يُخاطب الفرد في اللغة الفرنسية بضمير المخاطب, أنت tu , عندما يكون من الأهل: الآباء والأمهات والأبناء والإخوة والأخوات. أو الأصدقاء والمقربين, أو زملاء العمل والمهنة, وفي المجالس الخاصة لهؤلاء حيث ترفع الكلفة بين المتخاطبين. كما يستأذن المتحدث المخاطب إذا كان بإمكانه أن يخاطبه بلغة المفرد, مما يفهم منه فتح باب لصداقة قد تنشأ.
ويُخاطب بلغة الجمع, انتم Vous, في غير ذلك من الحالات, للتعبير عن الاحترام, وعدم رفع الكلفة. مع إضافة كلمة حضرة السيد monsieur. أو السيدة أو الآنسة, حسب الحالة المدنية للأنثى, Madame Mademoiselle. وهذا منذ قرون والى الآن, وان خفت حدة هذا الاستخدام, من حيث الاتساع, بعد الأحداث الطلابية التي عرفتها فرنسا عام 1968.
يعتذر المتحدث فورا للمخاطب إذا ما هفوة لسان أخرجته عن آداب هذه القاعدة. ولو كان ذلك في موقف غير عادي يغلب فيه التشنج أو التوتر أو العصبية على الحديث, أو الجدال, أو النقاش, أو الحوار "المتمدن". ولا يعني هذا بطبيعة الحال عدم الخروج عن القاعدة العامة بهذا الخصوص.
في إحدى محاكم الجنح الفرنسية tribunal correctionnel, وفي معرض دفاعه عن مهاجر غير شرعي كان قد اخفي هويته الحقيقية ــ وهو ما يعتبر جنحة, إضافة لجريمة خرقه لقانون دخول وإقامة الأجانب ــ في مرحلة تحقيق الشرطة معه. وقف محامي الدفاع الذي لم يجد أي عيب شكلي في إجراءات التوقيف والتحقيق, ليستغلها في مصلحة الدفاع عن موكله إلا كون ضابط شرطة الحدود المختص في مثل هذه القضايا, قد خاطب المهاجر, بلغة المفرد مرات عديدة, وحاول جاهدا أن يثبت تعمد الضابط ذلك ــ فالموقوف ليس من الأقارب أو الأصدقاء و الكلفة غير مرفوعة بينهما ليخاطبه بلغة المفرد, علما بان الأجنبي المذكور لا يتقن اللغة الفرنسية وأساليبها ــ لإهانة الموقوف والتأثر فيه نفسيا علّه يستطيع الوصول إلى هويته الحقيقة عن طريق هذا الضغط النفسي والأذى المعنوي. محاولا في حالة إثبات ذلك, الوصول إلى وجود جريمة تمييز عنصري, تتمثل في تحقير الموقوف خلال التحقيق, لسبب وحيد, كونه أجنبي, أومن جنسية عربية, بشكل خاص. وحتى يدعم موقفه, معنويا, حشد في قاعة المحكمة بعض المنظمات المختصة في الدفاع عن حقوق الإنسان, ومنظمة CIMAD التي تقدم للمقيمين غير الشرعيين الدعم المادي, و تعرفهم بالحقوق والإجراءات التي يكفلها لهم القانون ( تعيين محام يقدم لهم المشورة القانونية, ويطلع على ظروف التوقيف وقانونيته. و يدافع عنهم مجانا أمام المحاكم المختصة. مدفوعة أتعابه من قبل مكتب نظام المساعدات القضائية و القانونية. وطلب طبيب, ومترجم فوري, وتكليف مساعدة اجتماعية أو مرشدة بدراسة وضعه الاجتماعي وإيداعه ملف القضية. وتبصيره بطرق الطعن بالاستئناف. والطعن في قرار الاقتياد إلى الحدود الصادر عن المحافظة, la préfecture لإخراجه من فرنسا, أمام المحكمة الإدارية. والطعن بقرار هذه المحكمة أمام محكمة الاستئناف الإداري). فالإنسان مهما كانت جنسيته أو عرقه أو دينه أو لونه محمي بقوة القانون.
