مواضيع اليوم

أهمية التصوف الشرعي

أبوعبدالله السني

2011-09-02 03:06:02

0

أهمية التصوف:
إن التكاليف الشرعية التي أُمر بها الإنسان في خاصَّة نفسه ترجع إلى قسمين: أحكام تتعلق بالأعمال الظاهرة، وأحكام تتعلق بالأعمال الباطنة، أي: تتعلَّق بقلبه.
فالأعمال الظاهرة نوعان: أوامر ونواهٍ؛ فالأوامر الإلهية هي: كالصلاة والزكاة والحج…، وأما الأعمال القلبية فهي أيضًا: أوامر ونواهٍ؛ أما الأوامر: فكالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله…، وكالإخلاص والرضا والصدق والخشوع والتوكل…، وأما النواهي: فكالكفر والنِّفاق والكبر والعجب والرياء والغرور والحقد والحسد.
وهذا القسم الثاني المتعلِّق بالقلب لا يقل أهمية عن القسم الأول عند الشارع؛ لأن الباطن أساس الظاهر ومصدره، ففي فساده إخلال بقيمة الأعمال الظاهرة، وفي ذلك قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدً} [الكهف: 110]. ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُوَجِّه اهتمام الصحابة لإصلاح قلوبهم، فيقول: "أَلا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ القَلْبُ"(1). ويقول عليه الصلاة والسلام: "إنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلا إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ"(2).
فما دام صلاح الإنسان مربوطًا بصلاح قلبه الذي هو مصدر أعماله الظاهرة، تعيَّن عليه العمل على إصلاحه بتخليته من الصفات المذمومة التي نهانا الله عنها، وتحليته بالصفات الحسنة التي أمرنا الله بها، وعندئذٍ يكون القلب سليمًا صحيحًا، ويكون صاحبه من الفائزين الناجين قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88- 89].
وعلى هذا فسلامة الإنسان في آخرته هي في سلامة قلبه، ونجاتُه في نجاته من أمراضه المذكورة -كالحسد والرياء - وقد تخفى على الإنسان بعض عيوب نفسه، وتدق عليه عِلَل قلبه، فيعتقد في نفسه الكمال، وهو أبعد ما يكون عنه، فما السبيل إلى اكتشاف أمراضه؟ والتعرف على دقائق عِلَل قلبه؟ وما الطريق العملي إلى مُعَالَجَة هذه الأمراض، والتخلُّص منها؟
إنه التصوف الإسلامي المبني على الكتاب والسنة هو الذي اختص بمعالجة الأمراض القلبية، وتزكية النَّفْس والتخلُّص من صفاتها الناقصة.
أما تحلية النفس بالصفات الكاملة؛ كالتوبة والتقوى والاستقامة والصدق والإخلاص والزهد والورع والتوكل والرضا والتسليم والأدب والمحبة والذكر والمراقبة… فللصوفية بذلك الحظ الأوفر من الوراثة النبوية، في العلم والعمل(3).
حكم سلوك طريق التصوف:
حث جمهور العلماء على سلوك طريق التصوف حيث لا يكمل دين المرء إلا به، وجعلوه واجبا محتما لمن ابتلي بأمراض النفوس والقلوب كالحسد والرياء والكبر وغيرها مما يجب على المرء شرعا التخلص منه، وبيان ذلك من وجوه:
الوجه الأول: أنه مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة المبينة في حديث جبريل الطويل، فمقام الإحسان هو مقامهم الذي هم فيه من العمل بظاهر الكتاب والسنة ولا مقام فوق ذلك، ولا شك أن الدين يجب اتباعه بجميع أركانه، الإيمان والإسلام والإحسان… فغاية ما تدعو إليه الطريقة وتشير إليه هو مقام الإحسان بعد تصحيح الإسلام والإيمان ليحرز الداخل فيها والمدعو إليه مقامات الدين الثلاثة الضامنة لمحرزها كمال الدين فإنه كما في الحديث عبارة عن الأركان الثلاثة فمَنْ أخلَّ بمقام الإحسان الذي هو الطريقة فدينه ناقص بلا شك لتركه ركنا من أركانه، وقد بَيَّن القرآن العظيم من أحوال التصوف والطريقة ما فيه الكفاية، فتكلم على المراقبة والمحاسبة والتوبة والإنابة والذكر والفكر والمحبة والتوكل والرضا والتسليم والزهد والصبر والإيثار والصدق والمجاهدة ومخالفة الهوى والنفس، وتكلم عن النفس اللوامة والأمارة والمطمئنة، وعلى الأولياء والصالحين والصديقين والمؤيدين، وغير هذا مما يتكلم فيه أهل التصوف والطريقة رضي الله عنهم.
الوجه الثاني: أن التصوف هو العلم الذي تكفَّل بالبحث عن علل النفوس وأدوائها وبيان علاجها لتصل إلى مرتبة الكمال والفلاح وتدخل في ضمن قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] ولا شك أن علاج النفس من أمراضها وأدرانها أمر يوجبه الشرع القويم ويستحسنه العقل السليم، ولولا ذلك لما كان هناك فرق بين الإنسان والحيوان.
الوجه الثالث: أن التصوف عُنِيَ بتهذيب الأخلاق وتزكيتها ومخالفة هو النفس والأخذ بعزائم الأمور والارتفاع بالنفس عن حضيض الشهوات إلى حيث تستمتع بما تورثه الطاعة من لَذَّة رُوحِيَّة تصغر بجانبها كل لذة مهما عظم قدرها.
الوجه الرابع: أن التصوف هو خلق الصحابة والتابعين والسلف الصالح الذي أمرنا بالاقتداء بهم والاهتداء بهديهم، لأنه من أركان الدين.
الوجه الخامس: أن في سلوك الطريق صحبة المشايخ الكمل، والاقتداء بهم والاهتداء بهديهم، وقد أمر الله بذلك في قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15].
الوجه السادس: أن سلوك الطريق يُنَوِّر بصيرة الشخص ويسمو بِهِمَّتِه حتى لا يبقى له تعلُّق إلا بالله ولا يكون له الاعتماد إلا عليه، فيصير مصون السر عن الالتفات إلى الخلق مرفوع الهِمَّة عن تأميلهم اكتفاء بالحق، متحققًا بالحقيقة في جميع الأحوال مُتَوَسِّمًا بالشريعة في الأقوال والأفعال، وهذا أعلى ما يُطْلَبُ من المؤمن، وإليه أشار عليه الصلاة والسلام لابن عباس بقوله: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله"(4).
الوجه السابع: أن في سلوك الطريق بصحبة شيخ مُرْشِدٍ عارف خروجا من رُعُونات النَّفس وحماية للمريد من كل ما يمنعه من الوصول إلى الله تعالى من أنواع الجهل والغرور ودواعي الهوى الموقعة في ظلمة القلب وإطفاء النور، ولهذا قال ابن عطاء الله في لطائف المنن: "شيخك هو الذي أخرجك من سجن الهوى ودخل بك على المولى، شيخك هو الذي ما زال يجلو مرآة قلبك حتى تجلى فيه أنوار ربك، نهض بك إلى الله فنهضت إليه، وسار بك حتى وصلت إليه، ولا زال محاذيا لك حتى ألقاك بين يديه فزج بك في نور الحضرة وقال: ها أنت وربك"(5).
الوجه الثامن: أن في سلوك الطريق الإكثارَ من ذكر الله والاستعانة بصحبة الشيخ على ذلك، ولا شك أن الذكر يصفي القلوب ويدعو إلى اطمئنانه، كما قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] وكل أمْرٍ أمَرَ الله به في القرآن جعل له حدًّا وشرطا ونهاية إلا الذِّكْر، فإن الله تعالى لم يقيده بحد ولا شرط ولا نهاية، حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا} [الأحزاب: 41-42] (6).
وقد رغَّب الصوفية في اتخاذ الشيخ مرشدا إلى الله، وهو الشيخ العارف السالك المتصف بصفات تجعله مربيًا مرشدا، وهو الذي اتصف بكمال المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما ذكره القشيري في رسالته: "ثم يجب على المريد أن يتأدَّب بشيخ؛ فإن لم يكن له أستاذ لا يفلح أبدًا. هذا أبو يزيد يقول: مَن لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان. وسمعت الأستاذ أبا عليِّ الدقاق يقول: الشجرة إذا نبتت بنفسها من غير غراس فإنها تورق، ولكن لا تُثمر؛ كذلك المريد إذا لم يكن له أستاذ يأخذ منه طريقته نفسا نفسا فهو عابد هواه، لا يجد نفاذًا". (7)
الهوامش:
———————-
(1 ) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب «الإيمان» باب «فضل من تبرأ لدينه» حديث (52)، ومسلم في كتاب «المساقاة» باب «أخذ الحلال وترك الشبهات» حديث (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
( 2) أخرجه مسلم في كتاب «البر والصلة والآداب» باب «تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه» حديث (2564).
(3 ) وللتوسع في بيان أهمية التصوف راجع: لطائف المنن، ابن عطاء الله السكندري، تحقيق: عبد الحليم محمود (ص 63) وما بعدها، شفاء السائل وتهذيب المسائل، ابن خلدون (ص 44) وما بعدها. التصوف في الإسلام وأهم الاعتراضات الواردة عليه، د. محمد عبد اللطيف العبد، (ص 37 – 68).
(4 ) أخرجه الترمذي في كتاب «صفة القيامة والرقائق والورع» حديث (2516).
(5 ) للاستزادة في موضوع وجوب اتخاذ شيخ راجع: إيقاظ الهمم، ابن عجيبة (27). التصوف في الإسلام وأهم الاعتراضات الواردة عليه، د. محمد عبد اللطيف العبد، (ص 99 – 103).
(6 ) حسن التلطف في بيان وجوب سلوك التصوف (ص 7) وما بعدها .
(7 ) مقدمة شفاء السائل وتهذيب المسائل، ابن خلدون (ص 9).
المصادر والمراجع :
————————–
1) التصوف في الإسلام وأهم الاعتراضات الواردة عليه، د. محمد عبد اللطيف العبد، القاهرة: دار النصر، ط 2، 1419 هـ / 1999 م.
2) إيقاظ الهمم في شرح الحكم، لابن عجيبة، تقديم وتحقيق محمد أحمد حسب الله ، ذخائر العرب (رقم 56) ، القاهرة : دار المعارف ، بعد سنة 1404 هـ / 1983 م.إيقاظ الهمم في شرح الحكم، ابن عجيبة، دار المعارف.
3) حسن التلطف في بيان وجوب سلوك التصوف، عبد الله الغماري ، القاهرة : مكتبة القاهرة ، 1415 هـ / 1994 م.حسن التلطف في بيان وجوب سلوك التصوف، عبد الله الغماري.
4) سنن الترمذي، تحقيق: الشيخ/ أحمد محمد شاكر، بيروتالناشر: دار إحياء التراث العربي (بيروت).
5) شفاء السائل وتهذيب المسائل، لابن خلدون، تحقيق: محمد مطيع الحافظ، دار الفكر المعاصر، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى 1417هـ/ 1996م.
6) صحيح البخاري، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا، بيروت الناشر: دار ابن كثير، اليمامة (بيروت)، الطبعة الثالثة 1407 هـ - 1987م.
7) صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت الناشر: دار إحياء التراث العربي- بيروت.
لطائف المنن لابن عطاء الله السكندري، تحقيق: عبد الحليم محمود، دار المعارف.
المصدر: قسم الأبحاث الشرعية بدار الإفتاء المصرية




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات