مواضيع اليوم

أنتِ ملهمتي

يوسف رشيد

2012-06-12 16:44:22

0

  " تنويه : هذا العنوان ، ليس لهذه القصة ، لأني فشلت في كتابة قصته الحقيقية " ..

 

.

 كان ذلك قبل سنوات .. ويومها ، كنا في سهرة في بيت صديقي أحمد ، وكنت أعرف كل الحاضرين إلاها ..

ولأنني أخر الواصلين ، قدَّمتها لي سيدة البيت أم عامر : ميسون ، صديقتي من أيام الجامعة ، شامية ، موظفة في وزارة الشؤون الاجتماعية ، وجاءت إلى حلب بمهمة عمل ، وستسافر غدا مع الأسف ..

خلال السهرة ، ساهمتْ ميسون بنشاط واضح في إعداد مستلزماتها وتقديمها ، وكأننا ضيوفها ، وربما ذاك ما شدني لأتابعها خلسة ..

لكن أحمد قرأ في عينيّ اهتمامي واضطرابي ، فنظر إليّ كأنه يقول : اهدأ يا نزار ..

ميسون ، في أواخر العقد الثالث ، أنيقة ، مرحة ، سريعة البديهة والنكتة ، تستطيع أن تحيط بكل ما يقال مهما كان عدد المتكلمين ..

ذات قوام رشيق ، فيه تناسق أنثوي جميل .. لا تتصنّع الانفتاح ، ولا تختبئ وراء إصبعها ..

كانت شرهَة لـ " أم النارين الحلبية " ، ومنشرحة في التعليق على كل شيءٍ ، مستمدةً تأييدَ الحاضرين لها بدَفعٍ من أم عامر : لأنها " ضيفتنا جميعا ، وتحب حلب ، وتحبني " ..

صمَتَ الحاضرون منشغلين بالحلوى ، بينما كان يُعرَضُ على شاشة التلفاز مسلسلٌ اجتماعي يعود لبدايات مرحلة البث الملون .. فركز أغلب الحاضرين عيونهم عليه انسجاما مع حالة التهام أم النارين ..

قالت ميسون : لقد ذكرتْني هذه المشاهد بما حصل مع زميلتي قبل أيام .. التفتنا إليها ، مصغين ، فأضافت :

قبل مدة ، دخل رجل إلى مكتبنا ، يريد أن يشتكي للوزير على موظفة في مديرية تأمينات دمشق ، قال : إنها أهانته وطردته من المكتب ، لأنه قال لها : أنتِ ملهمتي ...

في البداية ، ظنَنّا أنه رجل مختلٌّ .. لكنه ، بدا عكس ذلك من خلال ما سرَدَهُ لنا ، قائلا :  

ذهبتُ إلى المديرية لمتابعة تحصيل قيمة تأمينات العطل والضرر الذي أصابني ، فأصغيتُ لنصائحها وتوجيهاتها طيلة إجراءات المعاملة ، ونفذتُها ، فكانت النتيجة إيجابية جدا لصالحي ..

وحين أردتُ أن أعبِّرَ للسيدة صباح عن شكري وامتناني ، قلت لها : أنت سيدة طيبة ووقورة ومحترمة ، وكنتِ حقا ملهمتي في .....

وأضاف الرجل : ما إن قلت هذه الكلمة حتى صارت السيدة صباح كتلة من الهياج والغضب ، فرمَتْني بالملفات التي أمامها ، وهاجمتني وهي تتلفظ بكثير من الشتائم ، حتى خشيتُ أن تتهمني بالتهجم عليها ، ففتحتُ الباب وهربتُ تلافيا لمزيد من التصعيد ..

ولمّا عدتُ بعد ساعة محاولا شرح مقصدي ، طردتني ..

ذهبتُ إلى المدير ، فلم يستقبلني ، لأنها أخبرته بالمشكلة كما قالت لي سكرتيرته ..

صمتت ميسون قليلا ، وهي ترتشف قهوتها ، ثم تابعت :

أنا اتصلت بمكتب الوزير ، وقلت لهم : عندي عامل لديه شكوى .. ويريد مقابلة الوزير .. فقيل لي : أرسليه إلينا ..

بعد سويعات ، عاد الرجل ، فوقف في باب مكتبي ، وقال : هل ستطردينني إن قلت لكِ : إنكِ ملهمتي ؟! ..

قلت له : لا .. ليتني أكون ملهمَتَكَ للوصول إلى حقوقك ..

أسند الرجل ظهره إلى الجدار ، وهو يقول : لقد وصلني حقي .. وتابع كمن نسي شيئا : سأعود إليكِ سيدتي ..

ذهب قليلا وعاد ، ليقول وهو يمزق ورقة : هذه شكواي ضدها .. يجب أن يكون في الحياة شيء من التوازن والتعادل .. وهذا يكفيني ، يا سيدتي .. يا ملهمتي ..

 

قلت لها : أريد أن تكوني ملهمتي .. فكيف السبيل ؟

قالت أم عامر وهي تحمل فناجين القهوة إلى المطبخ :

لا عصفور لك في هذا العش يا زهير .. فلا ترم شباككَ قريبا منه ..

سألتُ ميسون : أحقا ما تقول صديقتكِ ؟!

قالت بخفر : لكَ أن تجرب ..