ليست الأمور دائما وردية, والصورة صافية إلى درجة مثالية في معاملة الأجانب, وخاصة منهم غير شرعيي الإقامة. لا شك أن هناك تجاوزات على الأجانب وحقوقهم في فرنسا, وأوربا, وهناك حالات عديدة فيها سوء معاملة رغم كل النصوص القانونية. و فيها عنصرية حقيقية. وفيها كراهية للأجانب. وانتهاكات لحقوق الإنسان, تتعدد أسبابها ومصادرها. و يكفي التذكير بمواقف اليمين المتطرف الذي لا يعادي المهاجرين غير الشرعيين فقط, مستغلا ضعف موقعهم القانوني, وإنما كذلك المقيمين إقامة شرعية, وحتى حملة الجنسية من ذوي الأصول الأجنبية. وكذلك محاولات شتى الأحزاب السياسية المزايدة في مسألة الهجرة و المهاجرين, في المناسبات الانتخابية لخدمة مصالحها, وعلى حساب هؤلاء.
ولكن الفرنسيين, في غالبيتهم, كأشخاص, أ ومنظمات, وجمعيات مدنية, وهيئات حقوقية, يستنكرون هذه التجاوزات ويكشفون طبيعتها. وهناك ترسانة قانونية تحمي حقوق الأجانب, وتعاقب, عن طريق القضاء, كل تعد عليها أو إنكار لها, بفرض عقوبات ينص عليها القوانين.
فمازال في فرنسا من يعتبر بلده فعلا بلد حقوق الإنسان والمواطن, وبان الفرنسيين ورثة مبادئ الثورة الفرنسية. وقد ضمنوا دساتيرهم التي تتالت, منذ الثورة والى اليوم, تلك المبادئ.
ولا يمكن للمنصف, ولو كان أجنبيا كارها للغرب, إلا أن يقر بواقع الأمور, وان يسمو بأحكامه إلى الدرجة التي توازي سمو المبادئ التي تأسست عليها القوانين مرعية التطبيق. فمن يستطيع, على سبيل المثال, أن ينكر أن قانون العمل يعامل الأجنبي معاملة الفرنسي فيما يتعلق بالأجور والضمانات وشروط العمل, ويعاقب بشدة كل محاولة للتميز من أي نوع كان؟ . ألا يدخل هذا في باب حقوق الإنسان؟. ومن يستطيع نكران أن المساعدات الاجتماعية المتعلقة بالعائلة والسكن, و الصحة, والرعاية, والدراسة والتربية, والتقاعد, لا تختلف في شيء عن تلك المكفولة للفرنسي.أليس هذا تطبيق عملي لمبادئ حقوق الإنسان؟. ومن يستطيع, غير الجاحد, نكران أن المساعدات القانونية والقضائية للوصول إلى القضاء, والى الحقوق, مقررة لكل من يوجد على الأرض الفرنسية بصفة قانونية, دون تمييز, وحسب الشروط التي ينص عليها القانون. من يستطيع أن ينفي, دون تأنيب ضمير, أن تعريفه بحقوقه فيما يتعلق بالمساعدات الاجتماعية, يصله إلى بيته في رسائل شخصية وباسمه, ليطالب بها إن لم يكن يعرفها بعد. و في نشرات عامة تصدرها تلك المؤسسات, للجميع, و توصلها إلى صناديق بريدهم, ونشرات مخصصة باللغات الأجنبية بما فيها العربية, للتأكد من فهمها من قبل الأجنبي فهما كاملا. ألا يحسب هذا متابعة للإنسان لإيقافه على حقوقه وإعلامه بها؟. (مرة أخري نذكر بوجود تجاوزات هنا وهناك لما ذكرنا, وبشكل خاص ممن ذكرنا ممن لا ينظرون بارتياح لوجود الأجانب. وبان التطبيق لا يلتزم دائما بحرفية القانون ).
احترام الإنسان وحقوقه, يتجسد ماديا, عن طريق توفير كل الشروط التي تحقق له مستوى معينا يجعله يشعر بكرامته وإنسانيته, ولم يعد ذلك مجرد تطبيق مبادئ أخلاقية تصدر عن مؤسسات دينية أو تبشيرية, أو إنسانية, قد يهدف بعضها للتأثير في قناعته الشخصية, أو معتقداته, واستمالته إلى هنا أو هناك. أو نوع من الإحسان يقوم على الشفقة والعطف, والرأفة التي كثيرا ما تمس الكرامة. أو هبة أو مكرمة من حاكم أو حكومة, إنما أصبحت في الدول المتقدمة حقوقا يكفلها الدستور والقانون واللوائح المرعية. تعطي صاحبها الحق بالمطالبة بها. و تعاقب كل مخالفة أو خرق لها, مها كانت الجهة التي لم تحترمها. ويخصص للمنازعات المتعلقة بها محاكم متخصصة لمراعاتها, كمحاكم الضمان الاجتماعي. إلى جانب محاكم الاختصاص العام.
لقد خرج تنظيم المكتسبات الاجتماعية من دائرة الأخلاق الصرفة, والإحسان والصدقة. من النظري الشكلي, إلى المادي المحسوس, بدخوله الدائرة القانونية وخضوعه لقواعد قانونية عامة لها صفة الإكراه والإلزام. وهذا ما تفرضه العلمانية في دولة القانون والمؤسسات, والديمقراطية, وحقوق الإنسان.
و لا يعني هذا أن الإنسان في المجتمعات الديمقراطية يعتبر انه قد توصل إلى حقوقه كاملة, وعليه الاسترخاء والاعتماد على السلطة السياسية لتطوير هذه الحقوق وصيانتها. فنضال المنظمات الحقوقية, و جمعيات المجتمع المدني, والأحزاب السياسية, كل في مجاله, لم يتوقف يوما عن المطالبة بأوضاع أفضل وحماية أقوى. والجميع يراقب ويقترح ويطرح برامج من اجل أن تواكب المكتسبات الحالية تطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, ومقتضياتها. إنها حركة دائمة وواعية لمجتمعات بأكملها حاضرة في بناء كياناتها.
يقودنا هذا إلى أنظمتنا السياسية, والى المتشبعين بثقافة العداء للحضارة, غير العربية الأصيلة, والديمقراطية, غير المتلائمة مع الخصوصية العربية, وحقوق الإنسان, غير العربي المختار, ودولة القانون والمؤسسات. باعتبارها منتجات أجنبية غريبة عن قيمنا وأخلاقنا وعاداتنا, والى محاولات إفهام مواطنينا بأننا أصحاب حضارة, لم نصل بعد إلى استنباط كنوزها, ولم نكفها, بعد, حقها من البكاء عليها, ولم نرتدع, بعد, عن إساءاتنا إليها. ولم نعترف, بتواضع, إننا أصبحنا غير جديرين بالانتساب لها. ويطلب منا رفض القيم الإنسانية, وكأننا خارجها, وكأنه لم يكن لنا أي دور في بنائها. ورفض ما توصل إليه الفكر المعاصر في مجالات التنظيم السياسي, وبناء الدولة العصرية. دون تقديم بديل صالح أو حتى المساهمة في بناء أي شيء ايجابي في هذا المجال, أو أي مجال مفيد.
المخاطبة بصيغة الجمع, لغة التعبير عن احترام المخاطب في دول الغرب, موجودة أيضا لدى أنظمتنا ولكن على طريقتنا, ويدخل فيها المعاملة الجماعية, والتقدير بالكمية, ودون تمييز, ومثالها الجماعية في انتهاكات حقوق المواطنين, والمقيمين, بصفة شرعية, في الدول العربية, ومنها أنظمة الدول المستقطبة للعمالة, الترحيل جماعي. والعقاب جماعي. والطرد إلى الحدود لعائلات بأكملها, دون ابسط مراعاة للقيم ولحقوق الإنسان, جماعي. ولم يغب, بعد, عن الذاكرة ما فعلته ليبيا بطردها مئات العائلات الفلسطينية إلى الحدود مع مصر احتجاجا من العقيد القذافي على اتفاق إعلان مبادئ للسلام بين القيادة الفلسطينية وإسرائيل. وطرد العمال التونسيين جماعات و بالجملة عام 1994. و الأحداث الدامية التي عاشها العمال السودانيون في ليبيا, بما عرف بإحداث الزاوية عام 2000 حيث قتل الكثير منهم, وترحيل 7522 عاملا, وما زال 182 من العمال مفقودين إلى اليوم.(طرابلس ـ ليبيا اليوم ـ بانا)
العمال وعائلاتهم يخضعون, في غالبية دول الخليج, خضوعا مطلقا للكفيل المسؤول عن رب العائلة وأفراد عائلته, باعتباره وليهم جميعا, وله عليهم ولاية تفوق بحدتها واتساعها الولاية على القصّر وعديمي الأهلية. ويستطيع طردهم من العمل, وسحب وثائق إقامتهم, و إدخالهم السجون إذا شاء, وبناء على ادعائه وحده.
