أهواء الناس وعقائدهم . للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
إن الهوى ذو تأثير قاتل في العقيدة لأنه يحيل المنظومة العقائدية إلى مصلحة شخصية ، وخليطٍ من الحق والباطل ، وشكوكٍ منثورة بين الثوابت والمتغيرات ضمن فوضى من شأنها قتل الروح الإنسانية وإحالتها إلى كومة متناقضات ذات أثر سلبي في حياة الفرد التي تصير جحيماً من الاضطراب النفسي ، والانكسارِ الجسماني .
وأصحابُ العقائد الزائغة لهم مذاهب شتى في اتباع الهوى وخطواتِ الشيطان . حيث إنهم يستندون إلى حجج واهية يزيِّنونها لأنفسهم ، ويسيرون وفقها على غير هدى . فكل طائفة منحرفة لها مذهبها في اتباع الهوى والفوضى العقائدية .
قال الله تعالى عن بعض الشواذ عقائدياً : (( يخادِعون اللهَ والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون (9) في قلوبهم مرضٌ فزادهم اللهُ مرضاً ولهم عذابٌ أليم بما كانوا يكذبون (10) وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلِحون ( 11) ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (12) وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناسُ قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون (13) )) [ البقرة] .
وهذه الآياتُ الكريمات تتضمن فضحاً لعقائد المبطِلين من المنافقين ومن سار على منوالهم ، وتفنيداً لها بالحُجة الدامغة . ولا شك أن اللهَ تعالى لا يمكن خداعه أو التحايل عليه ، (( فإنه العالِم بالسرائر والضمائر ، ولكن المنافقين لجهلهم ، وقلة علمهم وعقلهم ، يعتقدون أن أمرهم كما راج عند الناس ، وجرت عليهم أحكام الشريعة ظاهراً ، فكذلك يكون حُكْمُهم عند الله يوم القيامة ، وأن أمرهم يروج عنده ، كما أخبر تعالى عنهم أنهم يوم القيامة يحلفون له أنهم كانوا على الاستقامة والسداد ، ويعتقدون أن ذلك نافع لهم عنده ، كما قال تعالى : [ يوم يبعثهم اللهُ جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ] [ المجادِلة : 18] )) . [تفسير ابن كثير ( 1/ 755 ) ].
فهؤلاء المنافقون يُظهرون الإيمانَ ويبطنون الكفرَ ، وهم يعتقدون أن حيلتهم سوف تنطلي على الله تعالى ، لكن لا يشعرون أنهم يخدعون أنفسهم ، ويلقون بأيديهم إلى التهلكة ، والجحيم السرمدي، حيث لا توجد فرصة للتعويض مطلقاً .
ومن صفات المنافقين كما وضحها ابن كثير في تفسيره ( 1/ 76 ) : (( خنع الأخلاق ، يصدق بلسانه ، وينكر بقلبه ، ويخالف بعمله ، ويصبح على حال ويمسي على غيره ، ويمسي على حال ويصبح على غيره ، ويتكفأ تكفؤ السفينة ، كلما هبت ريحٌ هب معها )) اهـ .
والنفاقُ هو المرض المستشري في قلوبهم الذي يحرق دواخلَهم ، ويقودهم إلى الهاوية . والمنافقُ يعتقد نفسَه ذكياً وقادراً على التلاعب بالمواقف لصالحه ، والضحكِ على الآخرين باستخدام أساليب التحايل . لكنه لا يدرك أنه يلعب بمصيره ، ويقضي على تاريخه ، ويحشر نفسَه في الوهم والتعاسة وضياع الأمل . فهو يضحك على نفسه ولا يَنظر إلى عواقب الأمور ، تماماً كالشخص الذي يبتلع السُّمَّ ويقضي وقتَه مُفكِّراً في مذاقه ، وينسى أن حياته ستنتهي عما قليل . لذا فالمنافقُ محصورٌ في اللحظة الآنية ، ومُحاصَرٌ بالأوهام العمياء التي تزيده حيرة وضياعاً .
وفي تفسير القرطبي ( 1/ 244 ): (( قال ابن فارس اللغوي : المرض كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من عِلة ، أو نفاق ، أو تقصير في أمر )) اهـ .
