سيكولوجيا العاهة
رواية : أوجاع ابن آوى
للروائي المصري : أحمد مجدي همّام
قراءة : سعد الياسري
مدخل :
كان ماركيز ؛ نعم ماركيز هو الذي قال : (المسألة ليست في كتابة رواية أو قصّة قصيرة ؛ بل في كتابتهما بجدّية) [1] . و أمامنا اليوم ضمن إصدارات دار ميريت | القاهرة | 2011 ؛ و عبر 168 صفحةً من القطع المتوسط ، توزعت على أحد عشرَ قسمًا رئيسيًّا في أربعة فصول ، رواية (أوجاع ابن آوى) حيث تباغتنا في هذا العصر المستسهل لكلّ إبداعٍ واحتراف ؛ و التي يسعني وصفها بالجديّة و احترام القارئ والمتعة أيضًا . إنّها الإصدار الثاني للروائي المصري الشاب (أحمد مجدي همّام) بعد روايته الأولى (قاهري) الصادرة عام 2008 .
العمل :
يبدو بأنّ الروائي قد تنبّه إلى تعبير كونديرا : (تريد الحداثة المكرّسة أن تتخلّص الراوية من زخرفة الشخصية التي ليست في نظرها أخيرًا إلاّ قناعًا يخفي دون فائدة وجه المؤلّف) [2] . و بشكل أو بآخر جعل روايته تتعكّز على أذرع أخطبوط : الوجوه و الأقنعة و الأحداث والأبطال و الإحالات إلى أكثر من بقعة جغرافية ، كلّها نجدها صراحة أو إشارةً في (مصر – سوريا – عُمان – الإمارات – السعودية – المغرب .. إلخ) . حيث تتحكم بها شخصيات قائدة لسيرورة الحدث (شامي ، علاء ، عفاف .. إلخ) ، وأخرى تابعة (سميحة ، محمود ، شهلاء ، لؤي ، أميمة .. إلخ) .
مثلاً ؛ شخصيّة (شامي) السوري المقيم في مصر ، شخصية مولعة بالاستراق و التلصّص على الآخرين – علاء وعائلته نموذجًا - ناشرًا كل ذلك في مدوّنة إلكترونية أطلق عليها اسم (العاهة) . و هنا لا يكتفي الروائي بالوقوف على هكذا شخصيّة أو توظيف سيكولوجيتها المريبة ، بل أنّه يطرح أسبابها و جذرها النفسي على لسان البطل ذاته ، أو من خلال مونولوج داخلي لأحد الأصوات :
(لا يخامرني شك أن المريض في هذه القصة هو السوري لا غيره ، يدهشني إصراره على التلصص على حياة علاء الشخصية ، حتى لو كان قصده خيرا ، يبدو لي الأمر جنونيا ، ومبالغا فيه ، صدق علاء عندما قال أن أسوأ العاهات هي تلك التي يمكننا سترها ، حتى وإن باح بها الشامي أخيرا ، فقد فعل ذلك بعدما تقيحت ونزت ، فعل ذلك بعدما فرغ من مص روح علاء مثلما يقول !) [3] .
أمّا شخصية (علاء) فحسبنا أن نقرأ هذين المشهدين كي نقف على بعض صفاته :
(كلمني عن نقصك ، ألستَ ناقصا ؟ أنت لو قسمت نفسك وفقا لنظرية أفلاطون القائلة بأن الإنسان هو جسد ، روح وعقل ، ستعرف كم أنت ناقص ، فالجسد معطوب كما ترى – و احمد الله يا لولو أنك ترى – و معاليك لا تسمع إلا بسماعة طبية ، ولك ربع لسان ، يعني "البغبغان الغلباوي أبو نص لسان" يتفوق عليك ! فجرحك غائر كما ترى) [4] .
