أنواع التضمين في علوم اللغة العربية
( النحو- البلاغة – علم القافية- الصوتيات)
أ: عبد الحليم ريـوقي
الجزائر
مقدمة:
تعددت العلوم وتنوعت الاختصاصات فيها، وبين هذا وذاك تداخلت العلوم في ما بينها بما يحتاج كل علم إلى العلوم الأخرى من جهة، ومن جهة ثانية لوجود عدة فروع علمية تتجاذبها عدة علوم، فكل علم يرى بأنه الأحق به من غيره، وهو من جملة اختصاصاته، وإذا تركنا هذا الباب وطرقنا باب تداخل المفاهيم العلمية والمصطلحات ليس بين عدة علوم فحسب بل في العلم الواحد، فيمكن أن تجد مصطلحا واحدا يدل على عدة مفاهيم مختلفة، وهذا مرده إلى اللغة في حد ذاتها، فالعلماء قديما وحديثا عندما يريدون تسمية علم أو فن من الفنون العلمية، يبحثون في اللغة عن مفردات تكتنف هذا العلم، وتكون دالة عليه من الجانب المصطلحي، فيرجعون إلى التعاريف الموجودة في المعاجم اللغوية، أو دون الرجوع إليها بالاعتماد على زادهم اللغوي، فيجدون بأن هذا اللفظ أنسب لهذا الفن أو غيره، وكذلك يفعل غيرهم، وهنا يقع التماثل والتشاكل والتطابق اللفظي والمصطلحي، إذا كان التعريف اللغوي للمصطلح العلمي يناسب هذه الفنون المختلفة، ويجعلها تدخل في مضمونه.
وعلى هذا نجد عدة مصطلحات، ومنها مصطلح التضمين، والذي نجده في علوم متعددة: النحو، البلاغة، علم القافية، الصوتيات، بل حتى في علم البلاغة فهو مصطلح واحد لثلاثة فنون مختلفة، وقبل الخوض في هذا الجانب نعرف التضمين لغة.
التّضمين لغة: التّضمين مصدر قياسي على وزن التّفعيل، وفعله الماضي ضمّن على وزن فعّل، ويقال ضمّن يضمّن تضمينا، والجذر الثّلاثي للكلمة هو (ض م ن).
"ضمن، الضاد والميم والنون أصل صحيح، وهو جعل الشّيء في شيء يحويه من ذلك قولهم: ضمّنت [الشّيء] إذا جعلته في وعائه، والكفالة تسمّى ضمانا من هذا، لأنّه إذا ضمنه فقد استوعب ذمته"[1]، "ورجل ضمن، وقوم ضمنى وهو من الضّمان، ومعناه لزم مكانه كما يلزم الكفيل العهدة أو لزم علّته، وكانت ضمنة فلان أعواما [بالضمّ]"[2]، "وضمّنته الشّيء تضمينا فتضمّنه يعني غرمته فالتزمه [...]، ورجل مضمون اليدّ مخبولها"[3]، "وفهمت ما تضمّنه كتابك أي ما اشتمل عليه، وكان ضمنه وأنفذته ضمن كتابي أي في طيّه"[4]، "وضمّن الشّيء الشّيء: أودعه إيّاه كما تودع الوعاء المتاع، والميّت القبر"[5].
"ويقال شرابك مضمّن إذا كان في كوز أو إناء"[6]،" والمضامين: ما في بطون الحوامل، وأمّا المضامين فإنّ أبا عبيد قال: هي ما في أصلاب الفحول [...] من كلّ شيء، ومنه الحديث أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم نهى عن بيع الملاقيح والمضامين، [...]، والضّامنة ما تضمنته القرى، والأمصار من النّخل" [7]، "وفي الحديث: "الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن" أراد بالضّمان هاهنا الحفظ والرّعاية لا ضمان الغرامة لأنّه يحفظ على القوم صلاتهم"[8].
"والضّمن والضِّمان والضَّمان والضّمنة والضّمانة: الدّاء في الجسد من بلاء أو كبر [...]، وقد ضمن (بالكسر)، ضمنًا كمرض وزمن [...]، وفي حديث عبد الله بن عمر: "من اكتتب ضمنا بعثه الله ضمنا يوم القيامة"، أي من سأل أن يكتب نفسه في جملة الزّمنى ليعذر عن الجهاد ولا زمانة به"[9]، "الضّمن:الزّمن فإنّه من باب الإبدال كأن الضّاد مبدلة من زاي"[10]، "والضمانة: الحبّ [...]، ورجل ضَمِن : عاشق"[11]، "ومضمون اسم"[12].
التّضمين اصطلاحا في علوم اللغة العربية ( النحو، البلاغة، علم القافية، الصوتيات)
التّضمين في اللغة العربية هو مصطلح دال لخمسة مفاهيم وهي :
1/التّضمين في علم النّحو [و علم البيان] (saturation sémantique/sémantic saturation)
2/ التّضمين في علم العروض (enjambement/enjambement)
3/ التّضمين المزدوج ( لا يوجد ما يقابلها باللغة الفرنسية أو الإنجليزية)
4/ التضمين في علم الصوتيات ( لا يوجد ما يقابلها باللغة الفرنسية أو الإنجليزية في حدود علمنا)
5/ التّضمين في علم البديع (insertion dune citation / quotation /insertion of a….).
أولا: التضمين في علم النّحو [و علم البيان] :(saturation sémantique/semantic saturation)
التضمين في علم النحو وعلم البيان: "هو إشراب كلمة معنى أخرى لتتعدّى تعديتها نحو الآية "﴿عينا يشرب بها المقرّبون﴾"[13] فالفعل شرب تعدى بالباء لتضمينه معنى ارتوى، ونحو الآية ﴿"والله يعلم المفسد من المصلح"﴾[14] حيث ضمّن يعلم معنى يميّز"[15].
وقال الزّركشي (ت794هـ): "هو إعطاء الشّيء معنى الشّيء، وتارة في الأسماء والأفعال، وفي الحروف، فأمّا في الأسماء فهو أن تضمّن اسما معنى اسم لإفادة معنى الاسمين جميعا كقوله تعالى:"﴿حقيق على أن لا أقول على الله إلاّ الحقّ﴾"[16]، ضمّن حقيق معنى حريص ليفيد أنّه محقوق بقول الحقّ، وحريص عليه، وأمّا الأفعال فأنّ تضمّن فعلا معنى فعل آخر، ويكون فيه معنى الفعلين جميعا، وذلك بأنّ يكون الفعل يتعدّى بحرف فيأتي متعدّيا بحرف آخر ليس من عادته التّعدي به، فيحتاج إمّا لتأويله أو تأويل الفعل ليصّح تعديه به مثل قول الله تعالى﴿عينا يشرب بها عباد الله﴾"[17] "فضمّن يشرب معنى يروي، فأريد باللفظ الشّرب والرّيّ معا فجمع بين الحقيقة، والمجاز في لفظ واحد، وقيل التّجوز في الحرف، وهو الباء فإنّها بمعنى من"[18]، أمّا تضمين الحرف فهو كما رأينا في الآية السّابقة في تضمين الباء معنى من، أو كما في قول الله تعالى "﴿فقل هل لك إلى أن تزّكى ﴾"[19]، "وإنّما يقال هل لك في كذا ؟، لكن المعنى أدعوك إلى أن تزكى"[20] فضمّن حرف " إلى " معنى حرف " في " .
أمّا الرّماني (ت 384 هـ) فيعرف التّضمين بقوله: "تضمين الكلام هو حصول معنى فيه من غير ذكر له باسم أو صفة هي عبارة عنه"[21]، ويضع الرّماني التّضمين على نوعين: "ما كان يدلّ عليه الكلام دلالة الأخبار، وما يدلّ عليه دلالة القياس"[22].
فالّذي يدلّ عليه الكلام دلالة الإخبار كذلك الشّيء بأنّه محدث فهذا يدلّ على المحدث دلالة الإخبار، والتّضمين في الصّفتين جميعا، ومثال على ذلك مكسور ومنكسر، والتّضمين كلّه إيجاز استغني به عن التّفصيل إذا كان مما يدلّ دلالة الإخبار في كلام النّاس[23]، فمقتول يؤكد بوجود قاتل، ولا مقتول بدون قاتل.
"وأمّا التّضمين الّذي يدلّ عليه دلالة القياس فهو إيجاز في كلام الله عزّ وجلّ خاصّة لأنّه تعالى لا يذهب عليه وجه من وجوه الدّلالة [...]، وليس كذلك سبيل غيره من المتكلّمين بتلك العبارة لأنّه قد تذهب إليه دلالتها من جهة القياس، ولا يخرجه ذلك عن أن يكون قد قصد بها الإبانة عما وضعت له في اللغة من غير أن يلحقه الفساد في العبارة، وكلّ آية لا تخلو من تضمين لم يذكر باسم أو صفة فمن ذلك "بسم الله الرحمن الرحيم" قد تضمن التّعليم لاستفتاح الأمور على التّبرك به والتّعظيم لله بذكره، وأنّه أدب من آداب الدّين، وشعار المسلمين، وأنّه إقرار بالعبودية، واعتراف بنعمه التي هي من أجلّ نعمة"[24].
ويقول ابن هشام الأنصاري (ت 761 هـ): "وفائدة التّضمين أن يدلّ بكلمة واحدة على معنى كلمتين يدلك على ذلك أسماء الشّرط، والاستفهام، ونظيره أيضا قوله عليه الصّلاة والسّلام: "كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه أو ينصّرانه"[25]، لا يجوز أن تعلق حتّى يولد لأنّ الولادة لا تستمر إلى هذه الغاية، بل الّذي يستمر إليها كونه على الفطرة، فالصّواب تعليقهما بما تعلقت به "على"، وأنّ "على" متعلقة بكائن محذوف منصوب على الحال من الضّمير في يولد، ويولد خبر كان"[26].
"والتّضمين النّحوي هو سبب في تعدّي الفعل اللازم، ولزوم الفعل المتعدّي، فأسباب تعدّي الفعل اللازم أصلها ثمانية.
1- الهمزة: كأكرم زيد عمرا
2- التّضعيف: كفرّحت زيدا
3- زيادة ألف المفاعلة نحو: جالس زيد العلماء.
4- زياد حرف الجرّ: ذهبت بعليّ.
5- زياد الهمزة والسّين والتّاء، نحو: استخرج زيد المال.
6- حذف حرف الجرّ توسعا كقوله:
تمرّون الدّيار ولم تعوجوا كلامكم عليّ إذن حرام[27]
فحذف الباء من الدّيار لأنّ الأصل تمرّون بالدّيار.
7- تحويل اللازم إلى باب خصر، لقصد المغالبة نحو، قاعدته، فقعدته، فأنا أقعده.
8- التّضمين النّحوي: "وهو أن تشرّب كلمة لازمة معنى كلمة متعدّية لتتعدى تعديتها نحو "﴿ولا تعزموا عقدة النّكاح حتّى يبلغ الكتاب أجله﴾"[28]. ضمّن تعزموا معنى تنووا، فعدّي تعديته"[29].
"والتّضمين النّحوي هو أيضا أحد أسباب لزوم الفعل المتعدّي، وهي في جملتها خمسة أسباب وهي:
1/ التّضمين النّحوي، وهو أن تشرب كلمة متعدية معنى كلمة لازمة، لتصير مثلها كقوله تعالى "﴿فليحذر الذين يخالفون عن أمره﴾"[30] ضمّن يخالف معنى يخرج، فصار لازما مثله.
2/ تحويل الفعل المتعدّي إلى فَعُل بضمّ العين، لقصد التّعجب، والمبالغة نحو ضَرُب زيد، أي ما أضربه أو جَمُلَ المنظر أي ما أجمله.
3/ صيرورته مطاوعا ككسرته فانكسر.
4/ضعف العامل بتأخيره كقوله تعالى "﴿إن كنتم للرؤيا تعبرون﴾"[31]
5/ الضّرورة كقوله:
تبلت فؤادك في المنام خريدة تسقي الضّجيع ببارد بسّام[32]
أي تسقي ريقا باردا"[33].
والتّضمين بهذا المعنى نجد من العلماء من يضعه في باب المجاز، وهو متّصل بعلم البيان، فأبو عبيدة (ت 210 هـ) يسمّيه المجاز في الحرف فيقول: "ومن مجاز الأدوات اللواتي لها معان في مواضع شتى في بعض تلك المواقع لبعض تلك المعاني، يقول الله تعــــالى: ﴿ ولأصلّبنكم في جذوع النّخل﴾"[34]، فمعناه على جذوع النّخل، وهو مجاز في الحرف، وفي قوله تعالى ﴿ الذين إذا اكتالوا على النّاس يستوفون﴾" [35] فمعناه من النّاس"[36].
ويقول أبو البقاء الكفوي (ت 1094 هـ): "وقال بعضهم: التّضمين إيقاع لفظ موقع غيره ليضمّنه معناه، وهو نوع من المجاز"[37]، ويقول التّهانوي (ت 1158 هـ): "التّضمين مجاز لأنّ اللفظ لم يوضع للحقيقة والمجاز معا، والجمع بينهما مجاز"[38]، ويقول الزّركشي(ت794هـ): "والتّضمين أيضا مجاز لأنّ اللفظ لم يوضع للحقيقة والمجاز معا، والجمع بينهما مجاز خاص يسمّونه التّضمين تفرقة بينه وبين المجاز المطلق"[39]، وإذا ما نظرنا في تعريف المجاز عند البلاغيين فإنّ من تعريفهم له يدخل ما قلناه تحت غطاء المجاز، يقول عبد القاهر الجرجاني (ت471هـ) معرفا المجاز: "وأمّا المجاز فكلّ كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثّاني والأوّل، وإن شئت قلت: كلّ كلمة جزت بها ما وقعت له في وضع الواضع إلى ما توضع له"[40]، ففي الآية "في جذوع النّخل" أريد بها غير ما وقعت له وهي على جذوع النّخل، وكذلك في الآية "على النّاس" كلمة جزنا بها ما وقعت له في وضع الواضع إلى ما توضع له، وهي "من النّاس".
وقد قرر مجمع اللغة العربيّة ما يلي: "التّضمين أن يؤدي فعل أو ما في معناه في التّعبير مؤدّى فعل آخر أو في معناه فيعطي حكمه في التّعدية واللزوم، وهو قياسي لا سماعي بشروط ثلاثة:
أوّلا: تحقق المناسبة بين الفعلين.
ثانيا: وجود قرينة تدلّ على ملاحظة الفعل الآخر يؤمن معها اللبس.
ثالثا: ملائمة التّضمين للذوق العربيّ.
ويوصي المجمع ألاّ يلجأ إلى التّضمين إلاّ لغرض بلاغي"[41].
وعد عبد السلام مسدي (ت2005 م) التضمين النحوي ضمن الانزياح [42] أو ما يعرف بالعدول أو الانحراف écart/déviation (الذي يعده كثير من الدارسين كوجه من أوجه الأسلوبية) وهو العدول عن المعيار norme، والمعيار هنا هو معيار لغوي، وكأن التضمين النحوي هو عدول وانزياح لغوي على جهة العدول عن استعمال اللفظ ( فعل، حرف، اسم...) إلى استعمال آخر مكانه.
ثانيا: التّضمين في علم العروض ( علوم القافية) (enjambement, enjambement):
التّضمين في علم العروض متّصل بعلم القافية، وهو عيب من عيوب القافية إلى جانب "الإيـطاء، الإقـــواء، الإصراف، الإكفاء، الإجازة، السّناد"[43].
"فالتّضمين: تعلق قافية البيت بما بعده بأنّ يكون السّابق غير مستقل بنفسه [...]، ويسمّى تضمينا لأنّ الشّاعر ضمّن البيت الثّاني معنى الأوّل لأنّه لا يتمّ الكلام إلاّ بالثّاني[44]، أو (هو افتقار القافية إلى البيت الذي بعدها في إفادة معناها) أي (ربط البيت السّابق بالبيت الّذي تلاها بأن تفتقر إليه في الإفادة)"[45].
ويقول عنه السّكاكي (ت626هـ): "التّضمين المعدود في العيوب، وهو تعلق آخر البيت بأوّل البيت الّذي يليه على نحو قوله : وسائل تميما بـنا والرّباب وسائل هوازن عنّا إذا ما
لقيناهم كيف هنّو لهــم ببيض تعلق بيضا وهاما "[46].
"ويكون قبيحا وجائزا، فالأوّل [القبيح]: إذا اشتملت قافية البيت الأوّل على شرط أو قسم أو مبتدأ أو فعل موصول ...، وكان جواب الشّرط أو جواب القسم أو الخبر أو فاعل الفعل أو صلة الموصول فيما بعده بحيث لا يتمّ الكلام إلاّ به كقول النّابغة :
وهم ورد الجفار على تميم وهم أصحاب يوم عكاظ أنّى
شهدت لهم مواطن صادقات شهدن لهم بحسن الظنّ منّي"[47]
"والثّاني [الجائز] إذا تمّ الكلام بدون ما في البيت الثّاني، والحاجة إليه تكميل المعنى فقط كالتّفسير، والنّعت، وغيره (أما إذا ربط بشيء من البيت السّابق غير كلمة رويه بالبيت اللاحق فليس تضمينا).
كقول بعض المحدثين :
إن أبطأت الحــا جة عنّي والسرّاح
فـعليّ السّعي فيها وعلى الله النّجاح"[48]
ويقول ابن رشيق القيرواني (ت456هـ): "وكلّما كانت اللفظة المتعلقة بالبيت الثّاني بعيدة عن القافية كان أسهل عيبا من التّضمين"[49]، ومن النّقّاد المتقدّمين من لا يعدّه عيبا كابن الأثير (ت637هـ) حيث يقول: "وهو عندي غير معيب لأنّه إن كان سبب عيبه أن يعلق البيت الأوّل على الثّاني فليس ذلك بسبب يوجب عيبا"[50]، "و[هو] ليس بعيب عند الأخفش، وقال ابن جنّي هذا الّذي رآه أبو الحسن من أنّ التّضمين ليس بعيب مذهب تراه العرب، وتستجيزه، ولم يعد فيه مذهبهم من وجهين أحدهما السّماع، والآخر القياس أمّا السّماع فلكثرة ما يرد عنهم من التّضمين، وأمّا القياس قد وضعت العرب الشّعر وضعا دلت به على جواز التّضمين عندهم"[51].