وقد زادهم اللهُ مرضاً ، أي زادهم كفراً ونفاقاً وتكذيباً عقوبةً لهم على سوء أفعالهم . فهم غارقون في أمراضهم الأخلاقية وعِللهم الروحية ، وكلما خرجوا من متاهة دخلوا في متاهة أخرى. وهذا النفقُ الذي يقتحمونه غير مبالين سيكون وبالاً عليهم ومقبرةً لهم، لأنه بدون ضوء في آخره . فهم كالفَرَاش الذي يرقص حول النار سعيداً مختالاً ، لكنه لا يدرك أنه سيحترق بالنار ، وتكون نهايته المؤلمة ، حيث تختفي فرص التعويض والعودة .
وعادةُ المنحرِفين في كل زمان ومكان أنهم يَدعون العلمَ والإصلاح والتنوير ، وذلك لكي يخفوا فسادَ أفكارهم وأفعالهم . فهؤلاء المنافقون إذا قيل لهم : لا تفسدوا في الأرض زعموا أنهم مصلِحون يريدون إصلاح الأمور ، وبث الألفة والتوفيق ، لكنهم لا يشعرون بفسادهم بسبب جهلهم المريع ، والنفاقِ المستوطن في دواخلهم المحترقة . فهم كالذي يَرُشُّ على الموت السُّكَّر ، إذ إنهم يحاولون تزيين أفكارهم المتعفنة بالمكياج الخادع والزينة الظاهرية الزائلة ، تماماً مثل شخص يُحاول تزيين الجثث بالورود والأزهار الفواحة .
وقد رأينا عبر العصور الكثير من هؤلاء الذين يُغلِّفون أفكارهم الشاذة وعقائدهم المنحرفة ومواقفهم المخزية بالنظريات العلمية وهالةِ التنوير والمعاني البراقة . فهم يستندون إلى منهجية دس السم في الدسم . حيث إنهم إذا حاولوا تقديم أفكارهم الموبوءة سافرةً فإنهم سيُجابَهون بالرفض والإقصاء والطرد، ويُفضَح أمرهم، لذلك يلجأون إلى التحايل ومحاولة الدخول من الباب الخلفي ، ووضع السموم في إطار براق جميل مُحبب إلى النفوس لكي يسهل اختراقها وتمرير باطلهم . إنهم غارقون في فكرة " حصان طروادة " .
قال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 80 ) : (( يقول تعالى : وإذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس ، أي كإيمان الناس بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنة والنار ، وغير ذلك مما أخبر المؤمنين به وعنه ، وأطيعوا الله ورسوله في امتثال الأوامر وترك الزواجر ، [ قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ] ، يعنون _ لعنهم الله _ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم _ رضي الله عنهم _ )) اهـ.
وهذا طبعُ المنافقين والكافرين في كل العصور . فهم ينعتون المؤمنين بالظلامية والرجعية والسفاهة والتطرف في محاولة يائسة لتشويه صورتهم أمام الرأي العام ، وصرفِ الناس عن الحق عبر التشويش على دعاة الإيمان .
فالقاعدة الأساسية التي يتبعها أصحاب العقائد المنحرفة _ على الدوام _ هي محاولة هدم الفكرة عن طريق تدمير من يحملونها، إذ إن إسقاط الأشخاص من شأنه إسقاط العقائد التي يرفعون لواءها .
وأهواءُ الناس وعقائدهم الزائغة لها جوانب كثيرة ، وهي ظلماتٌ بعضها فوق بعض ، ضمن خليط فوضوي عابث لا يوصل إلى اليقين ، بل يقود إلى الغرق المتزايد في مستنقع الشك والكفر والفوضى الروحية ، والاضطرابِ الإنساني الحرج .
وإنك لتجد في القرآن الكريم لفظة " النور " بالمفرد ، ولا توجد لفظة " الأنوار " ، لأن الحق واحد لا يتعدد . في حين أن القرآن الكريم مليء بلفظة " الظلمات " لأن الباطل يتعدد ، وذو مذاهب شتى ، وأهواء متباينة .
قال الله تعالى : (( ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله )) [ البقرة : 165].
[في تفسير القرطبي ( 14/ 265 ) عن معنى " أنداداً " : (( أي أشباهاً وأمثالاً ونظراء ))]. وهؤلاء الذين يُثبِتون لله تعالى أنداداً ويُسقِطون عليهم صفات الألوهية والحاكمية إنما يقومون بذلك العمل السيئ اعتماداً على قلوب مريضة مليئة بأوهام الشك ، وفوض العقائد الكفرية المحتوية على الجهل والعناد والأساطير . والأندادُ المعبودون من دون الله تعالى يتغيرون باختلاف الزمان والمكان ، مثل الأصنام والحكام الطغاة ، وسادة القوم ... إلخ .
فاتخاذُ الأنداد يرمي إلى نيل الحظوة لدى الناس ، وتحقيق مكاسب مادية ذاتية ، وصعود سُلم السلطة بالطرق غير الشرعية . إنهم يطمحون إلى تكوين سُلطات زائفة عبر المتاجرة بالحقائق المطلقة . فالحق _ بالنسبة إليهم _ أداةٌ لتحقيق مآرب شخصية . والمعاني الجميلةُ تصبح جسراً يدوسون عليه في عبورهم نحو المجد الوهمي المستند إلى المكر، والنفوذِ المتهاوي المعتمد على الخداع. فهم يُحوِّلون القيمَ السامية إلى مَطِيةٍ لتحقيق أهدافهم الخبيثة المضادة للحق والحقيقة .
قال الله تعالى : (( ومن الناس من يعجبكَ قولُه في الحياة الدنيا ويُشهِد اللهَ على ما في قلبه وهو ألد الخِصام (204) وإذا تولى سعى في الأرض ليُفسِد فيها ويُهلِك الحرثَ والنسلَ واللهُ لا يحب الفسادَ (205) وإذا قيل له اتقِ اللهَ أخذتْهُ العِزةُ بالإثم فحسبُه جهنم ولبئس المهاد ( 206) )) [ البقرة ] .
وهذه الصفاتُ تشير إلى غبش عقائدي مريع ، وانحراف عن الصراط المستقيم ، مرجعه إلى عوامل شتى كالهوى والشيطان والمنفعة الذاتية الوقتية .
فالاعتمادُ على الكلام المعسول لترويج الباطل يُعتبَر سلاحاً من وجهة نظر هؤلاء المنافقين . فهم يعتقدون أن كلامهم البراق قادر على إخفاء حقيقتهم السوداء ، وضمان سلامتهم ، وتمرير أفكارهم الخبيثة المسبقة . فكلامُهم لا ينبع من قلوب صادقة وصدورٍ صافية . بل ينبع من خبثٍ مُبَيت ذي أغراض محددة سلفاً . وهؤلاء لا يتورعون عن إشهاد الله تعالى على ما في قلوبهم ظناً منهم أنهم _ بذلك _ يكونون أصحاب حُجة قوية تُفحِم الآخرين ، وموقفٍ راسخ ينطلي عليهم . لكنهم _ في واقع الأمر _ قلوبهم تغلي بالحقد والاستهزاء بالحق والجدال بالباطل . ويسعون بكل قوتهم إلى بث الفساد في الأرض .
قال الطبري في تفسيره ( 2/ 324 ) : (( وهذا نعتٌ من الله _ تبارك وتعالى _ للمنافقين . يقول _ جل ثناؤه _ : ومن الناس من يعجبك يا محمد ظاهر قوله وعلانيته ، ويستشهد الله على ما في قلبه ، وهو ألد الخصام ، جدل بالباطل . ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية ، فقال بعضهم : نزلت في الأخنس بن شريق ، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعم أنه يريد الإسلام ، وحلف أنه ما قدم إلا لذلك ، ثم خرج فأفسد أموالاً من أموال المسلمين )) اهـ .
وقال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 332 ) : (( وعن ابن عباس : أنها نزلت في نفر من المنافقين تكلموا في خبيب وأصحابه الذين قُتلوا بالرجيع وعابوهم فأنزل الله في ذم المنافقين ... وقيل : بل ذلك عام في المنافقين كلهم ... وهذا قول قتادة ومجاهد والربيع بن أنس ، وغير واحد ، وهو الصحيح )) اهـ .
وهذا طبعُ المنافقين الذي يظهرون عكس ما يبطنون . فتراهم يظهرون بثياب الحملان وهم ذئاب شرسة . وهم يستعملون الكلماتِ الناعمة الجميلة لخداع الآخرين وتطبيقِ مشاريعهم الفاسدة . ويحلفون بالله تعالى إنهم صالحون لكي ينالوا القبولَ والتصديق عند الناس ، وهم _ في واقع الأمر _ معجونون بالكذب والخديعة والغدر .