أو هنا :
(أنت تعرف جيدا أنك مهترئ يا علاء من داخلك ومنقوص من خارجك حتى العناكب تمارس الجنس ، السحالي والفيلة والقرود والحمير والخنازير والمعيز والفئران ، ومن لا يمارس الجنس يتكاثر انشطاريا كالبكتيريا أو ييسر الله لها ظروف النمو كالنبات فيتكاثر ويبقى ، أما أنت يا عيني فغير قادر على إنتاج سلالتك المعاقة ، لأنك ببساطة لا تفعل كما يفعل خلق الله ، بمعنى آخر ، أنت كائن غير قوي بما يكفي للبقاء ، الانتخاب الطبيعي أسقطك من منخله ، فالخيال يا صاحب الخيال "مبيجبش عيال" ، وبنات عقلك لن يلدن لك) [5] .
أيضًا ؛ تعالج الرواية - فيما تعالجه - مصائر جدّ (علاء) لأمّه ، حيث العائلة التي غادرت (مصر) نحو (المغرب) في مرحلة بالغة الخطورة من تاريخ مصر المعاصر (1952) وما سبقها وما لحق بها .. فتتقصّى مآلاتهم بعد ذلك و انتشارهم في البلاد بشيء من العمق و التفصيل المُلفت . و ترد ملامح هذه الفترة في الرواية بإيقاع مستقر أو بطيء أحيانًا ، كهذا المشهد الذي يتحدّث عن جدّه لأمّه (مشهور الجوهري) ومظاهر الحياة وقتئذ :
(لنيل البشوية ، أعاد مشهور بك مراجعة وإكمال بناء شبكة علاقاته ، كان هدفه حينها هم السياسيين والبشاوات أصحاب الحظوة عند القصر ، وهؤلاء ما كان يتسنى له الوصول إليهم إلا عن طريق أصدقائه من الوجهاء وكبار التجار والبكوات وبشاوات الناحية ، فراح مشهور يتوغل بين عائلات العالم المخملي ، يحضر مآدبهم ويرتاد صالوناتهم الثقافية ويتبرع بأموال يتم جمعها خصيصا لأغراض غريبة عنه تمامًا وبعيدة عن دائرة اهتماماته ، وبعد مضي شهور ، عام ربما أو أكثر كان مشهور قد حشد كل طاقاته ومعارفه لنيل البشوية ، وكان أهل المدينة في ذاك الوقت يعرفونه وقد صاروا يطلقون عليه مشهور باشا نظرا لظهوره الدائم مع البشاوات ومقدرته على مجاراتهم في مظاهر الأبهة والفخامة) [6] .
ملامح :
أوّلاً : ثمّة قوّة في الاحتكام إلى أصوات روي متعدّدة ، وقدرة على الإمساك بخيوط الأحداث – المتشابكة – دون أن تترهّلَ الكتابة و دون أن يضيع القارئ في الإسهاب .. و هو أمر يُقدّر عاليًا .
ثانيًا : حاول الروائي اتّخاذ الحياد كموقف واضح من المسألة الدينيّة في المجتمع المصري مثالاً . فهو اجتهد أحيانًا بالقول أنّ ثمة إشكالاً ها هنا .. دون أن يقدّم حلاًّ . و في مناسبات أخرى لمستُ تسويقًا للدروشة و الانبهار الصوفي أو ما يقاربه و الذي لا أنكر إتقان الكثير من جوانبه تحت عناوين من قبيل ( بصحبتهم يحلو الحنظل الحولي) و (التوت و الزيتون) [7] . على أن الإشارة تجدر أيضًا إلى جرأة الكاتب في تناول بعض منافقات و مماحكات الدينيّين عبر عائلة الشيخ رضا شهاب الدين .
ثالثًا : يجب الانتباه إلى الدقّة اللافتة في استعمال عامليْ المكان و الزمان في الرواية ، و تحديدًا المكان .. الذي سيشفع لهذا العمل كثيرًا . ناهيك عن المحاولة – الجيّدة – جغرافيًّا في استعمال أبطال من جنسيات و خلفيات مختلفة .. ثمّة مصري و عراقي و سوري .. إلخ . إنّما لم ترق لي نمطية التناول للحالة الخليجية اجتماعيًّا ، و الذي كنتُ آمل لو أنّ الروائي لم يقع بها .