ثالثا: التّضمين المزدوج( علم البلاغة):
وهو من المحسنات البديعية اللفظية، عرّفه الوطواط (ت573هـ) بقوله: "ويكون بأن يورد الشّاعر أو الكاتب في عباراته أو أبياته لفظين أو أكثر مزدوجين وذلك بمراعاته لحدود الأسجاع والقوافي[52]"، وعرفه الرّازي (ت606هـ) بقوله: "وهو أن يتكلم المتكلّم بعد رعايته الأسجاع يجمع في أثناء القرائن بين لفظتين متشابهتي الوزن، والرّوي كقوله تعالى: ﴿"وجئتك من سبإ بنبإ يقين﴾"[53]"-[54]، وعرّفه ابن قيّم الجوزية (ت751هـ) بقوله: "وهو أن يقع في الفقرات لفظان مسجوعان بعد مراعاة حدود الأسجاع، والقوافي الأصلية [...]، ومثال من النّظم قول الشاعر:
تعوّد رسم الرّهب والنّهب في العلا وهذان وقت اللطف والعنف دأبه"[55].
وعرفه ابن الزّملكاني (ت651هـ): "وهو أن يقع في أثناء قرائن النّثر أو النّظم لفظان مسجعان، مع مراعاة حدود الأسجاع الأصلية [...] كقول بعض البلغاء: فلان رفع دعامة الحمد والمجد بإحسانه، وبرز بالجِدّ والجَدّ على أقرانه"[56].
نلاحظ وجود تقارب لفظي "جناس" أو تشابه في الوزن والرّوي بين سبأ ونبأ، وكذلك بين الرّهب والنّهب، واللطف والعنف، والحمد والمجد، والجدّ والجَد،ّ وهي ألفاظ مسجوعة ليس على حدود السّجع، ولا يوجد بينها فاصل، وهذا ما يعرف بالتّضمين المزدوج.
رابعا: التضمين في علم الصوتيات:
فالمضمّن من الأصوات: " والمُضَمَّنُ من الأصوات، تقول للإنسان: قِفْ ) قُلَى ( بإشمام اللام الحركة، وعلى فعلْ بتسكين العَيْن وتحريك اللاّم، فيقال: هذا صوت مُضَمَّنٌ لا يُستَطاع الوقوفُ عليه حتى يوُصَل بشَمِّه كذا"[57]، والتضمين من هذه الجهة ذكر في كتب اللغويين المتقدمين، ولا نجد له أي أثر في كتب اللغويين المحدثين، وهذا يدخل في باب أن التراث اللغوي العربي القديم به كنوز علمية وجب التنبه لها، وتناولها بالدراسة.
خامسا: التّّّضمين في علم البديع ( البلاغة):(insertion dune citation, quotation insertion of a)
وهو فن من المحسّنات اللفظية البديعية (السّجع،الجناس،الاقتباس...)، وعرّفه كثير من العلماء والبلغاء بعدّة تعاريف، وسمّوه بعدّة أسماء ونورد هذه التّعاريف كما يلي: سمّاه الحاتمي (ت 388هـ) بالاجتلاب والاستلحاق فقال: "وبعض العلماء لا يراهما عيبا، ووجدت يونس بن الحبيب وغيره من علماء الشعر يسمّي البيت يأخذه الشّاعر على طريق التمثيل فيدخله في شعره اجتلابا واستلحاقا"[58]، وابن رشيق (ت 456 هـ) فيقول عنه "أمّا التّضمين فهو قصدك إلى البيت من الشّعر أو القسيم فتأتي به في آخر شعرك أو في وسطه كالمتمثّل"[59].
وعرّف رشيد الدّين الوطواط (ت573هـ) التّضمين بقوله: "تكون هذه الصّنعة بأن يدخل الشّاعر في شعره على سبيل التّمثّل والعارية لا على سبيل السّرقة مصراعا أو بيتا أو بيتين من قول شاعر آخر، ويجب أن يكون بيت التّضمين مشهورا، وأن تكون هناك إشارة صريحة على التّضمين بحيث تزول تهمة السّرقة عن الشّاعر لدى سامعيه"[60]، وأسامة بن منقذ (ت 584 هـ) يعرّفه بقوله: "اعلم أنّ التّضمين هو أن يتضمّن البيت كلمات من بيت آخر"[61]، وابن الأثير (ت 637 هـ) فإلى جانب التّضمين الحسن والّذي قصد به الاقتباس، فيسمّيه التّضمين، ويعرّفه بما نصه: "التّضمين وهو أن يضمّن الشّاعر شعره والنّاثر نثره كلاما آخر لغيره قصدا للاستعانة على تأكيد المعنى المقصود"[62].
والخطيب القزويني (ت 739هـ) يعرّفه بقوله: "أمّا التّضمين فهو أن يضمّن الشّعر شيئا من شعر الغير مع التّنبيه عليه إن لم يكن مشهورا عند البلغاء"[63]، وبهاء الدّين السّبكي (ت777هـ) يقول في تعريفه له: "التّضمين أن تجعل ضمن الشّعر شيئا من شعر غيرك ولو بعض مصراع، وإن كان مشهورا فشهرته تغني عن التّنبيه عليه، وإن لم يكن مشهورا فلينبه عليه خوفا أن يظنّ به السّرقة بذكر ما يدلّ على نسبته لقائله"[64].
ويعرّفه سعد الدّين التفتازاني (ت 792 هـ) بقوله: "أمّا التّضمين فهو أن يضمّن الشّعر شيئا من شعر الغير بيتا كان أو ما فوقه مصراع أو ما دونه مع التّنبيه عليه أي على أنّه من شعر الغير إن لم يكن مشهورا عند البلغاء"[65] "وإن كان مشهورا فلا احتياج إلى التّنبيه وبهذا يتميّز عن الأخذ والسّرقة"[66]،ويعرّفه الطّيبي (ت 743 هـ) بقوله: "التّضمين وهو أن يضمّن الشّعر من شعر الغير، والشّرط أن يكون المضمّن به مشهورا أو مشارا إليه"[67].
وابن قيّم الجوزية (ت 751 هـ ) يجعل الاقتباس هو التّضمين ويقول عنه: "وأمّا التّضمين في الشّعر فلا يخلو أن يكون البيت المضمّن مشهورا أو غير مشهور فإن كان مشهورا لم يحتج إلى تنبيه عليه أنّه من كلام غيره لأنّ شهرته تغني عن ذلك، وإن كان غير مشهور فلا بدّ من تنبيه على أنّه ليس من شعره"[68].