وهذا المنافق إذا قيل له اتقِ اللهَ، وارجع عن انحرافكَ ، تمردَ ، وأخذتْه الحمية بالإثم ، والإصرار على الباطل . فجزاؤه جهنم لقاء عناده وغروره وتكبره على الحق . فرفضُه الرجوع للحق نابع من غروره واعتداده بنفسه بالباطل ، لذلك يكون تقبلُ الحق ثقيلاً على قلبه ، فيرفضه لأنه نفسه المتعاظمة المزهوة تقف حاجزاً دون تقبل الحق والإذعان له . فحسبُه جهنم ، فهي مصيره المستحق.
قال الله تعالى : (( ومنهم مَن يقول ائذَن لي ولا تفتِني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين )) [ التوبة : 49] .
قال ابن كثير في تفسيره ( 2/ 476 ) : (( يقول تعالى : ومن المنافقين من يقول لك : يا محمد [ ائذَن لي ] في القعود [ ولا تفتِني ] بالخروج معك بسبب الجواري من نساء الروم ... قد سقطوا في الفتنة بقولهم )) اهـ .
فالمنافِق يخترع الأعذارَ من بنات أفكاره لكي يهرب من التحديات الجسيمة ، والخطوبِ الجليلة . وهذا دَيْدَن المنافقين الذين يفتقدون إلى الشجاعة والحزم ورباطة الجأس وقوةِ الكلمة . فهم يعيشون كالطفيليات على المصائب ، والهروبِ من الأزمات ، والذوبان في المجتمع ونشر الإشاعات والأكاذيب لتفتيت وحدة الصف ، والنجاة بأرواحهم لحرصهم على حياتهم المفتقدة إلى قيم الشرف والفروسية والأخلاق الرفيعة والكلامِ الصادق .
فالمنافقُ أراد الهروبَ من المعركة وملاقاةِ العدو فلم يجد وسيلةً للتملص من هذا الاستحقاق المصيري سوى ربطه بالجواري من الرُّوم . فزعم أن هؤلاء الجواري فتنةٌ له يضعف أمامهن ، ولا يطيق صبراً عليهن ، فالحل _ من وجهة نظره _ أن يتخلف عن الجهاد لئلا يُفتتن بهؤلاء النساء الجميلات . وهذا الأسلوب البائس الرامي إلى الهروب من الجهاد يعكس منظومةَ الانهيار العقلي والانكسار الأخلاقي واختراع الأعذار الواهية التي يرتع فيها المنافقون .
وتتوالى الضبابية في العقائد الزائغة والسلوكياتِ السيئة المفتقدة إلى إيمان راسخ . فالخللُ في بنية العقيدة يتضح في التعاملات الاجتماعية بين الناس خصوصاً التعاملات المالية ، لأن المال هو المحك الرئيسي الذي يكشف عن معادن الرجال .
قال الله تعالى : (( ومنهم مَن يلمزكَ في الصدقات فإن أُعطوا منها رَضُوا وإن لم يُعْطَوْا منها إذا هم يَسْخطون )) [ التوبة : 58] .
أي يعيب تصرفَكَ ، ويطعن عليكَ في الصدقات . فإن أُعطوا منها رضوا ، وإذا لم يُعطَوا انقلبوا ساخطين رافضين . وهؤلاء مُسَيْطَر عليهم من قبل مصالحهم الشخصية . إذ إن حب المال أعماهم ، وجعلهم رافضين لحُكم النبي صلى الله عليه وسلم غير راضين به لأن الإيمان لم يتجذر في قلوبهم ، فهم يميلون مع أهوائهم دون تحكيم الشريعة في أفعالهم . فقد أصبح المالُ عندهم هو الفيصل والحاكم على الشريعة وليس العكس ، لذا فإنهم يُطَوِّعون عقائدهم لتتماشى مع المكسب المادي ، فقد أصبح دينُهم تابعاً للدرهم والدينار ، يدور معهما حيث دارا .
وفي صحيح البخاري ( 6/ 2540 ) : عن أبي سعيد قال : بينا النبي صلى الله عليه وسلم يَقسم ، جاء عبد الله ابن ذي الخويصرة التميمي ، فقال : اعدل يا رسول الله ، فقال : (( وَيْحك ، ومن يعدل إذا لم أعدل ؟ )) .... قال فنزلت فيه : [ ومنهم مَن يلمزكَ في الصدقات ] .
فالبعضُ يرمي الكلامَ السيئ ولا يُدرِك أبعادَ ما يقول . فمطالبةُ النبي صلى الله عليه وسلم بالعدل وقاحةٌ ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو مؤسس العدل على الأرض التي كان فيها القوي يأكل الضعيفَ، والغني يسرق الفقيرَ. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ظالماً_ حاشاه _، فهذا يعني موت العدل على الأرض ، ولا يوجد أحدٌ سيَعدل.
لكن النبي صلى الله عليه وسلم ذو الصدر الواسع ، والصابر على الأذى وجهل الآخرين ، لا يمكن استفزازه بهذه الأقوال القبيحة ، أو إخراجه عن قيم العدالة والحق ، لذلك رسّخ مفهومَ العدل في النفوس ، ونَبّه إلى أنه الإمام العادل ، وأن لا أحد سيَعدل إذا لم يعدل هو صلى الله عليه وسلم .
وقال الله تعالى : (( ومن الأعراب مَن يتخذ ما يُنفِق مَغْرماً ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوْء واللهُ سميع عليم )) [ التوبة : 98] .
فمن الأعراب من يعتبر إنفاقه وتقديمه المال خسارةً كبرى ومشروعاً فاشلاً لا يعود عليه بالربح، وذلك لأنه عقله محصور في الأرباح المادية ومنطق الربح والخسارة من منظور شكلي لا ينطلق من إيمان راسخ بأن الله تعالى رزاق يُثيب المنفِقين ، ويرزقهم السعادة والرضا والمكاسب الروحية والمادية في الدنيا، ويُعد لهم نعيماً أُخروياً لا ينفد جزاءَ ما قَدّموه من مال في سبيل الدعوة.
قال الطبري في تفسيره ( 6/ 451 ) : (( يقول تعالى ذِكره : ومن الأعراب من يعد نفقته التي ينفقها في جهاد مشرك ، أو في معونة مسلم ، أو في بعض ما ندب الله إليه عباده [ مَغْرماً ] يعني : غرماً لزمه لا يرجو له ثواباً ، ولا يدفع به عن نفسه عقاباً )) اهـ .
وهؤلاء المنافِقون ينتظرون حدوث المصائب في صفوف المسلمين ، مما يدل على خبثهم وفساد بواطنهم . لكن المصائب ترتد عليهم . وعليهم تقع دائرة السّوْء . فسلوكُهم ينطلق من حقد دفين على الدعوة الإسلامية ، لذلك يحاولون الاصطياد في الماء العكر بكل قوتهم ، ولا يدخرون في ذلك جهداً. كما أن يترقبون نزول المصائب على المسلمين وغرقهم في الكوارث لكي تضعف قوتهم ، ويخسروا نفوذهم ، وتُستأصل شأفتهم ، ويُقضَى على وجودهم . الأمرُ الذي يُفسِح المجالَ لقوى الظلام بأن تنتشر ، وتبث باطلها ، وتعيد الناس إلى الضلال من أجل استغلالهم لصالح طبقة الفاسدين والمفسِدين . لكنّ الله تعالى حافظٌ دِينه ، وناشرٌ شريعته ، شاء من شاء وأبى من أبى . ولا يمكن لأحد أن يوقف نورَ الشمس ، مهما امتلك من الوسائل والإمكانيات الهائلة .
قال الله تعالى : (( وإذا ما أُنزِلت سورةٌ نظر بعضُهم إلى بعض هل يراكم مِن أَحدٍ ثم انصرفوا صرف اللهُ قلوبَهم بأنهم قومٌ لا يفقهون )) [ التوبة : 127] .
وفي هذا إشارة بالغة إلى تصرفات المنافقين المستندة إلى الخداع ، والرياء ، وتنفيذِ مخططاتهم الشريرة دون وازع ديني أو رقابة ذاتية ، لأن أمانيهم محصورة في الحياة الدنيا دون التفكر في الحساب بعد الموت . فالتخندقُ في المصلحة الذاتية الآنية الزائلة يجعلهم لا ينظرون إلى ما وراء الأحداث بعينٍ إيمانية ، وهذا أدى إلى وجود البصر في اصطياد الأزمات مع غياب تام للبصيرة .
فإذا أُنزلت سورةٌ فإن قلوبهم تضطرب وتشمئز رافضةً لنور الحق ، فهم ينظرون إلى بعضهم البعض متلفِّتين مستعدين للهروب من الحقيقة ، فلا يريدون الاستماع إلى القرآن الكريم ، لذلك يفرون منه وينصرفون عنه لأن الخفافيش لا تطيق ضوءَ النهار . ولو استقر الإيمانُ في قلوبهم لاحتضنت كلامَ الله تعالى وتَدَبّرَتْه ، ولكنّ القرآنَ لا يمكن أن يستقر في قلب نجس غير نظيف . فالأزهارُ لا تنبت في مزبلة .
قال ابن كثير في تفسيره ( 2/ 530 ) : (( هذا أيضاً إخبار عن المنافقين ، أنهم إذا أُنزلت سورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم [ نظر بعضُهم إلى بعض ] أي تلفّتوا [ هل يراكم مِن أَحدٍ ثم انصرفوا ] أي تولوا عن الحق ، وانصرفوا عنه . وهذا حالهم في الدِّين ، لا يثبتون عند الحق ، ولا يقبلونه ، ولا يفهمونه )) اهـ .
قال الله تعالى: [ ومن الناس مَن يقول آمنا بالله فإذا أُوذِيَ في الله جعل فتنةَ الناس كعذاب الله ] [ العنكبوت : 10] .
وهذه صفة لازمة للمنافقين الذين يزعمون الإيمان الصادق بالله تعالى ، فإذا أُوذيَ وناله العذاب والشدة من الناس ، جعل أذى الناس كعذاب الله تعالى في الآخرة ، فارتد عن الإيمان ، ونكص على عقبَيْه. مما يدل على عدم تغلغل الإيمان في قلبه، إذ إن إسلامه ظاهري لا يجاوز لسانَه .
فالفتنُ حصاد المنافقين تحرقهم بنارها ، وتلغي وجودهم ، وتنقلهم من طمأنينة الإيمان إلى متاهة الشك والكفر . فالإيمانُ إذا كان ضعيفاً فإنه سينهار في وجه الفتن . تماماً كالشجرة المهزوزة غير الثابتة في الأرض والتي تفتقد إلى جذور راسخة ، فإن أدنى عاصفة سوف تقتلعها وتقضي على وجودها تماماً . فالفتنُ شديدة الخطورة على القلب الضعيف الذي لم يستقر فيه الإيمان ويسيطر على الجوارح. وسوف تكونُ تلك الفتن بمثابة الضربة القاضية التي تقصم مصيرَ الفرد . إذ إن خسارة الإيمان لا يمكن تعويضها ، وإذا أُصيب العمود الفقري للإنسان فإن شللاً لا يُرجى شفاؤه سوف يسيطر عليه حتى نهاية حياته . والدِّينُ هو عمودُ الحياة ، فإذا زال وانهار أمام عواصف الفتن فإن البناء الإنساني سوف ينهار ، وتصبح الحضارةُ خاويةً على عروشها جحيماً لا يطاق .
وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : كان ناس من أهل مكة قد أسلموا ، وكانوا مُسْتَخْفين بالإسلام ، فلما خرج المشركون إلى بدر أخرجوهم مُكْرَهين ، فأصيب بعضهم يوم بدر مع المشركين ، فقال المسلمون : أصحابنا هؤلاء مسلمون ، أَخْرَجوهم مُكْرَهين فاستغفروا لهم ، فاستغفروا لهم. فنزلت هذه الآية : (( إن الذين توفاهم الملائكةُ ظالمي أنفسهم )) [ النساء : 97] . فكتب المسلمون إلى من بقي منهم بمكة بهذه الآية ، فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق ظهر عليهم المشركون وعلى خروجهم ، فلحقوهم فردوهم فرجعوا معهم ، فنزلت هذه الآية : (( ومن الناس مَن يقول آمنا بالله فإذا أُوذِيَ في الله جعل فتنةَ الناس كعذاب الله )).
[قال الهيثمي في مجمع الزوائد( 7/ 68 ) : (( رواه البزار ، ورجاله رجال الصحيح غير محمد ابن شريك وهو ثقة )) . ].
فهؤلاء الذين رجعوا مع المشركين لم يصمدوا في وجه هذا التحدي ، ولم يحاولوا المقاومة أو الدفاع عن دينهم بسبب ضعفهم الذاتي وعدم تمكن الإيمان من قلوبهم ، لذلك انهاروا عند أول تجربة ، وسقطوا في أول امتحان . فهذه الفتنةُ قد اجتاحتهم وجرفتهم ، فخسروا الدنيا والآخرة .
قال الله تعالى : (( وإنا إذا أذقْنا الإنسانَ منا رحمةً فرح بها وإن تُصبهم سيئةٌ بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور )) [ الشورى : 48] .
أي إذا أصاب الإنسانَ رخاءٌ فرح وشعر بالسعادة الغامرة ، يكاد يطير من شدة الفرح . وإذا أصابته شدة أو بلاء فإنه كفور ، أي جاحد للنعم الكثيرة . فعلى الإنسان أن يثبِّت نفسَه في السراء والضراء ، ويظل دائمَ التوجه إلى خالقه تعالى ، سواءٌ أعطاه أم منعه ، لأن العطاء والمنع اختباران إلهيان لكي يرى اللهُ تعالى من ينجح ومن يفشل . فالمؤمنُ الحقيقي لا يُخضِع إيمانَه للرخاء والشدة في الحياة الدنيا ، فالإيمانُ أسمى من الدنيا بكل ما فيها . كما أن الدنيا وعاء للسراء والضراء ، وهذا الوعاء يحتوي الناسَ كلهم على اختلاف عقائدهم وأجناسهم .
وفي صحيح مسلم ( 4/ 2295 ) : عن صهيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( عجباً لأمر المؤمن ، إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سَراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له )) .
ومن أخطر العقائد الباطلة المستندة إلى اتباع الهوى الفاسد إنكار البعث بعد الموت . وهذا الإنكار مرجعه إلى تعلق النفس البشرية بالدنيا دون النظر إلى عالم الغيب بعين البصيرة والتفكر .
قال الله تعالى : (( وقالوا إن هِيَ إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين )) [ الأنعام : 29] .
إنهم محصورون في الحياة الدنيا ، ولا ينظرون إلى ما ورائها بعد الموت . وبالطبع فقد وَقعوا في فخ السِّحر الدنيوي المزيّف فاعتقدوا أن الدنيا هي البداية والنهاية . فعقيدةُ البعث غائبةٌ تماماً عن عقولهم، لذلك فأعمالهم تجيء بدافع الرياء والسّمعة والحميّة والعصبيات المختلفة بعيداً عن منهجية الثواب والعقاب يوم القيامة ، لأن الموت _ بالنسبة إليهم _ هو نهاية المطاف ، مع أنه هو نقطة البداية .
قال الطبري في تفسيره ( 5/ 176) : (( يخبر عنهم أنهم ينكرون أن الله يُحيي خلقه بعد أن يميتهم ويقولون : لا حياة بعد الممات ، ولا بعث ، ولا نشور بعد الفناء . فهم بجحودهم ذلك وإنكارهم ثواب الله وعقابه في الدار الآخرة لا يبالون ما أتوا وما ركبوا من إثم ومعصية ، لأنهم لا يرجون ثواباً على إيمان بالله ، وتصديق برسوله ، وعمل صالح بعد موت ، ولا يخافون عقاباً على كفرهم بالله وبرسوله )) اهـ .
وإنكار الحياة الأخروية له تأثير مدمِّر على الفرد والمجتمع ، لأنه يلغي في النفوس جزاءَ العمل ، فيصبح الإنسان لا ينتظر ثواباً ولا يخشى عقاباً . فهو _ كالأنعام _ يعيش ويأكل ويتمتع ويموت دون وجود غاية سامية يسعى إليها ، أو هدف راقٍ يتوِّج مسيرةَ حياته . مما يؤدي إلى تدمير البنية النفسية للفرد ، والقضاءِ على تماسك المجتمع ، وتفتيته إلى كيانات مصلحية آنية تفتقد إلى الوازع الإيماني الداخلي . فتصبح الحياةُ فوضى ميكانيكية قاتلة للروح والجسد ، ويتحول الفرد إلى آلة صماء تعمل بدون روح ، وحينما تعجز عن العمل تُرمَى في المهملات . فغيابُ النظر إلى ما وراء الموت يجعل من حياة الفرد موتاً متكرراً . كما أن الركون إلى الدنيا وبهرجها الزائل يورث في النفس قلقاً هائلاً. فعدمُ الإيمان بالبعث لا يعني الاستراحة من التفكير بالثواب والعقاب يوم القيامة، بل يعني مزيداً من الانكسار الروحي ، وتحايل المرء على ذاته ، وإغراق حياته في الخداع ، وعدم الاستعداد لنيل الخلود الأبدي والحصولِ على الخلاص .
وعن ابن عيينة قال : كان أهل الجاهلية يقولون : إن الدهر هو الذي يهلكنا ، هو الذي يميتنا ويحيينا ، فرد اللهُ عليهم قولهم . قال الزهري : عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( يقول الله _ عز وجل _ : يؤذيني ابن آدم ، يَسُب الدهْرَ ، و أنا الدهر ، أُقلب ليله ونهاره ، فإذا شئتُ قبضتُهما )) . وتلا سفيان _ ابن عيينة _ هذه الآية : [ ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ] [ الجاثية : 24] .
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 491 ) برقم ( 3690 ) وصححه ، ووافقه الذهبي .].
فأهلُ الجاهلية قد حشروا أنفسهم في حياة روتينية مملة بدون هدف راقٍ ( الأكل والشراب / النوم / الزواج / الموت ). وهذه الحياة القاتلة لمعنى الحياة تخلو من القيم السامية، وصناعةِ التاريخ، والإخلاصِ لله تعالى ، ونيل جنّته الخالدة . لذا فإن جنة المشركين هي في حياتهم الدنيا المحشورة في زاوية الضيق والضنك وغياب الطمأنينة النفسية . وهم ينسبون الموتَ إلى الدهر ، وأنه مرحلة طبيعية خاضعة للمبادئ الزمنية والقواعدِ الحسابية الخاصة بالشهور والسنوات .
وفي فتح الباري ( 8/ 575 ) : (( قال القرطبي : معناه يخاطبني من القول بما يتأذى من يجوز في حقه التأذي ، والله مُنَزّه عن أن يصل إليه الأذى ، وإنما هذا من التوسع في الكلام . والمراد أن من وقع ذلك منه تعرض لسخط الله . قوله : وأنا الدهر . قال الخطابي : معناه أنا صاحب الدهر ومدبر الأمور التي ينسبونها إلى الدهر ، فمن سبّ الدهرَ من أجل أنه فاعل هذه الأمور عاد سَبُّه إلى ربه الذي هو فاعلها ، وإنما الدهر زمان جُعل ظرفاً لمواقع الأمور ، وكانت عادتهم إذا أصابهم مكروه أضافوه إلى الدهر ، فقالوا بؤساً للدهر وتَبّاً للدهر )) اهـ .
وهكذا نجد أن العقائد الزائغة المبنية على اتباع الهوى قد أوصلت الكثيرين إلى الهاوية عبر انتهاج طريق خاطئة محتوية على مخالفات جمة . لكن تصحيح هذه السلوكيات السيئة دائماً يأتي في النصوص الشرعية لانتشال الناس من مستنقع الجهل والكفر الذي يتخبطون فيه .
ويظل الإيمانُ باليوم الآخر أساساً لتنظيم السلوك البشري وفق مراد الله تعالى . فالفردُ حينما يؤمن بوجود الثواب والعقاب بعد الموت ، فإنه سوف يسير في حياته الدنيا وفق الدرب المستقيم ، ويحسب أفعالَه بدقة لعلمه أن مُحاسَب عليها .
أما الذين أنكروا يومَ البعث فهم يعتقدون أن بوسعهم الهروب من النهار الساطع ، لكنّ الحقيقة أن لا أحد يستطيع الهروب من ضوء الشمس أو الاختباء وراء أصبعه. فقد اتبعوا أهواءهم بغير علم ، وغرتهم الحياة الدنيا التي جعلوها البدايةَ والنهاية في مسارهم الوجودي ، مما قادهم إلى الضياع الحتمي على كافة المستويات . فالاضطراب الروحي والانكسارُ الجسماني نتيجتان طبيعيتان لغياب المعنى عن الحياة البشرية في المجتمعات التي لا تؤمن بالله واليومِ الآخِر .
http://www.facebook.com/abuawwad1982
التعليقات (0)