قلت أتصنّع اللهفة : كيف ؟ وأين ؟ ومتى ؟

ردت بثقة : غدا سأزور القلعة قبل أن أسافر عصرا ..

عادت أم عامر من المطبخ وهمست بيننا ممازحة : أنصحكَ ألا تحرثَ في البحر ..

.

في القلعة ، لم يكن عسيرا علينا الإحاطة بما يجب أن يعرفه كل منا عن الآخر ، ولا أعرف كيف استطاعت ميسون أن تكوّرَني بين أصابعها ، بعد أن امتلأ رأسي بأبخرة لم تسكنْه من قبل ، فبدا فضاء المدينة أمامي ـ من فوق السور ـ كبحر يتنفس رطوبة صباح أوائل الربيع ، فتفاعلتْ أكثر ، وهاجت الأبخرة في رأسي ، وأحسستُ أني فعلا ، أحببتُ ميسون ، وامتلكتُ القلعة ، بل ، وحلب أيضا ، فتمنيتُ للحظة ، أننا طائران نهيم في سمائها ، ونبيت ليالينا فوق الأبواب والشرفات ، أو في حضن التاريخ وبين أغصانه ..

تجوّلنا في كل أرجاء القلعة ..

يا ألله !! كأنني لم أرها من قبل ، وكأن المدينة اكتسبت ألوانا جديدة مذ رأيتها من هنا آخر مرة ، وهي تحيط بنا كسوارٍ تزيِّنه وتتلألأ عليه ، كل أنواع الأحجار الكريمة ..

وقريبا من المسرح الجديد ، جلسنا على حجر كبير نتبادل الأفكار والنظرات .. 

حتى إذا ما عدنا إلى قاعة العرش ثانية ، افترشنا الأرض بجانب النوافذ الجنوبية المطلة على مدخل القلعة ، ورحنا نرسم خطواتٍ عملية ، وإجراءات ..

فاتفقنا أن نذهب من هنا مباشرة إلى سوق الصاغة القريب ، لنشتري خاتميْ خطبة فقط ، نلبسهما عقب بعض الترتيبات الروتينية ..

أنا لبستُ الخاتم قبل أن نغادر محل الصائغ ..

وباركتْه ميسون لي ، على أن تلبس خاتمها حين أزورهم في دمشق ..

أكملنا جولتنا في الأسواق القديمة ، ورفضتْ أن تحمل معها أي هدية مني ، لأنها " ربحت الجائزة الكبرى " ..

تمنيتُ عليها أن نسافر معا ، لكنها فضلتْ ألا أضعَها في موقف محرج ، وأن ألحق بها بعد أن تقوم بما اتفقنا عليه ..

 

في محطة الحافلات ، قالت : سأتصل بك فور وصولي إن شاء الله ..

وكانت آخر من صعد إلى الحافلة ..

تحركت الحافلة ، لوحتُ لها بيمناي ، فعكس زجاج النافذة والخاتمُ أشعة الشمس على عيني ، فأغمضتهما على ضحكتها وأحلامي ..

.

يومها ، لم تصل الحافلة بسلام إلى دمشق ..

أودى حادثٌ فظيعٌ بحياتها مع عدد آخر من الركاب ..

أنا وصديقي أحمد وزوجته ، وصلنا إلى بيتهم قبيل خروج الجنازة منه ..

وهناك ، بجانب القبر ، كان المشهد فاجعا حزينا كئيبا مؤلما موجعا ، وفاجأني وجود العلبة الحمراء الصغيرة بين يدي أمها ، وهي تحثو التراب على الجثمان مرة ، وعلى وجهها مرة أخرى ..

ومن بين دموعها ونحيبها ويديها المعفرتين ، أخذتُ العلبة .. فتحتها ، فسقطت دمعتي داخلها ..

ومع شيء من تراب القبر ، وضعت فيها خاتمي ، ورميتها فوق بياض الجثمان المسجى ، فتحشرجت أنفاس الأم ، وشهقت بصعوبة ، ثم مالت عليَّ كأنها فهمت سرَّ " العلبة الحمراء " ..

نمنا مع الفاجعة في دمشق ، وباكرا ، ذهبتُ وحدي إلى القبر .. تجمد كل شيء في جسدي ، وأحسست بعينيّ تخرجان من محجريْهما مع الدمع ، حتى وصلوا ..

.

وفي طريق العودة إلى حلب ، توقفنا عند الحافلة ، كان الدم قاتما متخثرا فوق الكرسي الذي جلستْ فيه ميسون ، وثمة عمال يلملمون بقايا الحادث المروع ، ويقطرون الحافلة لسحبها ..

وإذ حرّكت الرافعة ذراعَها إلى أعلى ، تمايلت الحافلة ، فعكس زجاجُها أشعة الشمس على وجهي ..

أغمضت عيني وانتابني نحيب مكتوم ..

ثم لم نتمالك أنفسنا ـ نحن الثلاثة ـ ونحن نتابع تحرك الحافلة المهشمة ، مقطورةً خلف الرافعة ..

.

ستة أعوام مضت ..

ومازلت أزور القلعة في ذكراها كل عام ، وأهديها خاتمين في علبة حمراء ، أدسُّها لها في ثنايا اللحد ..

 

الإثنين ـ 11 ـ 06 ـ 2012

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !