين من أبناء عالمي العربي الممتد من الماء .. إلى الماء!
الادارة السليمة والذكية والشريفة والمخلصة تستطيع ولو بموارد محدودة من وضع خطة قومية عاجلة يكون فيها الملف الصحي لكل مواطن مُخزنا في جهاز كمبيوتر، وتستقطع السلطة من الميزانية العامة والتبرعات أموالا لا يقترب منها أحد، وتبني مستشفيات ، ومصانع للدواء، وشركات لاستيراد ما تعجز عن توفيره، وتكون، كما في النرويج، زيارة الطبيب لأي طفل تحت سن 12 عاما مجانا، أما العمليات الجراحية فكلها عاجلة، وأي يوم يمر يصرخ فيه مواطن رافعا يده إلى السماء فكل صرخة تنتقص من شرعية السلطة الحاكمة.
ليس لي فضل في أنني التقيت بملائكة الرحمة خلال أيامي في المستشفى، ولكنها المصادفة فقد كان من الممكن أن أكون مريضا ينزف حتى الموت في بلد عربي لأن الطبيب المسؤول عن وردية الليل لم يأت بعد، أو أن غرفة الدواء ليس بها حقن للتخدير، أو أنني لم أتمكن من توفير المبلغ المطلوب في ساعة متأخرة من الليل، أو أنني في قرية لا تعرف الحكومة موقعها على الخريطة، أو أن بعض أعضاء جسدي قاموا بسرقتها تحت التخدير!
خلال أيامي في المستشفى كانت كل ممرضة كأنها طبيب ماهر، وتستطيع أن تجيب على كل الأسئلة أو تعتذر بلطف حتى يأتي الطبيب.
لن أتحدث عن النظافة، والتجهيزات في الغرفة وخارجها، وكانت كل ممرضة تتسلم ورديتها تأتي لتصافح باليد، وتؤكد لك أنها رهن اشارتك خلال الساعات السبع القادمة، فتظن أنك واحد من المميزين، لكن الحقيقة أن كل مواطن يمثل حالة من التمييز، فالدولة كلها، وليس فقط الطبيب أو الممرضة، رهن اشارتك، وتلك هي لعمري المواطنة التي بحثت عنها في عالمي العربي فأعياني البحث.
العلاج المجاني يحتاج لقدر من الانسانية، وقناعة المواطن أنه حق له، وإيمان السلطة أنه واجب عليها.
أيامي في المستشفى قلبت أولوياتي في ترتيب قائمة حقوق الانسان، فأضحيت على يقين من أن تخفيف آلام البشر، وتوفير سبل العلاج المجاني، واعتبار كل من يحتاج لعملية جراحية على وشك الدخول إلى غرفة العمليات حتى لو أنفقت الدولة من ميزانية كل المؤسسات الأخرى.
التقدم والتحضر والانسانية والتمدن تبدأ كلها من هنا .. من حيث يستقبلك طاقم طبي كامل كأنهم يعملون لديك، وتشعر بأنك صاحب الأرض والبلد، وأن الحكومة خادمة تحت قدميك، وأن العلاج المجاني لكل مواطن ليس مِنّة أو فضلا أو مكرمة من السيد، لكنه حق لك كالماء والهواء.
لا أريد أن اسهب في الحديث خشية أن يصيبني جنون فأدعو إلى عقد مؤتمر قمة عربي لجعل العلاج المجاني حقا لكل مواطن إن أخلت أو نكثت به حكومة فقد انتهت شرعيتها الحاكمة.
أيها المرضى والموجوعون والمتألمون جهرا أو صمتا،
كنت معكم خلال أيامي في المستشفى، ولازلت أفكر فيكم ولم أفك الخياطة في رقبتي بعد، كأنني أراكم جميعا رؤي العين، وقد أضفتم إلى قلمي جمرات جديدة من الغضب على كل من كان باستطاعته تخفيف آلامكم ولم يفعل.
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو النرويج
Taeralshmal@gmail.com
التعليقات (0)