وابن حجّة الحموي (ت 837 هـ) يسمّيه الإيداع ليميّزه عن التّضمين الّذي هو عيب من عيوب الشّعر على حسب رأيه فيقول عنه: "الإيداع يغلب عليه التّضمين، والتّضمين غيره فإنّه معدود من العيوب [...]، والإيداع الّذي نحن بصدده هو أن يودع النّاظم شعره بيتا من شعر غيره أو نصف بيت، أو ربع بيت بعد أن يوطئ له توطئة تناسبه بروابطه، متلائمة بحيث يظنّ السّامع أنّ البيت بأجمعه له "[69]، وعبد الرّحيم العباسي (ت 963 هـ) يعرّفه بقوله: "وهو أن يضمّن الشّاعر شيئا من شعر الغير مع التّنبيه عليه إن لم يكن مشهورا عند البلغاء، وإن كان مشهورا فلا حاجة إلى التّنبيه"[70].
ويعرفه جلال الدّين السّيوطي (ت 911هـ): "التّضمين أن يضمّن شعره شيئا من شعر الغير مع التّنبيه على أنّه من شعر الغير إن لم يكن مشهورا عند البلغاء لئلا يتّهم بالأخذ والسّرقة وإلاّ فلا حاجة إليه"[71]، ويعرّفه الشيخ أحمد الهاشمي (ت 1943 م) بقوله: "هو أن يضمّن الشّاعر كلامه شيئا من مشهور شعر الغير مع التّنبيه عليه إن لم يكن مشهورا لدى نقاد الشّعر وذوي اللسن[72]، بذلك يزداد شعره حسنا"[73]، وجاء في الموسوعة العربيّة الميسّرة في تعريف التّضمين ما يلي: "التّضمين اصطلاح بلاغي يطلق على إدخال الشّاعر شيئا من شعر غيره في شعره كالاقتباس من القرآن والحديث"[74].
وإذا ما رجعنا إلى مخترعه الأوّل ابن المعتز (ت296هـ) فقد سمّاه حسن التّضمين لكنّه لم يقدم له تعريفا غير أنّه أورد له أمثلة من الشّعر، ونوردها نحن بدورنا لنخلص منها بتعريف للتّضمين عنده، المثال الأوّل "قال الأخيطل :
ولقد سما للخرمي فلم يقل يوم الوغى (لكن تضايق مقدمي)[75].
فقوله (لكن تضايق مقدمي) مضمّن من قول عنترة بن شداد إذ يقول في معلقته:
إذ يتقون بي الأسنّة لم أخم عنها ولكنّي تضايق مقدمي [76]
المثال الثّاني "وقال [الأخيطل أيضا]:
إذا دله عزم الجود لم يقل غدا عودها إن لم تعقها العوائق
ولكنه ماضٍ على عزم يومه (فيفعل ما يرضاه خلق وخالق)"[77]
فالشّطر الأخير من البيت الأخير مضمّن من شعر شاعر آخر.
المثال الثّالث " قال آخر:
عوذ لما بتّ ضــيفا له أقراصه بخلا بيــاسين
جنت والأرض فراش وقد غنّت (قفا نبك) مصاريني"[78]
فـ (قفا نبك) مضمّنة من قول امرئ القيس في معلقته:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل[79].
وهذه الأمثلة المقدّمة تنطق نيابة عن لسان ابن المعتز لتعرّف لنا حسن التّضمين عنده فقالت: بأنّه أخذ الشّاعر لشطر بيت أو مصراع فما دونه فيصيّره على أنّه هو قائله.
تكاد التّعاريف السّابقة وإن اختلفت في التسميّات للتّضمين، على أنّه أخذ الشّاعر شيئا من شعر الغير، ويدرجه في شعره، وكأنّه هو قائله، وكما نلاحظ أنّ كثيرا من التّعاريف تقف على شرط التّنبيه عليه إن لم يكن مشهورا لئلاّ يتّهم المضمّن بالسّرقة، وإن كان مشهورا سائرا على كلّ الألسنة فلا حاجة للتّنبيه عليه فشهرته تغني.
ونجد ابن يعقوب المغربي (ت1110هـ) يجوّز التّنبيه أو عدمه في حالة شهرته عندما يقول "ولاختصاصه بالشّعر لم يشترط فيه أن ينبه على أنّ الكلام لغير المضمّن بل يجوز فيه التّنبيه أو عدمه عند الشّهرة"[80].
وممّا تجدر الإشارة إليه، ما قاله ابن يعقوب المغربي (ت1110هـ) معلقا على قول الخطيب القزويني عندما قال: "التّضمين أن يضمّن شيئا من شعر الغير..." قال معلقا على هذا القول: "والأحسن أن يقول بدل قوله من شعر الغير [أن يقول] من شعر آخر، ما إذا ضمّن شيئا من شعر نفسه من قصيدة أخرى مثلا، لكن لقلّة التضمين على هذا الوجه لم يعتبره"[81].
أمثلة عن التّضمين البديعي:
يأخذ المثال حظّه في بعض المرات أوفر حظّ من التّعريف نفسه للشّيء في حدّ ذاته فهذه أمثلة نسوقها لتــزيد التّعاريف السّابقة توضيحا.
"يقول بعض المتأخّرين قيل هو ابن التّلميذ الطّيّب النّصراني:
كانت بلهنية الشبيبة سـكرة فصحوت واستبدلت سيرة مجمل
(وقعدت أنتظر الغناء كراكب عرف المحل فبـات دون المنزل)
فالبيت الأخير لمسلم بن الوليد الأنصاري"[82].
"وقول ابن العميد:
وصاحب كنت مغبوطا بصحبته دهرا فغـــادرني فردا بلا سكن
هبت له ريح إقبال فطــار بها نحــو السّرور وألـجاني إلى الحزن
كأنّه كان مطويا على احـــن ولم يكن في ضروب الشّعر أنشدني
(إنّ الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا من كان يألفهم في الـمنزل الخشن)
فالبيت [الأخير] لأبي تمّام"[83] من قصيدة قالها في أبي الحسن على بن مرّ والبيت هذا كان آخر القصيدة [84]،وأوّلها:
أراك أكبرت إدماني على الدّمن وحملي الشّوق من جادٍ ومكتمن[85]
ونلاحظ أن ابن العميد على شهرة البيت المضمّن إلاّ أنّه نبّه عليه في الشّطر الّذي قبل البيت عندما قال: "ولم يكن في ضروب الشّعر أنشدني"، ثمّ أورد البيت المضمّن، فالإنشاد لا يكون إلاّ قول مضى قوله سابقا.
"وقول الحريري:
على أنّي سأنشد عند بيعي (أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا)
المصراع الأخير قيل هو للعرجي، وقيل لأميّة بن أبي الصلت وتمام البيت :
[ أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا] ليوم كريهة وسـداد ثغر"[87] -
"والشّطر الثّاني قد ضمّنه النّميري الغرناطي فقال:
له شفة أضاعوا النّشر منها بلئيم حين سدّت ثغر بدري
فما اشتهى لقلبي ما أضاعوا (لـيوم كريهة وسداد ثغر)"[88]
"وكقول ابن نباتة الخطيب المصري:
أقول لمعشر جلدوا ولاطوا وباتوا عاكفين على الملاح
(ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح)[89]
فالبيت الأخير لجرير، من قصيدة قالها في مدح عبد الملك بن مروان قال في أوّلها:
أتصحو بل فؤادك غير صاح عشيّة همّ صحبك بالرّواح[90]
إلى أن قال :
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح[91].
"ومن محاسن [سراج الدّين الوراق] في التّضمين قوله:
توارى من الواشي بليل ذوائب له من حبيب واضح تحته فجر
فدلّ عليه شعره بظلامــــه (وفي الليلة الظّلماء يفتقد البدر)[92]
فالشّطر الأخير من البيت الثّاني مضمّن من قول أبي فراس الحمداني من أبيات قالها عندما أسره الرّوم إذ يقول :
سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم وفي الليلة الظّلماء يفتقد البدر[93]
وهو بيت ضمن القصيدة الشّهيرة لأبي فراس الحمداني والّتي مطلعها :
أراك عصيّ الدّمع شيمتك الصّبر أما للهوى نهي عليك ولا أمر[94].
وقال عبد الرحيم العباسي: "هذا الشّطر المضمّن نقله ابن الصّائغ إلى مداعبة وزاده تورية بقوله:
تطلّبت جحرا في الظّلام فلم أجد ومن يك مثلي حيّة دأبه الجحر
فناداني البدر الأديب إلى هــنا (وفي الليلة الظّلماء يفتقد البدر)"[95]
ونجد أنّ ابن الصّائغ نبّه عليه بأسلوب التّورية فالمعنى القريب "للبدر الأديب" هو القمر ليلة اكتماله، والمعنى البعيد هو أبو فراس الحمداني.
"وقال أبو العلاء [المعرّي] في ختام قصيدة له:
ولا تزال بك الأيّام ممتعة بالآل والحال والعلياء والعمر
[وضمّن] الشّيخ زين الدّين [بن الوردي] [الشّطر الأخير] في ختام قصيدته فقال:
وارتجى لك من ذي العرش عافيته (في الآل والحال والعلياء والعمر)"[96].
التّغيير في التّضمين البديعي:
من خلال الأمثلة السّابقة المقدّمة كتوضيح للتّضمين رأينا أنها لم تتعرض إلى تغيير على مستوى الألفاظ والتّراكيب بزيادة أو نقصان أو تقديم أو تأخير، ونجد بعض البلغاء، والعلماء يجيزون بعض التّغيير اليسير ليدخل البيت المضمّن أو بعضا منه سياق الكلام والمعنى، يقول الخطيب القزويني: "ولا يضرّ التّغيير اليسير ليدخل في معنى الكلام كقول بعض المتأخّرين في يهودي به داء الثّعلب :
أقول لمعشر غلطوا وغضوا عن الشّيخ الرّشيد وانكروه
(هو ابن جلا وطلاع الثّنايا متى يضـع العمامة تعرفوه)
البيت [الثّاني] لسحيم بن وثيل وأصله :
أنا ابن جلا وطلاع الثّنايا متى أضع العمامة تعرفوني"[97]
وقال ابن أبي الأصبع المصري : "ولا يضرّ تصحيف الحرف، وتحريفه من الكلام ليدخل في معنى الكلام المتأخّر عند الاستعانة كما فعلت ببيت من الحماسة حين قلت :
إذا ما خليل صدّ عنك مــلالة وأصبح من بعد الوفا وهو غادر
فلا تحتفل واستـــعن بالله إنّه على أنّ ترى عنه غــنيا لقادر
(وهبه كشيء لم يكن أو كـنازح به الدّار أو مـن غيبته المـقابر)
فإنّ هذا البيت [الأخير] كان نسيبا، وكان أوّله (فهبها) فحرفت ضمير التّأنيث لضمير التّذكير حتّى دخل في معناي"[98]، والبيت المضمّن لعمرو بن أبي ربيعة[99].
"وقال الحارث بن عباد عند مقتل ابنه بجير، وأراد له الثّأر :
قربا مربط النّعامة منّـي لقحت حرب وائل على حيال
إلى أن قال:
لم أكن من جُناتها علم الله وإنّي بحرّها اليوم صالي
وضمنه شمس الدّين التّلمساني :
وعيون أمرضن جسمي وأضرمـ ـن بقلبي لواعج البلبال
وخدود مثل الرّيــــاض زواه ما لأيّام حسنها من زوال
(لم أكــن من جناتها علـم الله وإنّي بحرّها اليوم صـالي)
فحرف لفظ (جناتها) من الجناية إلى الجني"[100].
ونجد أنّ ابن المعتز يرخص بالتّغيير اليسير في التّضمين، وهذا من غير أن يتلفظ بعبارة تعبر عن ذلك، وإنّما نلمسه من المثال الّذي قدمه كشاهد على التّضمين وهو:"قال الأخيطل :
ولقد سما للخزمي فلم يقل بعد الوغى (لكن تضايق مقدمي)[101]
فالشّطر الأخير تقريبا مضمّن من قول عنترة العبسي في معلقته الشّهيرة إذ يقول :
إذ يتقون بي الأسنّة لم أخم عنها ولكنّي تضايق مقدمي [102]
فحول (لكنّي) إلى (لكن)، وهو تغيير يسير ليدخل في المعنى أو الغرض الشّعري ...، فالتّغيير اليسير لا يضرّ الشّيء المضمّن، ولا يخرجه من دائرة التّضمين.
