تشهد الساحة العربية هذه الأيام حركات احتجاجية عارمة، تعبر في الواقع عن انفجار لحالة الاحتقان المأزوم في العديد من النقاط الساخنة، والتي نبه لها الكثيرون قبل وقوع الانفجار، ولكنهم كانوا يواجهون دائما بالاتهامات التي تطعن في ولائهم أو باللامبالاة أو بالتسويف والمماطلة والدخول في دهاليز البيروقراطية المستحكمة.
المصيبة -كما أثبتت التجارب- هي عدم قدرة الأنظمة على مواجهة الحقيقة، ومن ثم القيام بعملية نقد الذات وممارسة التغيير الاختياري قبل أن تضطر لذلك مكرهة وربما بعد فوات الأوان.
ما الذي كان يمنع من إجراء الحوار الجاد بين السلطات وبين مختلف مكونات الشعب وفعالياته في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين والأردن والجزائر وغيرها؟ ولماذا تصل المبادرات متأخرة؟
ما الذي كان يمنع من القيام بالتعديلات المشروعة والممكنة التي كانت تطالب بها الشعوب؟
يقولون: عندما يعجز العقل يتحرك الجسد. والجسد هنا هو البلطجة التي دخلت القاموس العربي من أبشع أبوابه وتطورت سريعا لتصل في الحالة الليبية إلى بلطجة الطائرات الحربية والدبابات حيث القتل المتعمد للمواطن الأعزل الذي خرج مطالبا بحقوقه الأساسية الفطرية في الكرامة الإنسانية والحرية والعدالة والمساواة.
البلطجة هي خيار العاجز، وكل ما يمكنها فعله هو تعميق الهوة بين السلطة والشعب، إلا أنها لا يمكن أن تحل المشكلة لأنها ببساطة لا تتعامل مع المشكلة أصلا وإنما مع إفرازاتها.
والغريب أن كل هذا يحدث تزامنا مع الأيام الخالدة لذكرى مولد صاحب الرسالة السماوية التي جاءت من أجل تحقيق العدالة الشاملة «ليقوم الناس بالقسط» ومن أجل كرامة الإنسان «ولقد كرمنا بني آدم» وحريته «لا إكراه في الدين»، والتي طبق حاملها في حياته الشورى، ونشر قيم العفو والتسامح من خلال تعامله المناقبي حتى مع ألد أعدائه.
وهنا أذكر ثلاثة عناوين مشيرة ربما يفيد استحضارها في معرفة موقعنا من الخريطة العملية للنبي محمد الذي تأذى - كما أظن - من هذه البلطجة المقيتة أكثر مما تأذى من الرسوم المسيئة لمقامه الشريف.
العنوان الأول: الانقلابيون
حينما كان الرسول مشغولا بالإعداد لغزوة تبوك، كان أعداؤه من المنافقين يخططون في الخفاء لأمر عظيم، حيث قام جماعة منهم ببناء مسجد إلى جنب مسجد قباء ليكون مركزا لتحركهم، ومجمعا للمؤامرات والمتآمرين الذين يسعون إلى تنفيذ انقلاب في المجتمع الإسلامي وبث الفرقة بين أبنائه.
وإمعانا في التمويه والخداع والتضليل، فقد طلبوا من رسول الله الصلاة للبركة فيه كما يزعمون، مدعين أنهم إنما يبنون المسجد لأهداف إنسانية بحتة، أو لذي العلة والحاجة والليلة الممطرة والليلة الشاتية - بحسب تعبيرهم -.
اعتذر منهم الرسول بسبب ظروفه قائلا: إني على جناح سفر، ولو قدمنا أتيناكم إن شاء الله فصلينا لكم فيه.
وفي طريق العودة من تبوك نزل عليه الوحي كاشفا عن المؤامرة الخسيسة التي تسترت تحت عنوان ديني يحظى بالقدسية والإجلال في نفوس المسلمين، وهنا تكمن الخطورة.
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾[1] .
لم يقم النبي بإلقاء القبض على المتآمرين، وإعدامهم بتهمة الخيانة العظمى والتخطيط لقلب النظام.
كل ما فعله رسول الله أن أمر بهدم المسجد وحرقه لأنه لم يعد مسجدا، وإنما وكر لأعداء الله ورسوله.
العنوان الثاني: المروجون للتهم الباطلة:
كان رجل من المنافقين يقعد إلى رسول الله فيسمع كلامه وينقله إلى المنافقين ممارسا النميمة على رسول الله ، فأخبره الأمين جبرئيل عن الرجل.
كان وقتها صاحب اليد العليا في المدينة المنورة، وكان بإمكانه أن يوقع في الرجل أشد العقوبات وأقساها سواء في نفسه أو ماله من إهدار دمه أو سجنه أو مصادرة أمواله، ولكنه لم يفعل ذلك.
كل ما فعله أن دعا الرجل وأخبره بما لديه من معلومات قطعية لا يتطرق إليها الشك لأنها من وحي الله، فأنكر المنافق ذلك، وحلف بالله أنه لم يفعل.
وعلى الرغم من علم رسول الله بارتكاب المنافق جرما آخر هو الكذب على رسول الله، إلا أنه قال له: قد قبلت ذلك منك، فلا تقعد.
رجع المنافق إلى أصحابه ليقول بلغة هازئة ساخرة خبيثة: إن محمدا أذن «أي يصدق كل ما يقال له دون تمحيص وتدقيق»، أخبره الله أني أنمُّ عليه وأنقل أخباره فقبل، وأخبرته أني لم أفعل ذلك فقبل.
فأنزل الله على نبيه: ﴿ ومِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾[2]
العنوان الثالث: المتهربون من المسؤولية
عندما أراد النبي الخروج لجهاد الروم، عرض على أحدهم واسمه جد بن قيس المشاركة في المعركة، ولكن الرجل اعتذر متعللا بخوفه على نفسه الوقوع في فتنة النساء، وكأنه يريد أن يظهر للرسول حرصه على المشاركة معه لولا وجود مانع شرعي.
قال الرجل: أتأذن لي يا رسول الله، فإني رجل أحب النساء، وإني أخشى إن أنا رأيت نساء بني الأصفر أن أفتتن.
كل ما فعله رسول الله أن قال له وهو معرض عنه: قد أذنت لك. ثم نزل عليه الوحي مبينا حقيقة موقف الرجل وما آل إليه:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ «49» التوبة.
أين ما يجري في ساحات البلطجة من هذا؟!
التعليقات (0)