لم يمر على سفر آلام اليمن, البلد الجميل الذي غادرته السعادة طويلا, وضعا بائسا ومحرجاً كالذي يختبره ويعانيه هذه الأيام..وما أقسى عضال أمره وهو يطيل النظر في الأفق, عسى أن تغيثه السماء بحل عزّ على نخبته أن تهتدي إليه..أو بحثاً عن أي إشارة تنبئه عن ماهية هذا الحل, وكيف سيكون, وبعقل من سيختمر, ومتى..
فلو استبعدنا التنظيمات الإرهابية بشقيها النائم والمستيقظ والتي ما فتأت تخرج لسانها للنظام ما بين تارةً وأخرى..ولو وضعنا جانبا الفقر, الأب غير الشرعي لكل علامة فارقة للعنف والتطرف ,والذي تقادم جثومه على عاتق وكاهل وأنفاس أهل اليمن الطيبين، ولو أغضضنا النظر عن التخوفات المبررة التي يثيرها الانتشار المتزايد للقوات البحرية التابعة للقوى الدولية العظمى في البحر الأحمر والمتحججة بتفاقم أعمال القرصنة البحرية تحت انف المياه الإقليمية اليمنية .. وجدنا بعدها طابورا متطاولا من التأزمات والتحديات السياسية الداخلية التي تعصف بالنظام وتدوس القدسية المفترضة للدستور والقوانين المعفرة بالتراب من كثرة تركها مركونة على الرفوف المنسية.وتغول الانتماء القبلي وهيمنته على سلطة الدولة وهيبتها.وانتهاك الكثير من القوانين تحت شعار القيم القبلية والانتماءات العشائرية والمناطقية.. وبما يضعف الروح الوطنية الجامعة لأبناء اليمن ويرسخ تقدم مصالح القبيلة على مصالح الدولة...
وتزداد المخاوف وانحباس الأنفاس هذه الأيام خصوصا مع توارد الأنباء من المحافظات الجنوبية والشرقية محملة بطوراً جديداً من التباس الرؤية المتعدد الأطراف المتزامن مع استكلاب الروح التنافرية ما بين الشمال والجنوب اليمنيان..واستعار التطورات العسكرية والأمنية والسياسية في جنوب اليمن ودخول المواطنين هناك في سجل الخسائر قتلا وجرحا واعتقالا..وحرقا لممتلكات وحصار لوحدات عسكرية وهجمات على مواقع حكومية من قبل ما يطلق عليهم –في هكذا مناسبات- بالمسلحين.. يقابله قصفا مدفعيا مكثفا على مناطق جبلية وتحشد لقوات عسكرية نظامية.. كاستمرار للإخفاق الحكومي الواضح في تلمس أي إمكانية لتأطير الإشكاليات والتناقضات الراهنة وطرح أي صيغة توفيقية تمتاز بالعقلانية والقدرة على التصحيح..
فمن الصعب على المراقب المنصف أن لا يسجل تقاعس النظام الحاكم عن محاولة نزع فتيل الأزمة منذ بواكيرها الأولى من خلال التعامل بايجابية مع المطالبات الاحتجاجية للمتقاعدين في المحافظات الجنوبية وتفهم واستيعاب واحتواء شعورهم بالظلم والتهميش وانعدام المواطنة المتساوية.. وعدم التعاطي بجدية مع التقارير التي أشارت بوضوح إلى أسباب تصاعد هذه التحركات السلمية وعزوها إلى عمليات نهب منظمة من قبل بعض النافذين والمقربين للأراضي والممتلكات العامة في المحافظات الجنوبية منذ أحداث حرب عام 1994، ومن بينها مزارع شاسعة تمتد لآلاف الهكتارات، إضافة إلى أراضي الجمعيات السكنية للمدنيين والعسكريين، ومعظم جبال عدن وأراضيها ومنافذها وسواحلها تم نهبها ومصادرتها،
ففي حين يراقب اليمنيون ,وبذعر واضح,تحول شعارات الحراك الجنوبي إلى تبني الخطاب التشطيري و الانفصالي واجتياز جميع الخطوط وبكل الألوان واستخدام مصطلحات اللاعودة من خلال إطلاق صفة قوات الاحتلال الشمالي على القوات النظامية اليمنية..والإشارات المتكررة إلى التخلي عن الطابع اليمني الشامل للصراع والانفتاح على جميع الخيارات حتى أقصاها..نجد الحكومة اليمنية تسرف في الاعتماد على الترويج لعلاقة ما خفية بين قوى الحراك الجنوبي وبين أنصار الحوثي في صعدة لتحقيق ارتباط مقحم قسريا لأحداث الجنوب مع أصابع إيرانية مفترضة ابتزازاً لأموال الدول الخليجية الذي يدرك النظام اليمني تمام الإدراك حساسيتها المفرطة تجاه وجود إيراني في خاصرتها الجنوبية..
والاستعانة بالخطاب التقليدي للزعماء العرب بالتحذير من انفراط عقد الدولة.. وأن اليمنيين يمكن أن يتقاتلوا من شارع إلى شارع ومن منزل إلى منزل ومن نافذة إلى نافذة والتبشير بسلسلة متوالدة من الحروب والنزاعات إذا غاب الزعيم..
وإكمالا للوصفة المعتمدة من قبل الحكم العربي في هكذا ظروف تحركت السلطات الرسمية نحو تكوين لجان شعبية في المحافظات والمديريات من أجل «الدفاع عن الوحدة اليمنية» كنسخة يمنية من ميليشيا الجنجويد السودانية وللدفع تجاه تصعيد خطير قد لا يتوقف عند حد الدولتين استنادا إلى التركيبة المعقدة والتشظي المجتمعي والقبلي الذي من الممكن أن يطرأ على اليمن في حالة تطور الأمر إلى اشتباكات بين أفراد المجتمع الواحد-لا قدر الله-..
ونظرا لانعدام الخيارات –على ما يبدو- أمام دول الخليج وانحسارها ضمن الدعم المالي السخي لليمن لجسامة وفداحة المجازفة بترك الأمور تصل إلى نهاية الطريق الذي يبدو أن الأطراف اليمنية لا تجد غضاضة في السير به.. يتوجب على مجلس التعاون إطلاق مشاريع شراكة تنموية كبرى في اليمن وبإشراف خليجي مع اشتراطات واضحة وضمانات لإصلاحات اجتماعية وخصوصا في منطقة الجنوب تهدف إلى إزالة أسباب الاحتقان ورد المظالم إلى أهلها وتحقيق المساواة الكاملة في المواطنة لجميع أبناء اليمن ..لضمان عدم تحول الدعم الخليجي المطلوب إلى زيادة التراكم المتخم لأرصدة بعض المتنفذين في الدولة, في جزئه الأكبر ولرصاص ومدافع توجه نحو صدور أبناء الشعب اليمني في جزئه الآخر..
التعليقات (0)