أنواع التّضمين البديعي :
نظر العلماء والبلاغيون إلى التّضمين وقسّموه إلى أنواع حسب المضمّن به فقد يكون بيتا أو أكثر أو مصراعا أو أقلّ،
يقول الخطيب القزويني: "وربّما سمّي تضمين البيت فما زاد استعانة،وتضمين المصراع فما دونه تارة إيداعا، وتارة رفوا"[103]، فإذا ضمّن الشّاعر بيتا أو أكثر يكون استعانة لإسناد رأي أو تقوية حجّة، ولأنّ الاستعانة لا تكون إلاّ عند الحاجة، وخاصة عند العجز، وهذا في جميع المجالات، ولربّما كان اسم الاستعانة هاهنا لا يتطابق مع هدف التّضمين الّذي يكون للتّمثيل والاستشهاد...
"وتضمين المصراع فما دونه إيداعا لأنّ الشّاعر الثّاني قد أودع شعره شيئا من شعر الأوّل، وهو بالنّسبة إلى شعره قليل مغلوب، ورفوا لأنّه رفا خرق شعره بشعر الغير"[104].
ويقول ابن يعقوب المغربي: "لمّا شمل الكلام تضمين بيت أو أكثر أو مصراع أو أقل، كانت هناك ثمانية أقسام"[105].
فابن يعقوب المغربي يجعل التّضمين ثمانية أقسام مع التّنبيه أو عدمه وهي:
1- "تضمين بيت مع التّنبيه على أنّه لغيره أو بدون التّنبيه لشهرته.
2- تضمين أكثر من بيت مع التّنبيه أو بدونه.
3- تضمين المصراع مع التّنبيه أو بدونه.
4- تضمين دون المصراع مع التّنبيه أو بدونه"[106].
أما الطّيبي فبعد أن عرّف التّضمين قال: "وهو على ضروب:
- أوّلها أن يكون المضمّن تمام بيت.
- ثانيها أن يكون المضمّن به مصراعا.
- ثالثها أن يضمّن بعض المصراع"[107].
وهذه بعض الأمثلة نقدّمها على الأنواع الّتي سبق ذكرها:
1- تضمين بيتين دون التّنبيه عليهما (استعانة).
كقول الحارثي :
وقائلة والدّمع سكب مــــبـادر وقد شرقـت بالماء منها المحاجر
وقد أبصرت نعمان من بعد أنســها بنا وهي منّا هو حشات دوائـر
(كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّــفا أنيس ولم يسمر بمكّة ســامر)
فقلت لها والقلب مني كأنّهــــا يقلبه بين الجوانح طــــائر
(بلى نحن كنّا أهلها فأبادنـــــا صروف الليالي والجدود الغوائر)
فاستعان ببيتي خرقة بنت تبع[108] -.
وكمثال آخر" قال عمر بن طوق:
صدّت الكأس عنا أم عمرو وكان الكـأس مجــراه اليمينا
وما شرّ الثّلاث أم عمـرو بصـــاحبك الذي لا تصبحينا
فاستلحقهما عمرو بن كلثوم فهما في قصيدته "[109]، وهما في معلقته البيت الخامس والبيت السّادس[110].
2- تضمين بيتين مع التّنبيه عليهما (استعانة).
" حكي أنّ الحيص بيص قتل جرو كلب، وهو سكران فأخذ بعض الشّعراء كلبة، وعلق في رقبتها قصّة، وأطلقها عند باب الوزير فإذا فيها مكتوب:
يا أهل بغداد إنّ الحيص بــيص أتى بخزية ألبسـته العار فـــي البلد
أبدى شـــجاعة بالليل مجتــرءا على جريّ ضعيف البطـش والجلد
فأنشدت أمّه مـن بعد ما احتسـبت دمّ الأبليق عند الواحد الأحـــد
(أقول لنفس تأســـــاء وتعزية إحدى يدي أصابتني ولم تـــرد)
(كلاهما خلف من بعد صـــاحبه هذا أخي أدعوه وذا ولــــدي)
البيتان الأخيران لامرأة من العرب قتل أخوها ابنها فقالت ذلك تسلية"[111]، ونبّه عليهما الشّاعر في البيت الثّالث بقوله: " فأنشدت أمه"، لأنّ الإنشاد لا يكون إلاّ في أمر قد قيل فيما مضى.
3- تضمين بيت بدون التّنبيه على أنّه من شعر الغير (استعانة) .
"قال ابن الرّومي في مأبون :
يا سائلا عن خالد عهدي به رطب العـجان وكفّه كالجلمد
(كالأقحوان غداة غبّ سمائه جفت أعاليه وأسفله نـــدي)
فالبيت الأخير للنّابغة الذّبياني "[112].
قال رشيد الدّين محمّد العمري الشّهير بالوطواط:
ذنبي كثير وعذري فيه متّضـح فاقبله فالعذر عند الحرّ مقبول
(نبئـت أنّ رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مـأمول) [113]
فالبيت الثّاني هو لكعب بن زهير بن أبي سلمى[114]،وهو بيت من جملة أبيات القصيدة الّتي أوّلها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيّم على إثرها لم يجز مكبول [115]
4- تضمين بيت مع التّنبيه على أنّه من شعر الغير (استعانة).
"قال القاضي أبو عمر القاسمي:
يا ويح عـنترة الذي قد شفّه ما شـفّني ولـم يتـكلـم
(يا شاة ما قنص لمن حلّـت له حرمت عليّ وليتها لم تحرم)"[116]
فالشاعر نبّه على البيت الأخير المضمّن، وهو لعنترة بن شداد العبسي، بقوله في البيت الّذي قبله :"يا ويح عنترة ...".
وكذلك قول عبد القاهر بن طاهر التّميمي:
إذا ضاق صدري وخفت العدى تمثلت بيتا لحالي يليق.
(فبالله أبلغ ما ارتــــجي وبالله أدفع ما لا أطيق )-[117]
فالشاعر نبّه على البيت المضمّن عندما قال في البيت الأوّل :"تمثلت بيتا .."
5- تضمين مصراع دون التّنبيه على أنّه من شعر الغير (رفوا أو إيداعا).
"كقول الشّاعر :
قد قلت لما اطلعت وجــناته حول الشّقيق الغضّ روضة آس
أعذاره السّاري العجول توقفا (ما في وقوفك ساعة من باس)
فالمصراع الأخير لأبي تمّام"[118]،وهو صدر بيت لمطلع قصيدة قالها أبو تمّام في مدح أحمد بن المعتصم، وهو:
ما في وقوفك ساعة من بأس تقضي ذمام الأربع الأدراس [119]
6- تضمين مصراع مع التّنبيه على أنّه من شعر الغير (رفوا أو إيداعا).
