سعدي يوسف: الحركات الدينية لم تقدم الحل.... ولم ترحم المجتمعات من عنفها
الثلاثاء, 22 ديسيمبر 2009
لندن - علي الرباعي
سيرة ذاتية
الشاعر العراقي سعدي يوسف قامة أدبية وفكرية، وطاقة إبداعية من العسير الإلمام بها. إنه رجل المغادرات والخروج الدائم، فهو خرج من البصرة، ثم من عدن، ثم من بيروت، ثم من باريس، ثم من لندن ثم من دمشق، ليعود إلى لندن مجدداً، ويختار بيتاً في ضاحية ريفية هادئة ومغرية، كان يتابع وصف المنزل لسائق التاكسي هاتفياً، حتى وصلت فإذا به مشرقاً ينتظرني على باب البيت، قلت: كما أنت أيها الهلالي، لم تنل منك الأيام، فرد «تعجبين من سقمي، صحتي هي العجب» يعيش بمفرده في وداعة وبساطة، يقول في حواره مع «الحياة» : «القصيدة تنمو عندي ببطء كامل، تبدأ بالتقاطة معينة، بسيطة جداً، ومن بعد أظل أجمع حول هذه الالتقاطات عناصر أعتقد بأنها ضرورية لإعطاء هذه الالتقاطة لحماً ودماً ولا أجلس للكتابة إلا بعد أن أكون حلقت لحيتي، وارتديت ملابس تصلح للخروج من المنزل، فأنا حين أستقبل القصيدة أستقبل العالم» ويرى أن الروائيين أطول عمراً من الشعراء، على رغم أنه يرى أنه نشاز بين الشعراء، لأنه تجاوز الـ 75 من عمره... فإلى تفاصيل الحوار:
> هناك ما يمكن تسميته لعنة الارتحال... فهل طاولتك؟
- المكان بديل جيد، إذ لم يعد في الزمان ما يدهش، والأمكنة ليست مجردة، بل حمّالة أوجه وأزمنة ومعانٍ، وهذا ما يدخلك في حال المشارك والمراقب، والمتسائل والمستقبل، في تواتر يجعل نبضك يتسارع وأنفاسك تتلاحق، ويمنح عينيك سعةً تعيد المجرّد إلى ملموسيته المفتقدة، والأماكن القصية في الذاكرة أو في الجغرافيا تظل قصية البلوغ، وكأنما كنتَ فيها أو كانتْ فيك، وسكنتك حيناً من الدهر، وتركت في هواء كتابتك شذى متضوعاً، أو رائحة حادة كرائحة البارود، إلا أني في الغالب أغادر الأماكن مكرهاً، قبل تغلغل الشميم في عروقي، وكم من أحداث مرت وبعضها جسيم! وكم من أناس عرفت! وكم من مطار هبطت! وكم من بحار قطعت! ومدن رأيت! إلا أنني ما زلت أحتفظ بذلك الخجل شبه المرتبك الذي يمتاز به أهل البصرة.
> متى خرجتَ من البصرة؟
- في أواخر السبعينات، وكان جو بغداد المكفهر يزداد وطأةً وإطباقاً على الأنفس والأنفاس، وكنتُ آنذاك شبه معتزل في منزلي، أكاد لا أتخطى عتبته، ولا أستقبل أصدقاء، وأتى داعٍ من الوسط الثقافي يدعوني إلى الدخول في حزب حاكم متحكم، وحين يئس مني، تم نقلي من مدير في وزارة الثقافة إلى مساعد مدير مكتبة في إحدى إدارات الري، ورحبت بهذا النقل كونه نهاية معقولة لدعوة غير معقولة، ليعود الطرق مجدداً بالالتحاق بالحزب أو الاستعداد لمواجهة جهة أمنية بعد مهلة عشرة أيام، وعندما لم أفلح في إيصال شكواي أو محنتي إلى أحد خلال المهلة، غادرت قبل انقضائها.