من يستطيع نكران مخاطبة أجهزة القمع للمواطن, في البلدان العربية, بصيغة الجمع, فتوجه إليه الإهانات والشتائم بلغة الجمع, لتطال الشتيمة جميع عائلته, وعشيرته, وكل من يمت له بصلة. وتعاقبه عقابا جماعيا, بتهديده بان تطال العقوبة أفراد عائلته, و تتخذ من بعضهم رهائن. و يتم تعذيبه أمامهم, وتعذيبهم أمامه. كما أن الاتهام جماعي, و العقاب جماعي. وللتخلص من العقاب الجماعي, وليفوتوا على الجلاد آداب المعاملة الجماعية والخطاب بصيغة الجمع, يتبرأ أهل وأصدقاء ومعارف "المجرم" منه براءة الذئب من دم يوسف.
فالقواعد القانونية ــ بعد تجاوزها مرحلة التشريعات التي عرفتها المجتمعات البدائية ــ التي تنص على عدم مسوؤلية الشخص جنائيا إلا عن أفعاله الخاصة « nul n’est responsable pénalement que de son propre fait » و تلك التي تقرر شخصنة العقوبة la personnalité des peines » غير مرعية التطبيق و لا حرمة لها لدى أنظمتنا.
لا تعمل الأنظمة العربية على مخاطبة المواطن بما يعزز كرامته, ويصون إنسانيته, ويخلق منه مواطنا خلاقا مرتبط بوطنه بروابط المواطنية. وخاصة أن اللغة العربية, لغة الأدب الرفيع و الفصاحة, لغة القلب والعقل, والتي لا تنقصها أساليب السمو بالروح الإنسانية, لا تصلح للتحقير والإهانة و الإذلال, وهو ما تترفع عنه, فيلجأ الجلادون الذين يجهلون خصائصها ولا يجدون ضالتهم فيها, إلى استعمال ما انحط من تعابير عامّية, دخيلة حتى على العامية المعروفة, ومصطلحات متهافتة, تساقطت واندثرت عند غيرنا لعدم الاستعمال, وبالتقادم.
ألا تعتبر الإهانة بالكلمة جريمة تعاقب عليها قوانين الدول المتحضرة. أم أن من تعود على استعمال أساليب التعذيب الجسدي الوحشية المبتكر منها والمستورد المطور محليا ــ التي تصف بعضها تقارير اللجان الدولية لحقوق الإنسان ــ والتغييب في السجون لعشرات السنين, أو الإخفاء الأبدي, يستهجن ويسخر من سماعه أن الكلمة المهينة جريمة وأنها وسيلة تعذيب للإنسان.
كم ستكون صدمة المحامي الفرنسي الذي أراد أن ينصف موكله العربي برد الاعتبار إليه عن طريق رفع إساءة الشرطي الذي لم يخاطبه بصيغة الجمع, جمعهم لا جمعنا, كبيرة عندما يعلم أن موكله المحطم, غير الواثق من كمال إنسانيته والاعتراف له بها, هارب من العذاب الأكبر, الذي تصغر أمامه كل المصائب والصعاب, عله يجد في الغربة مأمنا ولقمة عيش شريفة ولمسة إنسانية. فكم من أمثاله قد عبّر أمام المحاكم عن تفضيله السجون الأوروبية على"الحرية" في بلده.
د. هايل نصر.
التعليقات (0)