"قال الحريري :
على أنّي سأنشد عند بيعي (أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا )
فالمصراع الأخير قيل للعرجي، وقيل لأميّة بن أبي الصلت، وتمام البيت (ليوم كريهة وسداد ثغر)"[120]، "...فقد نبّه على التّضمين بقوله: "أنشد" فإنّ الإنشاد إنّما يكون لشيء قد سبق نظمه وقوله"[121].
7-تضمين دون المصراع دون التّنبيه على على أنّه من شعر الغير (رفوا أو إيداعا).
"كقوله الأخطيل :
ولقد سما للخرَّمي فلم يقل بعد الوغى (لكن تضايق مقدمي)[122]
فلقد ضمن الأخطيل "لكنّي تضايق مقدمي" من قول عنترة بن شداد حين قال :
إذ يتقون بي الأسنة لم أخم عنها ولكنّي تضايق مقدمي[123].
فضمن دون المصراع ولم ينبه عليه، أنه من شعر الغير حتّى وإن قال قبل تضمينه "فلم يقل" فهو خارج عن دائرة التنبيه.
7- تضمين دون المصراع مع التّنبيه على أنّه من شعر الغير (رفوا أو إيداعا).
قال أبو تمّام:
لو أنّ امرأ القيس بن حجر بدت له لما قال مرّا بي على أم جندب
تريك هلالا أو يقال لها أســفري فتسفر شمسا أو يقــال تنقبي [124]
فقد ضمن قول امرئ القيس عندما أرادت أم جندب المفاضلة بينه، وبين علقمة الفحل فقال:
خليليّ مرّا بي على أم جندب لنقضي حاجات الفؤاد المعذّب[125]
وهو تضمين في ما دون المصراع وعلى شهرة البيت إلاّ أنّنا نرى أنّ الشّاعر قد نبّه عليه على سبيل الاستشهاد.
إلى جانب ما ذكرنا من أخذ الشّعراء للبيت أو أكثر من شعر الغير، وتضمينه أو المصراع أو ما دونه، فهناك عدّة أساليب أخرى للشّعراء في التضمين، وفي هذا الصدد يقول ابن حجّة الحموي: "ويجوز عكس البيت المضمّن بأن يجعل عجزه صدرا، وصدره عجزا، وقد تحذف صدور قصيدة بكاملـها، ويـنظم المودع [أي المضمّن] صدورا لها لغـرض اخـتاره وبالعكس ..."[126]، ويمكن أن نوجز أساليب الشّعراء في التّضمين من هذا القول ونزيد عليه، ويمكن حصرها كما يلي:
- قلب البيت فالصدر يصبح عجزا، والعجز يصبح صدرا (تضمين معكوس).
- حذف صدور القصيدة بكاملها والإتيان بصدور من نسج الشّاعر.
- حذف أعجاز القصيدة، والإبقاء على صدورها.
- ومنهم من يشطر البيت شطرين، ويجعلها عجزين لبيتين.
- ومنهم من يشطر البيت شطرين، ويأتي الشّاعر المضمّن بعجز للشّطر الأوّل ويأتي بصدر للشّطر الثّاني فيصيّرها بيتين.
- ومنهم من يجمع شطرين أو بيتين لشاعرين مختلفين.
- ومنهم من يضمّن شطرين أو بيتين أو أكثر أو أقل لشاعر واحد في قصيدتين مختلفتين .
- ومنهم من يضمّن البيت أو أكثر أو الشّطر أو ما دونه (وهي الأنواع التي سبق ذكرها). وهناك أساليب أخرى يأتي بها الشّعراء وهي لا حصر لها ولعلّ هذه الأساليب هي أغلبها وأشهرها.
الخـــاتمة :
مما سبق ومن الأمثلة والشواهد، والأقوال والتعاريف نجد أن اسم التضمين هو مصطلح واحد أو دال واحد لخمسة مفاهيم أو مدلولات في أربعة علوم وهي: النحو، البلاغة، علم القافية، وعلم الصوتيات، وفي علم البلاغة هو مصطلح لثلاثة فنون مختلفة( التضمين المزدوج، البديعي، النحوي الذي عده الكثير من العلماء مجازا، فالبالتالي هو من علوم البلاغة).
وانطلاقا من التعريف اللغوي نجد أن التضمين يكتنف كل ما قيل في هذه الفنون، ففي التعريف اللغوي الذي مر معنا آنفا للتضمين هو وضع الشيء في مكان شيء آخر، وهو ما ينطبق في باب التضمين النحوي، فهو وضع فعل مكان فعل أو حرف مكان حرف،...، وكذلك في التضمين المتعلق بعلم القافية فهو وضع تكملة البيت والمعنى في مكان آخر وهو بداية البيت الذي يليه، والتضمين البديعي هو أيضا يصب في هذا المعنى فهو وضع بيت أو أقل أو أكثر منه في شعر آخر، أما في التضمين المزدوج، فقد يشك البعض بأنه لا ينطبق مع مضمون المصطلح اللغوي، لكن إن أمعنا النظر وجدنا أن التضمين المزدوج هو أن توضع كلمة في الميزان الصرفي والوزن والبناء التركيبي، وكذلك الميزان الصرفي للكلمة التي قبلها، وفي علم الصوتيات هو وضع نطق حرف في مكان نطق حرف مجاور له.
وعلى هذا فتسمية التضمين المتعددة في هذه الفنون هي تصب في خانة التعريف اللغوي للتضمين، وهو وضع الشيء مكان شيء آخر، ومضمون التعريف اللغوي للتضمين هو ما دفع العلماء المتقدمين إلى إطلاق اسم التضمين على فنون مختلفة لعلوم متعددة، ويسحب هذا القول على التسميات الواحدة لفنون متعددة، ولربما حتى في العلم الواحد.
هذا المقال منشور بهوامشه في مجلة دراسات أدبية العدد الثالث جوان 2009 من الصفحة 77 إلى الصفحة 104 ومجلة دراسات أدبية مجلة علمية محكمة يصدرها مركز البصيرة للبحوث والدراسات بالجزائر
--------------------------------------------------------------------------------
التعليقات (0)