حمادي بلخشين / قصة قصيرة
أنقاض
كان الجوع قد بلغ منّي مبلغا عظيما حين تسللت الي شقتنا بخطى حذرة... لم أكلـّـف نفسي خلع معطفي ولا حتى حذائي، بل إتجّهت مباشرة الي المطبخ، خصوصا، وقد شممت رائحة أكلة مفضلة تملأ أرجاء البيت... كان الطعام باردا... لا يهمّ، ما دام فتح السخّان الصّاخب سينبّه جدّي الي وجودي.. بمجرّد كسري لرغيف، وصلني صوت واهن:
ــ أحمد... أنت هنا؟
انتفضت قائما و أنا أقول:
ــ نعم يا جدّي.. أنا هنا.
ثم وانأ أشق نصف رغيف :
ـــ منذ أقل من دقيقة.
بلغني صوته من جديد:
ـــ تعال فورا الي هنا.
صحت و انا أغمس الخبز في صحن المرق:
ــ لبيك يا جدّي لبيك ... أنا في طريقي إليك!
منذ أشهر،أصبح جدّي شديد الحساسيّة، كما سيطرت على تفكيره نظريّة المؤامرة، فكل تأخر عنه لا يعني لديه غير الإستهانة به، و الضيق بوجوده بيننا، لأجل ذلك كنا نسارع الي خدمته سدا لكل ذريعة من سوء ظن بشعورنا نحوه.
كان باب غرفة جدّي نصف مفتوح، كما كان يحتل مقعدا بجوار النافذة التي تطلّ على حديقتنا الخلفية... بمجرّد تسليمي عليه، سارعت الي قضم قطعة كبيرة من شاطري و مشطوري وما بينهما من كامخ ( ملاحظة سريعة: الشاطر و المشطور و الكامخ الذي بينهما، هو التعريب القبيح الذي ارتضاه مجمع اللغة العربية للسنــــــدويتشّ... لمجرّد الإفادة أضيف، بأن المعور هو التعريب الأشدّ قبحا للكلسون!)... خلعت حذائي بعتبة غرفته، ما ان صافحته حتى أشار إليّ بالجلوس، قبل أن يضغط على زر تشغيل راديو كاسيت ، منبها اياي بإصاخة السّمع ...وصلني صوت نسائي مثير يقول بعربية سليمة :" ذات مرّة قدم رجل الى أبرز ساحة بالعاصمة و ملأ وسطها بالأنقاض، ثم جاء بسارية وضع عليها مصباحا أحمر، فجعل الناس ينظرون إليه بدهشة قائلين: ماذا تريد بهذا المصباح؟ قال: أريد تـنبيه الناس بالخطر كي لا يصطدموا بالأنقاض! و لمّا قيل له: و لماذا جئت بالأنقاض؟! قال: لكي أرفع هذا المصباح".
ضحك جدّي طويلا وكأنه قد فرغ من سماع هاته الطرفة للمرّة الأولى! سارع بعد ذلك الي سدّ فم القارئة، سألني وهو يعدّل وضع طاقيته:
ـــ ألا يذكرك عمل هذا الرجل الأخرق ببعض ما يدور في عالمنا؟
لمّا كنت مشغولا بالأكل عن الكلام حركت رأسي نافيا.
هرش جدّي عثنونه الأبيض، تناول غلاف كتابه المسموع، عبث به قليلا ثم سألني ثانية :
ـــ ألا يذكرك عمل واضع الأنقاض ثم المحذر من خطرها، بما فعلته بنا أمريكا منذ ثلاثين سنة؟
كان التفكير بما فعلته بنا أمريكا منذ ثلاثين سنة آخر ما يشغل من كان بمثل جوعي. كان يسعني تحريك كفي الأيسر للإستضياح، لكن رفقي بجدّي المتوجّس جعلني أجيبه، ولو بما يقارب الهمهمة:
ــ لا يا جدّي.
قال لي وهو يقلب غلاف كتابه المسموع بين يدين نحيلتين:
ـــ ألا يشبه ما فعله الرجل الأخرق بما فعلته أمريكا؟!!
ـــ... ؟؟
ــــ حين مكنت كهنة قم من دولة قويّة!
ـــ... !!!!
ــــ لتتخذ من التحذير من خطرها المصطنع شغلا دائما صدّعت به رؤوسنا ؟!
ــــ... ؟؟؟؟
صمت جدي طويلا ثم أضاف:
ـــ غير ان أمريكا ليست غبية و لا خرقاء مثلنا.
ـــ ...!!!
ـــ فرغم غلبتها على الأمم،فهي تعيد النظر في سياستها مرّة في كل
أربع سنوات.
ـــ ....
ــــ في حين لم تشعر أمتـنا
وهو يهرش رقبته بعنف:
ـــ و بعد قرون من التراجع و الانحطاط
ـــ ...
ـــ أنها في حاجة بعد الى إعادة النظر في سمّها السّلفيّ المجرّب!
أوسلو 6 /9/2009
التعليقات (0)