مواضيع اليوم

أوروبا.. ..بلا يسار!

ممدوح الشيخ

2009-10-20 13:41:25

0


أوروبا.. ..بلا يسار!


بقلم/ ممدوح الشيخ


mmshikh@hotmail.com


في الذكرى العشرين لسقوط حائط برلين وانهيار الكتلة الشيوعية توشك أوروبا أن تودع يسارها، هكذا تشير مؤشرات في معظم أنحاء أوروبا، والمفارقة أن هذا الأفول المشهود الذي يشغل المراقبين يحدث بعد أزمة مالية عالمية تصور كثيرون أنها ستعيد الاعتبار إلى الاشتراكية، بل أدت بشكل مباشر إلى عودة أهم أدبيات الماركسية الكلاسيكية إلى قائمة الأكثر مبيعا. ويعلق الكاتب البريطاني جون لويد على المفارقة في مقال بصحيفة فايننشال تايمز قائلا: "كان من الطبيعي أن يتصور المرء أن تحقق السياسات اليسارية مكاسب من أي أزمة تعصف بالرأسمالية، وإلا فلماذا ظهر اليسار للوجود أصلا؟ ألم يكن للقضاء على الرأسمالية أو على الأقل ترويضها؟ غير أن ذلك التصور لم يكن دائما صائبا في الماضي والمؤكد أنه ليس صائبا اليوم في أوروبا".
واليسار الذي شهد صعودا خلال التسعينات مر بمنعطف كبير على يد رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير الذي طرح فكرة "الطريق الثالث" كمشروع أثار ضجة كبيرة عندما جعله بلير شعار حملته الانتخابية الأولى مرشحا عن حزب العمل الجديد في الانتخابات البريطانية، وبعد 18 سنة من حكم المحافظين، وبفوزه بالانتخابات حظي "الطريق الثالث" بشعبية كاسحة في أوساط الأحزاب اليسارية الاجتماعية والاشتراكية الاجتماعية في أوروبا، فتبناه أيضا المستشار الألماني غيرهارد شرويدر واستخدم شعاراته عندما قاد الديموقراطيين الاشتراكيين في ألمانيا نحو الفوز بالانتخابات في خريف 1998. لكن اليسار الأوروبي تلقى ضربتين قاصمتين بانتخاب نيكولا ساركوزي رئيسا لفرنسا لأخذها نحو اليمين بقوة، وانتخاب أنجيلا ميركل مستشارا لألمانيا. واليوم تظهر استطلاعات الرأي تقدما واضحا للأحزاب اليمينية في كل من إيطاليا وبريطانيا وألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية الأخرى.
رئيس البرتغال السابق ماريو سواريز يرى أن القوى السياسية في أوروبا تشهد تغييرا في تركيبتها، حيث يسجل اليسار في مجمله "انحسارا مذهلا"، بل إنه يتوقع أن تختفي الاشتراكية من خريطتها السياسية "كما لو كان الأمر يتعلق بمصطلح ملعون". وأما أسبانيا والبرتغال، فتتجه إلى الاقتراب من الوسط أما في الدول الاسكندينافية ففقدت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية جانبا كبيرا من صلادتها. وفي بريطانيا أصبح الطريق الثالث في حكم الماضي، لتحل محله البراغماتية. وفى فرنسا يبدو الحزب الاشتراكي منغمسا في ارتباك عميق، فيما فقد اليسار المتطرف وزنه في الخريطة الانتخابية. ومن ثم، نرى في كل مكان كيف تنمو الإغراءات الوسطية وتدق على أبواب الاشتراكيين وبعبير الرئيس البرتغالي السابق فإن ما يحدث لليسار "ظاهرة غريبة"!
والظاهرة التي رآها الرئيس البرتغالي السابق "غريبة"، تشغل المحللين بشكل متصاعد، فالسلطة
التي تقودها الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية (اليسارية) في أوروبا تتقهقر وتنزلق لصالح المحافظين.
وقبل عشر سنوات فقط، كانت هناك إحدى عشرة دولة أوروبية، خاضعة لسيطرة الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، أما اليوم، فلم يبق منها سوى سبع دول، وفي بعضها يعاني اليسار، رغم وجوده في الحكم "أزمات خانقة".
والأحزاب الاشتراكية الديمقراطية العريقة، التي كانت تعمل بفاعلية من أجل قيام مجتمع الرفاهية والمساواة بين المواطنين، تصطدم اليوم بمشكلات عديدة، بسبب العولمة والتوسع الجغرافي. ومن يتأمل خريطة السلطة في أوروبا يتبين له أنه لم يبق في القارة الأوروبية الآن سوى أماكن قليلة جدا، يمكن أن تحقق فيها الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية بعض النجاحات.
والسمة الأساسية البارزة الآن في واقع الأحزاب اليسارية الأوروبية أنها عاجزة عن رؤية القيم السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تشغل الناخبين في أوروبا وهم لم يعودوا مقيدين إلى ولاءات ثابتة بفعل تاريخهم الاجتماعي، أو انتماءاتهم العقائدية والمذهبية أو ظروفهم الاقتصادية، ويشعرون بحرية اختيار الحزب الذي يمكن أن يحقق لهم السعادة والأمن.
وقد أدت الأزمة إلى هروب البعض إلى عالم المفاهيم مؤكدين أن من هزم ليس اليسار بل "يمين متخفٍ" يلبس قناع اليسار، وهؤلاء يؤكدون أن بعض الأحزاب الشيوعية الأوروبية هي وحدها من يستحق وصف اليسار، أما الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية فلم تعد يساراً.
إن أوروبا التي تتغير باتجاه مزاج سياسي مختلف هي بالضرورة ستتبنى برنامجا سياسيا مختلفا، وقد أسفر وصول الرئيس الفرنسي الحالي نيكولا ساركوزي للإليزيه عن تحول ملموس في السياسة الفرنسية الخارجية، وعليه فإن مزيدا من تقلص النفوذ السياسي لليسار من المؤكد أن يترك بصماته على العلاقات الدولية للاتحاد الأوروبي.
وعربيا كانت العلاقة مع اليسار الأوروبي سمة رئيسة للعلاقات العربية الأوروبية وسيكون على مؤسسات الديبلوماسية العربية أن تعيد حساباتها في ضوء التحول الجديد، فأوروبا الخالية من اليسار – وهو مجرد افتراض – هي فاعل سياسي مختلف من حيث الأولويات، ودورها في توازن العلاقات الدولية في ظل التحول الجديد سيكون مختلفا عما كان قبل سنوات. والقضية هنا ليست الرضا أو الغضب إزاء هذا التحول، بل هي قضية التعلم من الدرس وإعمال العقل في تداعياته المحتملة بالنسبة لقضايانا الرئيسة.
وأوروبا التي تتغير جزء من عالم يتغير بوتيرة أسرع سياسي واقتصاديا وثقافيا، ومع التغير تصعد قوى وتهبط أخرى ومع الصعود والهبوط تتغير الأجندات والأولويات. وفي الأفق المنظور يبدو اليسار في أوروبا مقبلا على مزيد من الضعف رغم أن الظرف الذي خلقته الأزمة المالية العالمية كان يبدو ميلادا جديدا لليسار في العالم كله، فإذا به يلفظ أنفاسه الأخيرة. ولأن تغير موازين القوى السياسية يظل محكوما بسياقاته فإن تراجع اليسار الأوروبي يتزامن مع صعود كبير لليسار في أمريكا اللاتينية




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !