أهدف الغزو
- وإن كان عسكرياً بالدرجة الأولى- هو احتلال الأرض، أما الغزو الثقافي فيهدف إلى احتلال العقل؛ فهو أخطر من الغزو العسكري، وعلامة ذلك أن الغزو العسكري يستمد قوته من آليات الإخضاع الخارجي، بينما ييسّر الغزو الثقافي آليات الإخضاع الداخلي، مما يبدو وكأنه تعمية للحال، أو تجميل له، فيُقبل الإخضاع على أنه شيء آخر غير الإخضاع، لالتباسه بمفاهيم كثيرة تتصل بعمليات التكوين الذاتي، كالنمو والاستقلالية والأصالة والصلابة والسلطة والمناعة والوعي.. الخ.
وما يزال أمر الغزو الثقافي، استتباعاً لذلك، محيراً لدى الكثيرين؛ إذ لا ترى فئة من الناس أنه غزو، فتختار له تسميات أخرى، وتهون فئة أخرى من شأنه على أن الحديث عنه وعن مخاطره ألعوبة أو وهم، بل إن فئة ثالثة تدعو له سبيلاً للمثاقفة، وهؤلاء يهونون أيضاً من أمر المثاقفة، فلا يجدون فيها تأثير ثقافة غازية قاهرة في ثقافة مغزوة مقهورة، وإنما يعدون المثاقفة تلاقحاً معرفياً وحضارياً يعزز التواصل بين (تراثات) الإنسانية، ويغنيها، ويوردون حججاً لا نهاية لها عن العلاقات الثقافية بين الشعوب، واستكمال شروط النهضة أو التقدم، وهل علينا أن نذكر الخلاف القائم حول الحملة الفرنسية على مصر؛ هل كانت نعمة أم نقمة؟ فهناك من يتباكى على خروج المستعمر من بلاده، وكنت قرأت نصاً لأحدهم يصف تجربته في المعتقلات الصهيونية في فلسطين المحتلة، يعجب فيه من ديمقراطية العدو الإسرائيلي وتقدمه، مؤكداً أن السيء هو إجراءات الاعتقال والتعذيب...الخ.
إن ابن خلدون كان يعني الغزو الثقافي في قوله الواضح: (إنما تبدأ الأمم بالهزيمة من داخلها عندما تشرع في تقليد عدوها).
كان الغزو العسكري يستهدف احتلال الأرض، فهو غزو من الخارج، من أجل الهيمنة السياسية التي تصل إلى حد إلحاق المستعمَر (بفتح الميم) بالمستعمِر (بكسر الميم)؛ وحدث هذا مع الجزائر والهند على سبيل المثال، ومن أجل الهيمنة الاقتصادية، لدوام النهب الاستعماري لخيرات الشعوب وثرواتها الطبيعية ومواقعها الاستراتيجية.
غير أن الغزو الثقافي يستهدف احتلال العقل، فهو غزو من الداخل، وهوالأخطر، لأنه يضمن بعد ذلك، في حالات الضعف الذاتي وتخريب المناعة الذاتية، دوام الهيمنة على الإدارة والإمكانات القومية برمتها. لقد تطور الاستعمار كثيراً، من شكله القديم العسكري المباشر، إلى شكله الجديد الاقتصادي؛ سواء تأمين المصادر أو الطاقة أو الثروات الطبيعية، أو البحث عن أسواق، إلى الاستعمار الثقافي، المختلف على تسميته، الذي لا يحتاج إلى الأسلحة التقليدية، لأنه مزود بسلاحه الفتاك الداخلي، أعني به التنميط الثقافي من خلال آلية صناعة العقل.
التعليقات (0)