( كلُّ إنسانٍ يُولدُ مُشرَّدًا )..؟!
العبارة تُغني عن الشرح ، لكن ماذا لو (حاولنا) الغوص في أعماق معانيها ودلالاتها ؟ .. أو ماذا لو أضفنا لها القليل - ليس من باب الإدعاء أو التفلسف - بل من باب التفكير الذي منحنا الله من أجله عقلا لنتدبر به ، ودعانا إلى إستخدامه ؟ ... ويموتُ مُشرداً .. ؟!
الحكيم الذي قالها وصل بفكره إلى أرقى معاني الإنسانية ، وتجرد مما سوى ذلك من إدعاءاتٍ باطلة بالتفاضل بعيدا عن منهاج الخالق ، الذي فضلنا بمُقتضاه - وبعدله ، وحكمته ، وعلمه ، ورحمته - وجعل تدرجنا في مراتب الحياة الدنيا الفانية بالجاه ، والعلم ، والسلطان ، والإيمان ، وفي الحياة الآخرة لايبقى سوى التدرج في مراتب الخلود بحسب التقوى والإيمان ..
فالإنسانُ منا يولدُ مشرداً لايحملُ معه سوى صرخاتٍ مُزعجة ، وهي بالفطرة صرخاتٌ للمصير المليء بالألم والمُعاناة ... صرخاتٌ تدعوا للشفقة على هذا الوافد إلى الحياة لايُعلمُ ما سيعيشها عليه ؟! .. وهل تُراه سيتعلم ، أو سيقتنع يوماً بمشهد ولادته ذاك ، ويُصدق أنه حين أتى كان خالي الوفاق ، فارغ اليدين ، ولم يجئ معه بشيءٍ يُذكر ؟!
هنا يوجد الخيط الفاصل مابين الشقاء والسعادة ، فالسعيد في الدارين ، هو من سيقتنع - حتى ولو كان ذلك بعد بحث وتنقيب عن تاريخه - أنه دخل إلى هذه الحياة مُشردا عاريا حتى من الثياب التي تستر عورته ، وسيخرُج منها تماما كما دخل إليها ، ويعود إلى فتحةٍ ضيقةٍ أخرى ، أما الشقي فيهما ، فهو يُعاند ، ويُكابر بسبب أشياء إمتلكها على ضوء إرادة الله ومرتبة تدرجه التي منحها إياه في هذه الحياة ، بالجاه ، أو بالمال ، أو بالعلم ، فيتنكر لمانح النعم ، ويطغى ، ويُنكر تشرده الأول ، وينسى تشرده القريب الآتي ، ويُطمَس عنه ذلك حتى لو ذُكر به، وحين يعود إلى فتحة المثوى الأخير تكون عليه أضيق ، وأشد ألماً ، ويكون هو أشدّ صراخاً ...
كن من السعداء إذن واحفظ عن القائل ماقال : قد ولدت مُشردا فعش مُشرداً لاتطمع في شيء مما في الدنيا ، ولا تمدن عينيك إلى ما متع الله به أزواجاً من البشر زهرة الحياة الدنيا ، وإذا أتاك الرزق الجزيل من ربك ، والفضل الكثير مما فيها ، فلا تدعه يتملكك فيكون به عذابك ، بل تصدق به على من هم دونك من الفقراء والمُعدمين من كثيره ، لأن وجوههم هي من ستذكرك بحالك الحقيقي ، فلاتطغى ولا تتنكر ولا تتكبر ولا تتجبر .. وتكون مرحوماً في قبرك وفي الآخرة.. وتكون من الخالدين في جنات النعيم التي تنسيك عذاب وسراب الدنيا وتشردها.
تاج الديــن : 10 - 2009
التعليقات (0)