رابعًا : يمتلك الروائي لغةً جديرة بالالتفات إليها ؛ و لعلّ القارئ يلمس شيئًا من الفصحى (المُمصَّرة) في الرواية تختلف عن الفصحى الخصيبة (نسبة إلى الشام والعراق) ، إذ يميل الأدباء المصريون أحيانًا إلى استعمال ألفاظ بعينها ويحبون حشو النص بما هو أقرب إلى العامية أو هي العامية ، والإيغال في استعمال كلمات من قبيل (يشيل بدلاً من يرفع) و (جنب بدلاً من جوار) .. إلخ .
خامسًا : ثمّة جرس باهر في العنوان (أوجاع ابن آوى) . خاصّة و أنّ العرب تحبّ دومًا إدراجه على صيغة الجمع أو جمع الجموع ، و لكنّه أتى هنا فردًا مفردًا بكل محمولاته الأخلاقية والنفسية و الانتهازية .. يظهر كي يقوي من عزيمة الدخول الفضولي إلى أجواء النصّ .
سادسًا : بداية الرواية أقوى من ختامها . ففي الوقت الذي كانت فيه البداية استدراجيّة ماكرة نجحتْ في اصطيادي ، بدت النهاية استسلامية مليئة بتشابك إشارات ميتافيزيقية شبه يقينية حول (علاء و أميمة) غير مفيدة للعمل . عمومًا ؛ و كما تبدأ الرواية بالصوت المحوري ؛ الفتاة ذات الخمار قارئة المدوّنة (عفاف) المستاءة من عزوف الشباب عن مغازلتها ، حيث يقترب منها أحدهم في بداية الرواية ليقول لها بوقاحة :
(مش تبقي تحلقي شنبك يا آنسة !) [8] .
فإنّها تنتهي كذلك بـ (عفاف) وهي تلقم طفلتها ثديها ؛ بمتعة أمام التلفاز الذي طالما حرمهم منه أبوها الشيخ المتزمت صاحب محل عصائر (بئر رومة) سابقًا !
خاتمة :
تقول دايانا داوبتفاير : ( إنّ أحد مقاصدك الرئيسية بكونك روائيًّا ؛ هو أن تجعل قراءك يُعنون بماذا حدث لشخصياتك ؛ هذا هو سرّ القراءة الممتعة) [9] . و ممّا لا شكّ فيه أنّنا أمام عمل انتبه لهذا ، و احتفى – وبوضوح – بكثير من مزايا و ركائز و فنّيات القصّ المعاصر (الاستباق ، الارتباط ، الإرهاص والترجيع .. إلخ) . تلك التي يمكن أن تُنتج في منقضاها رواية – كالتي بين أيدينا - تستحق الالتفات في خضمّ كلّ ما نواجهه من ركل غير مبرّر لأساسيات الكتابة و العبور فوقها بوقاحة بالغة .
هوامش :
[1] غابرييل غارسيا ماركيز ، كيف تُكتب الرواية و مقالات أخرى ، ترجمة : صالح علماني ، الأهالي للطباعة و النشر و التوزيع ، دمشق ، 1988 ، ص 10 .
[2] ميلان كونديرا ، فنّ الرواية ، ترجمة : د. بدر الدين عرودكي ، الأهالي للطباعة و النشر و التوزيع ، دمشق ، 1999 ، ص 71 .
[3] الرواية ص 120 .
[4] الرواية ص 65 .
[5] الرواية ص 71 .
[6] الرواية ص 13 .
[7] الرواية ص 101 ، 121 .
[8] الرواية ص 21 .
[9] دايانا داوبنفاير ، صنعة كتابة الرواية ، ترجمة : سامي محمد ، سلسلة الموسوعة الصغيرة | 99 ، بغداد ، 1981، ص 57 .
نُشرت في صحيفة "الكويتية" الكويتيّة
عدد 24 | آب | 2011
سعد الياسري
آب | 2011
السّويد
الموقع الشّخصيّ
التعليقات (0)