أوهام الطائفية العقيم في ساحة التعليم
مصعب المشرف
15 نوفمبر 2020م
البيان شديد اللهجة الذي أصدرته هيئة شئون الأنصار وطالبت فيه رئيس المجلس السيادي والوزاري بإقالة د. عمر القراي مدير المناهج أحدث صدمة وسط الكافة . وجعلهم يقرعون أجراس الإنذار من مغبات ظاهرة الإبتزاز الجديدة التي برزت على يد حزب الأمة القومي لتملأ بالإرهاب الطائفي الفراغ الإرهابي الديني الذي تركه الكيزان يعد سقوط دولتهم المدوّي خاوية على عروشها.
وهذا في غياب الكيزان من جهة والغياب الملحوظ لآل بيت الميرغني وطائفة الختمية من جهة أخرى. وهو ما منح حزب الأمة القومي الفرصة المواتية ليستأسد ويتنمّر ويتتطوّس ، ويعلن نفسه وصياً على العقول والأفكار والهيمنة على القرارات والتلويح بالإنسحاب والتجميد والتفريغ ..... ولكن هيهات. فالليلة ليست شبيهة بالبارحة ؛ ولن يصادف من القوى الجديدة المعاصرة إستعداداً للرضوخ والآذان الصاغية.
لقد مضى ذلك الزمان الذي كان فيه حزب أو طائفة أو مجلس قيادة إنقلاب أو فرد من فصيلة "القائد الملهم" يستحوذ على أبواق الإعلام. ويعمل معاوله في عقول الغير ويصادر أنفسهم لنفسه ومصلحته ، سواء بالوراثة أو بإسم الدين أو رايات التقى والقدسية والعصمة التي لا تكون إلاّ لنبي.
وبسبب أن الأحزاب والطوائف القديمة قد جاءت إلى ثورة ديسمبر متأخرة ولحقت بأواخر الصفوف المتراصة . وانضمت إليها مرغمة في الثواني الأخيرة . ثم نكصت على عقبيها واقتلعت خيماتها وطوت سجاجيدها وسحبت فلذات أكبادها الحلوة من أرض الإعتصام . قلا تزال هذه الأحزاب والطوائف تائهة هائمة على وجهها . لا تعي أنها قد أصبحت غريبة الوجه واليد واللسان . وعديمة الأثر في ساحات شباب السودان.
من جهة أخرى مضى ذلك الزمان واقعا ملموسا فرضته ملايين الحسابات في صفحات التواصل الإجتماعي التفاعلي . وهذا ليس مجرد وصف بالكلمات . ففي الزمان الغابر كان الأسلوب المتبع هو السيطرة بالنفوذ والمال والتهديد والوعيد بالإقالة من المنصب والطرد من الوظيفة العمومية والخاصة والصحيفة والإذاعة والتلفزيون . ولكن اليوم فقد أصبح معظم الشعب كأصحاب المناصب والنفوذ ودور النشر وصحافة وتلفزيون وهنا أمدرمان. وأصبح من المحال السيطرة على هذه الملايين .
وإذا كان حزب الأمة وشئون الطائفة يظنان أن وزير التربية والتعليم أو مدير المناهج محروم ومحجور عليه إتخاذ ما يراه مناسبا من قرارات ، سواء من خلال إعمال عقله في حدود وظيفته وصلاحيته أو من خلال إستشارة لجان من الخبراء والمختصين في مجال التربية والتعليم والمناهج الدراسية ؛ بما يصلح لتربية وتخريج جيل معرفي معافى مدرك واعي فاعل غير تابع ولا خاضع ولا ذليل ومعاق ذهني ، أو سجين أوهام وأساطير وإسلام سياسي وطائفي . وبطولات زائفة ومسميات لا تتماشى مع الواقع وكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والحديث النبوي الشريف . فإن عليهم مراجعة الكثير وتحسس مدى صلابة الأرض التي يقفون عليها قبل أن تميد بهم.
وإذا كان كل هؤلاء التربويون من الوزير إلى المربية في رياض الأطفال محرومون من إعمال العقل والتفكير . فمن هم الذين يحق لهم تربية النشء؟ وكم هي الطوائف والأحزاب والتنظيمات والجماعات التي ينبغي على إدارة المناهج الحرص على إشباع غرورها وإرضاؤها؟
هل نترك إعداد المناهج للمؤذنين وإئمة مساجد وزوايا "ملوك الطوائف". وأصحاب المحايات والقنابير ، وحملة البوص وألواح الأردواز والأخشاب .. وهيئات شئون هؤلاء وأؤلئك ذوي الفوبيات؟
مسمى هيئة "شئون الأنصار" وحده دليل كافي على أن هذه الهيئة لا يهمها من أمر كل السودان زشعبه شيء . وأنها إنما تهتم ومنوطة بمصلحة المنتمين إليها ليس إلاّ ... وما أدراك ما إلاّ. وتظن واهمة أنها بالإرهاب الفكري وقطع الأرزاق ومساومة قمة السلطة تستطيع تثبيت الأكاذيب وقلب الأساطير وأحاديث خرافة إلى حقائق.
وطالما كان الأمر كذلك . فقد كان لازماً عدم الإلتفات أو الإنصات لمطالب طائفة من الكهنة والسدنة لا تحرص إلاَ على مكاسبها . ولا تبحث سوى عن مصلحتها ورفاهيتها دون مصالح عامة الشعب والوطن العليا. بل وتظن نفسها الوحيدة التي يحق لها حكم البلاد وتوزيع صكوك المواطنة ، وبطاقات الأرزاق على من تشاء تحت شعار "البلد بلدنا ونحن أسيادا" ..... ويااااا بلاش.
ولعل ما أبرزه حشد إحتفال إستقبال فيادات الحركات الموقعة على سلام جوبا يوم 15/11/2020م في ساحة الحرية بالخرطوم ما يؤكد أن خريطة السلطة والإدارة العامة للبلاد فد تغيرت وتبدلت . ولن تتأثر بتجميد هؤلاء وإنسحاب أولئك . وأن ثقافة وشفافية الجديد ستسود ، بعد أن ضجر الشعب من نتانة القديم وفساده وخرابه وفشله . ورسوبه المزمن المدمن الذي إمتد عشرات السنوات منذ الإستقلال.
ومع تقديرنا لمجهودات ونضال الإمام محمد أحمد (المهدي) كبطل قومي قاد نضال مسلح بمؤازرة التعايشي لإستقلال السودان من ربقة الإحتلال والحكم الأجنبي . إلاّ أن هناك الكثير من الجدل والأمور الخلافية حول إيجابية الأثر وحقيقة "المهدي المنتظر" و "العصمة" و "التوريث" لهذه البطولات بالميلاد وصلة النسب والمصاهرة وحواشي القرابة.
ولعلنا لا نكون قد أخطأنا المفصل وأبعدنا النجعة عندما نقارن حال أحزاب الأمة بأحزب الكيزان لجهة الأثر السلبي ..... فبمثل ما أساء به الكيزان للدين الإسلامي الحنيف وأحرجوا كل مسلم حريص على إسلامه . فقد أساء حزب الأمة بجناحيه بعد الإستقلال وثورة أكتوبر 21 إلى تاريخ الثورة المهدية . وضاءل من أثرها الوطني بسبب مصادرته ملكيتها لنفسه. وهكذا نزعت أحزاب الأمة الثورة المهدية من إهابها الوطني العام . ونقلتها من براح ملكية الشعب وأدخلتها ضيق الخصوصية والوراثة العائلية من القاعدة الضامرة إلى الراس المنقرض... وكان المحصلة النهائية لكل ذلك أن أصبحت الثورة المهدية تراوح مكانها سجينة داخل أسوار دائرة المهدي بل وخصيمة لعامة الشعب... وكان من أبرز خصومتها ما تردد على لسان زعيمها من أوصاف ونعوت ساخرة على ثورة ديسمبر في بداياتها .
كذلك فإن الحشو والمبالغات والإلتفاف على العقل والمنطق الذي جاءت به مناهج التاريخ في جزئية الثورة المهدية ، كان له أثر سلبي لايستهان به وقدح في مصداقية هذه الثورة التي لو كان قد تم تناولها بأسلوب موضوعي علمي شفاف لكان لها وقع إيجابي ذي أثر فاعل مستمر ومتواتر بشغف باهر إلى يومنا الحاضر.
ولو كان هناك ثمة إعمال للعقل . فقد كان ينبغي أن يجد د. عمر القراي الشكر والمدح والتقدير في قراره حذف الخزعبلات والأساطير واللامعقول من تاريخ وسيرة الثورة والدولة المهدية .
وأستغرب لماذا لم ينبس خطيب مسجد أو بيان الطائفة ببنت شفة تجاه نظام الكيزان الذي تعمد الإدراج في المنهج الدراسي للأنصبة المالية والعينية من العشور والضرائب والجبايات التي فرضتها الدولة المهدية على الأهالي . وكان يجري تخصيصها لتغطية نفقات الخليفة التعايشي وعموم عشيرته وعلى عموم آل بيت المهدي؟ إضافة إلى مسألة تسخير الدراويش وأسرهم للعمل مجانا (بالسخرة) في مزارع وأملاك وحيشان أمراء المهدية . وذلك على الرغم من حساسية هذه الأمور المتعلقة بالمال العام واستغلال القوي للضعيف وأكل عرق الجبين . وبما لها من أثـر سلبي على نفسية المواطن السوداني في تقييمه للحكام وأصحاب النفوذ. وجميع ذلك في ظل تحريم الإسلام البائن لمثل هذا الإستغلال الشنيع.
ثم وعلى سبيل المثال ؛ فقد عجزت المناهج الحالية عن تاريخ الثورة المهدية ... عجزت في الإجابة وتبرير الكثير من المتناقضات حول مصداقية إدعاء "المهدية" عند مضاهاتها بما جاء في الأثر النبوي الشريف من نموذج بالتفصيل ؛ لاسيما من حيث إنتماء النسب والملامح والشبه ؛ وشروط المكان والزمان والأسباب والملابسات والمهام والإنجازات والخواتيم . .. وحيث نلاحظ أن جميع ذلك لم ينطبق على المهدي الذي صنعه التعايشي.
استباحة الخرطوم واغتصاب النساء والفتيات وقتل الشيب والشباب والأطفال فيها . والمصادرات وسبي الأموال من مسلمها والذِمّي فيها لم يكن من الإسلام في شيء سواء من قريب أو بعيد. وكان ملئا للأرض جوراً بعد عدل غوردون الفيكتوري ؛ وليس العكس المفترض في المهدي المسلم المنتظر...
وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الحروب وفتح الأراضي والمدن واضحة لا لبس فيها . وكان أحق أن تتبعها الثورة المهدية ثم دولتها في الأبيض والرهد وجبال النوبة والخرطوم والمتمة ، وغيرها من حواضر المسلمين وبوادي وقرى الأفارقة والعرب في كافة أنحاء السودان .
لقد توفي "المهدي المنتظر" بعد ست شهور فقط من تحرير الخرطوم ؛ دون أن يكمل ما وعد به من دخول المدينة ومكة ليعيد الخلافة الراشدة ويملأ الأرض عدلاً بعد جور .
بل وتحولت الدولة المهدية إلى نظام موغل في الدماء والعنف والعسف في عصر الخليفة التعايشي. وفاقت أساليب التعذيب للخصوم والمعارضين والمعترضين بإحسان كل خيال. وامتدت لتشمل مصادرة منازلهم وأملاكهم وسبي نسائهم واسترقاق أبنائهم. وخو ما لا يقرّه الإسلام.
والمثالب والإعتراضات كثيرة . وجميعها تنصب في مواضع متعددة من تاريخ الثورة المهدية حالت دون إقتناع الغالبية العظمى من المثقفين . وأبعدتهم عن التفكير في جدوى التعويل على قدرة شجرة هذه التجربة على الحياة والإثمار. وإنها في أفضل الأحوال ليست سوى فصل من التاريخ السوداني لدولة لم تستمر سوى 13 عام خلفت من الدمار والخراب والنعرات العنصرية وحجر الأفكار وهتك للنسيج الإجتماعي ما لم تفعله ممالك ودويلات سودانية سبقتها في نبتة ومروي ، وسنار ودارفور امتدت مئات السنوات . ودفعت في آخر المطاف شعوب السودان في ذلك الزمان إلى التضرع واللهج برفع الأيدي وتقلب الوجه في السماء ؛ يسألون الله (نعمة) عودة الإحتلال وزوال كابوس المهدية دولة الزندية والدقنية والجبرية.
كشف الحساب جد ثقيل لو إلتفت الناس إلى جرد حساب حراك الثورة وزمن الدولة المهدية وأثرها على السلم الإجتماعي والأمن الداخلي . وهناك الكثير المتداول على ألسنة الناس دون توثيق له في الكتب بسبب بشاعته وغرابته . وينبغي أن يُشكَر د. عمر القراي على عزمه فلترة هذه الحقبة وتقديمها في إطار موضوعي يناسب العصر . ويعيدها إلى حظيرة الثورات الوطنية المحمودة وتمليكها للشعب بدلاً من تركها حكراً على أفراد عائلة وسجينة طائفة وحزب.
لأجل كل ذلك وبعضه إن لم يكن ما لم يتم التطرق إليه جميعه . يظل من الأفضل تعديل مناهج التاريخ في المساق التعليمي والتربوي العام بما يقدم الثورة والدولة (المهدية) في إطار من التوثيق التاريخي . وعلى إعتبار أنها تجربة حكم وطني وجزء من الماضي ، وفترة ما قبل تصفير العداد . وحتى ينطلق السودان في مسار جديد بلا منغصات وأفق مسدود فرضه جماعات من الأمس . أو كما قال الله عز وجل في محكم تنزيله: [تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ] 134 البقرة.
التعليقات (0)