> وهل خرجتْ منك البصرة؟
- لم تخرج ولم أخرج، فهل يخرج المرء من جلده؟ إلا أن الأزمان العجيبة تأتي بكل عجيب، البصرة مولدي، وملعب صباي، والانطباع الأول في العينين، عليّ أن أحملها مثل كنز وأطوف بها ومعها حتى أقاصي الدنيا، ولعلك تلحظ أنه على رغم نطقي بثلاث لغات، ومعرفتي باللهجات العربية بحكم تنقلي في أرض العرب، إلا أن لهجة البصرة لا تزال هي المتحكمة، ليناً في النطق، وخفة في مخارج الحروف، وفصاحة.
> بماذا خرجتَ من «ترحال» قارب أربعة عقود؟
- بعد خروجي من العراق ومقاربتي ما يجري في بلدان تتقدم، شعرتُ بفداحة الخراب الذي لحق بالعراق وبالناس، وظل السؤال ملازماً لي: «هل بالإمكان إبادة الشعوب»؟ وهنا لا أريد أن يكون للأسئلة جواب وحيد، جواب مشخص، فالمحنة أقسى من ردها إلى شخص ونحن لم نتعلم بعدُ.
> أين وصل منجزك الشعري بعد ستة عقود؟ وهل من توقف للمراجعة، وإعادة النظر؟
- العقود الستة حقاً، ومعها صدر المجلد السادس، وهذه المسيرة لم تكن يسيرة عليّ، فأنا تعبتُ في نقدي المستمر لتجربتي، وهذا ما أرهقني وما زال، ولن أقول إني أبدعت في العقود الستة، إلا أن هناك نهراً يغيّر مجراه، وتحوله من وشل إلى شلال، يصفو ويشف ويتكدر إلا أن النهر هو نفسي، والآن أشعر بأنني أقترب مما يمكن تسميته ما بعد الشعر، لأن هنالك أكثر من دراسة صدرت عني بلغات عدة حول ما بعد الشعر، ولا سيما في اللغة الإنكليزية.
هذا يعني ربما التخلي عن مجموعة جماليات، وقيم وموازين ومقاييس، والتخلي التدريجي كما رصدها متابعون يبدو أنها كانت تأخذ سبيلها متدرجة بإلحاح، ولا أعلم إن كانت قصدية، وهو ما أدى في النهاية إلى وجود هذا المصطلح، بمعنى أن الشاعر والقصيدة يتلازمان، حتى ينتقل الشاعر إلى مدون، وبعض نصوصي أخيراً لا تجد فيها قيماً جمالية من بلاغة وموسيقى، إلا أن فيها تدويناً وتعاملاً مباشراً جداً مع تاريخ وحياة.
> إلا أنك تشعر بما تفعل؟
- نعم، أشعر بما أفعل، ولكن بشكل يوحي للقارئ أن هناك لعبةً ممتعة، وهو سيدخل فيها ويضحك مع القارئ، وهنا أنا لا أكتب شعراً، وإنما أتعامل مع الحياة.
> هل ترى أن الواقع يفرض عليك أن تتحول إلى ساخر من الأشياء؟
- لا يقتصر الأمر على السخرية من واقع، بل هناك تدوين لكل ما يمر بك أو معظمه، حتى حفيف الريح في شجر الصفصاف.
السياسي والشعر
> كيف ترى علاقة السياسي بالشاعر؟
- السياسة بمعناها الإجرائي واليومي، ليست على علاقة بالشعر، فالعلاقة منبتة، لأن السياسة عدو.
> ألا توجد حمولات سياسية في نصك؟
- عندما تدعو الضرورة لذلك، ومنها بيان موقفي من قضية ما، إلا أن الكتابة ليست من موقع السياسي، وإنما من موقع الفنان المتأمل للأشياء، أتعلم تدريجياً ألاّ أقول شيئاً، بمعنى أني أتعلم اللامعنى، النص الشعري - كما أزعم - ليس بذي مقصد، وإن قلتَ لي هذا عبث، فلن أخالفك، ففي الفن الكثير من اللعب، والنص الشعري يطمح إلى إضاءة حالة معتمة أو مبهمة، إلا أنها إضاءة غير باهرة. النص الشعري يمس الأشياء بأنامل مرهفة، إنه يومئ ولا يوجّه، وفي النص إنصات إلى المبهم والأصوات غير المسموعة، وقد حاولت أن أكون أميناً في الوصول إلى المطمح الشعري.
