أنه الاقتصاد...يا لغبائنا

تساؤلات كثيرة تطرحها الأزمة الراهنة الناشئة عن العدوان الإسرائيلي الغاشم على شعبنا العربي الفلسطيني في غزة عن ماهية الموقع الذي نشغله نحن كعرب في هذا الفضاء السياسي الكوني..وأين نقف بالضبط من الثوابت والمتغيرات الدولية التي تعصف بعالمنا المعاصر ....وكيف يمكن أن نتعاطى مع المحيط الإقليمي والدولي وكيف ينظر ويتعامل هذا المحيط معنا..هل هي علاقة تفاعل وحوار وتلاقح فكري وثقافي..أم هي علاقة صراع وإفناء وتحجيم وإقصاء, وما هو المجال الذي يمكن أن يكون للعرب فيه وجوداً حيوياً ومؤثرا وهل هناك تناسب ما بين إمكانات العرب والحيز الذي يملئونه في هذا العالم ,وأليس من الغريب أن يفشل النظام السياسي العربي في تسويق وإدارة النقاط المفصلية التي تهم وضعه ومكانته ومستقبل أبناءه رغم الإمكانات البشرية والثقافية والاقتصادية التي يمتلكها ..والى متى يظل العرب ضمن جمهور المتفرجين على عالم وحضارة وتاريخ يقوم بهندسته وصناعته الآخرون ,والى متى نبقى ننتظر عشرات الأعوام لكي يقوم احد المستشرقين بتسطير ما يظننا عليه أو ما يعتبر انه  يجب أن نكونه أو تفرج الدوائر الرسمية الغربية عن أرشيفها السري لكي نقوم نحن بكتابة تاريخنا المجيد,والى متى نستجدي حقوقنا من الآخر الذي لم نستطع ان نقنعه حتى بوجودنا عوضاً عن وجود حقوق مشروعة لديه...

فإننا لو تعاملنا مع الحقيقة التي تقول أن الدبلوماسية في جوهرها الخالص هي علم وفن وإدارة الموارد والإمكانات للكيانات المجتمعية, بما يحقق لهذه المجتمعات صحتها ورفاهيتها داخل حدودها..ومصالحها وأمنها وراء هذه الحدود, فيجب أن نقر بالسقوط المريع  والفشل الكارثي التام  للدبلوماسية والسياسة العربية وعجزها المخزي،وغيابها الكامل عن كل ما يدور في المحيط الإقليمي والدولي من حولها،وانسياقها المرضي للديماغوجية والسيرك الإعلامي المسبق الدفع من قبلها هي,  وأنها لا تتعدى دور التلميذ البليد أمام أي نشاط دبلوماسي من قبل أي دولة خارج نطاق (الحظيرة) العربية,مهما كان حجمها أو وزنها الدولي والإقليمي. وان أكثر المتابعين العرب تفاؤلا يدرك أن الأمور سائرة إلى مزيد من التشابك والتعقيد وان أوراق اللعبة تتعرق وتنسل بوفرة من أكف الطرف العربي الرسمي إلى أيادي أخرى اقدر على التحكم بالقرارات المصيرية التي تتعلق بمصالح شعوبهم العليا .وهنا لو سلمنا-بالتأكيد وليس جدلاً-  باستحالة استخدام القوة أو حتى التلويح بها من قبل الجانب العربي وللظروف المعروفة للجميع, أما كان يمكن للعرب،أن يعملوا على استخدام القوة الاقتصادية التي يمتلكونها لمنع استباحة وامتهان الأرض العربية من خلال حسن إدارة وتوظيف ثرواتهم واستغلال القدرات المادية الهائلة التي منحها الله لهم بلا حساب،لصالح نهضة شعوبهم ورفاهيتها أن يجعلوا المهانة والانكسار والتشتت والانقسام والعجز العربي نوع من الخيال العلمي ؟

فمن المعروف أن الدول العربية تمتلك قوة اقتصادية تستطيع أن تعتمد عليها لمنع أي عدوان غاشم عليها ومن قبل أي طرف, ولكن تلك الثروات والأرصدة المكتنزة إما مهربة أو مبددة أو مرهونة في مصارف وأسواق مال الدول الغربية التي استطاعت استخدامها كسلاح تبتز به الحكام بسبب كون اغلبها أموال مسروقة من جانب المتنفذين وأصحاب السطوة ويصعب الإفصاح عنها,فتضطر إلى الاحتماء بقوانين السرية المصرفية التي تخدم الطرفين.

فالعرب استطاعوا وبالمعية لافتة تبديد ثروة من أكبر الثروات التي أتيحت في التاريخ لأي أمة من الأمم.وفي هذا السياق يقول محمد حسنين هيكل: إنه في ربع القرن الأخير فقط بلغ مدخول الأمة العربية من مواردها المتعددة,وعلى رأسها النفط,ما يقدَر بأربعة تريليونات دولار, وأضيف إليها على ذمة رئيس الوزراء البريطاني براون تريليون أخرى من انفجار أسعار النفط في الأعوام الأخيرة, وعلى الرغم من عدم توافر إحصاءات دقيقة لحجم الأموال العربية المستثمرة في الخارج, ,إلا أن مصادر عديدة تقدّر حجم الأموال العربية المستثمرة في الخارج ما بين 850 مليار دولار إلى ألف مليار دولار(وهذا تريليون دولار آخر).وهي تشكل مبلغاً فلكيا يمكن للعرب معه شراء النفوذ شراءً والتأثير على اقتصاديات دول عظمى واسترجاع ولملمة بعض ما تبدد من الكرامة العربية المسفوحة منذ عقود, فالمال يشتري القوة والنفوذ والذكر الطيب وحتى النضال الثوري والممانعة والاعتدال والوسطية والريادة التاريخية. ويبقى بعدها الكثير الكثير الذي يمكن أن يشبع شبق الحكام وحاشيتهم إلى يوم القيامة,فمن غير الممكن فصل كل ما يجري في غزة اليوم وكل ما جرى في هذه الأمة من جراح وقتل وتشريد وضياع، وحالة الانكسار والاستخذاء التي تضرب أطنابها في بلداننا وتأخذ بتلابيب العرب وتجرهم إلى الحضيض عن تدني الوعي الرسمي وانعدام التفكير العقلاني للسلطات الدينصورية الكاتمة على أنفاس العباد والابتعاد الممنهج عن كل ما يؤدي إلى التقدم والتحديث والاكتفاء الاقتصادي حتى ولو على مستوى الفتات.

فهل تهتدي الدول العربية أخيرا إلى الحل السحري القائم على إقامة علاقات تجارية بينية فيما بينها تقوم على أسس التضامن والتعاون وتبادل المنافع والاستثمار الإنتاجي الحقيقي الزراعي والصناعي داخل المحيط العربي ، وصولاً إلى الهدف الطموح في إنشاء نطاق اقتصادي واقعي ومحقق لأقصى قدر من النفعية لشعوب المنطقة,مما يعيد أزماتنا وخذلاننا المستمر إلى خانة الدراسات التاريخية .أم نستمر في مظاهر السفاهة المثالية والاستهلاك الترفي والبذخ الاستعراضي من خلال عرض شراء حذاء ما-رغم إيماننا بأهميته في تغيير موازين القوى في الشرق الأوسط- بعشرة ملايين دولار مقابل وجود 60 مليون عربي يعيشون على اقل من دولار واحد في اليوم.

تساؤلات كثيرة قد لا نجد إجابة عنها إلا من خلال تشكيل تيار جمعي من الوعي بأهمية التكامل الاقتصادي في تحقيق المنعة والسيادة لشعوب المنطقة وقد يكون أول المهام هو العمل على إيقاف النزيف المستمر لثروات ومقدرات الأمة عن طريق فضح  رموز الخلل والنهب والفساد عن طريق تحديد وتوصيف عناصر الأزمة وبالتالي سبل معالجتها وتحجيم آثارها المستقبلية، هذا إذا سلمنا جدلا أن هناك رغبة حقيقية لدى بعض الأطراف في إنهاء التفكك والعجز ومعالجة مسبباته ...