> ألا يعد هذا محاولة لتدارك ما فات من انفلات واقعنا العربي؟
- ربما هو الإحساس بالحرية، فالحرية ضمانة للشعر وضمانة للفن بعامة، ولا شك في أن موجة الستينات والسبعينات انحسرت، والأصوات التي كانت عالية بنبرتها وتجريبها خفتت أو كادت، وهناك خريطة جديدة لا بد من أن تتشكل.
> هل تتلقى ما يكتب عنك بغبطة، أم بتحفظ؟
- ما كُتِبَ عني قليل جداً، إلا أن الذي كُتِب ونُشِر في هيئة كتاب يستحق التقدير، لأن هناك بحثاً متأنياً وشاقاً، ومن الصعب متابعة مسيرتي فهناك كم هائل من النصوص، ولاشتغالي المستمر في تحول النص، وهو ما يعسّر مهمة الناقد.
وآخر ما وصلني كتاب عن المفارقة عند أمل دنقل، ومحمود درويش، وسعدي يوسف، وهذا هو الشيء المهم، متمثلاً في الخروج من النقد العام، والمبادئ العامة والدخول في الخصوصيات، فالحرفة تظهر هنا، وهناك كتاب مقرر في جامعة تونس حول مسألة التقفية عند سعدي يوسف، وكتاب مقرر في جامعة برايتون حول ما بعد الشعر، وهو بحث متأن، وهنا أوضح أن من يبذل جهداً في متابعة نصي، أكلّفهم شططاً وألتمس لهم العذر.
> ألا ترى أن التداخل بين تقويم النص، وتقويم الشخص يفقدنا الموضوعية؟
- ليست لديّ مشكلة نحو هذه القضية، والشاعر أرضية مفتوحة، والشعر بستان، نسأل الله ألاّ يُطرَد منه أحد.
> ما ردك على من يصف قصيدة النثر بالخديج، أو فاقدة الهوية؟
- كل تجديد يقال عنه مثل هذا، فالتفعيلة قيل عنها مثل هذا، وأنا مطلقاً مع قصيدة النثر وتعدد الأشكال، وضد فردانية الشكل، وأنا أستخدم في قصيدة واحدة أشكالاً عدة، تفعيلة ومقفاة ونثراً وشعراً حراً، فالحرية المطلقة هي الأداة المثلى للشعر، وهنا نحن لسنا وحيدين بين الأمم الذين نريد أن يكون لنا شكل فريد، ولا ريب في أنه يوجد تعصب ما، وأفهم في ظل حماسة الجديد، إلا أن المشكلة أنّنا خذلنا إمكان الاستفادة الفعلية من قصيدة النثر في تحرير النص، وبودلير في قصائده الأولى سلّط الضوء على حياة الناس، ومنهم فقراء باريس وجرحى الحرب، وأطفال الشوارع، ومزارع الفلاحين ضمن الكرنفال المفتوح وكذا «أوت ويتمان»، إلا أنها بعد ذلك انفصلت تماماً عن الحياة، وهو انفصال إذعاني لأن هناك أجيالاً تربت على عقود من الرقابة والخوف فانعقدت ألسنتها، ولم تعد تجرؤ على تناول الحياة والواقع وكل ما يحدث من هول يقابل بالصمت.
> هل يرتبط الشعر بالقضايا أم يكون للفن والمتعة؟
- نظرية الفن للفن يعني أن تكون مخلصاً للتغيير والنقد، فالفن نقد وليس موافقة، ولا مشكلة من كون الفن للفن، وأدعو لذلك، لأن ثمة تخلياً عن الفن ومسؤوليته كمسعى في الحياة، وعن مسؤولية المبدع كفنان، وهذه نقطة ضعف عامة ومؤسفة، ولا أدري كيف يمكن الاستمرار فيها.
قصائد غرفة النوم
> يعد العراق منطلقاً للتجديد في النص... كيف ترى تراكمية التجربة عربياً؟
- المشكلة أنه لا يوجد اطلاع حقيقي على الآخر، فتجارب شعراء مثل «ريلكه» و«بودلير» نُقلت إلينا على هيئة قصائد نثر، بينما كل قيم الوزن والقافية وخصائص النص في لغته الأصلية مغيبة، فيتصور معظم العرب أنه من السهولة بمكان كتابة قصيدة النثر، وهذا شيء أدى إلى عدم الاستفادة من الآخر، وهذا مستحيل، لأنك لو تأملت في نصوص الآخرين لعلمت مقدار الجهد الشكلي في اللغة الأم.
ويمكن على الأقل وضع هوامش تنص على البحر والقافية وإشعار القارئ بالترجمة النثرية، لأن تقاليد الترجمة في أوروبا تفرق بين الترجمة الشعرية الملتزمة بالتقفية، والترجمة النثرية، فهناك عدم إتاحة فرصة للشاعر والقارئ العربي ليكون أساساً ثقافياً، فهناك ضحايا حال ثقافي وترجمة غير أمينة، فالنماذج المتطورة من قصيدة النثر العربية نادرة جداً.
وأقول كفانا قصائد من غرفة النوم لأنها زائدة عن الحاجة، والتقيت مرةً شاعرة عمرها في الـ38 فقلت لها: اتركي غرفة النوم، فأنت من عمر الثامنة عشرة منقطعة عن الحياة ومتعكفة في غرفة النوم، وهذا عيب.
> أين ترى الجمال في ظل اتساع رقعة القبح؟
- الفن دائماً جميل حتى في قبحه، والجمال في تقديم وإثارة السؤال، وليس في تقديم الإجابة، فالفن عملية نقدية كبرى، لأنا نريد أن نرى العالم أجمل مما هو عليه، والتصريح بغلط الأشياء وصحة بعضها جزء من الفن.
> ألا يمكن أن يدفع الشاعر والفنان ثمن ما يتطلع إليه؟
- هذه هي المسألة، أو المشكلة، فالخوف من دفع الثمن هو السبب الأساسي في الانفصال عن الحياة، وأصدقك أني أرى خريطة الشعر العربي أمامي الآن وأعرف ظروف الناس، فالشاعر الفنان شأنه كبقية أفراد المجتمع يريد أن يأكل وأن يسكن، ولذا يقع تحت ضغط الحاجة من جهة، وضغط الرقابة المباشرة وغير المباشرة والذاتية من جهة أخرى، وهذا ما يقلل من التجلي في العملية الفنية.
> هل يمكن أن تصف مرحلة السبعينات وما قبلها بالمغامرة والتهور؟
- هي فعلاً كذلك، فما حدث مغامرة كبرى، أنتجت تضحيات جسيمة، وأي تضحية قدمت من أجل كتابة نص حقيقي وشجاع؟!
> هل كان ذلك منطقياً ومبرراً؟
- في تلك المرحلة كنا نريد أن نبني حياة أخرى، في صورة مشابهة لصورة ما بعد الحرب العالمية الثانية وتطلع الشعوب إلى دولة مستقلة، فكنا نريد بناء الجمهوريات ومنها الجمهورية الاشتراكية في اليمن، والتضامن مع المقاومة الفلسطينية، ودخول الماركسية في الحركات القومية، فهذه خلخلة للمجتمع نفسه، وهذا ما سمح ببروز نصوص حرة ومغامِرة وطليقة.
> ألا ترى تقاطعاً بين ما كنتم عليه وبين منهجية التيارات الدينية «المتطرفة»؟
- نحن لم نكن ندعو للقتل، فنحن كنا شعراء ورسامين وكُتاباً وفنانين ومسرحيين وسينمائيين، ولم يكن العنف وسيلة لنا، بل كنا ضحايا عنف السلطات والتعذيب والإعدام والتهجير والنفي، فنحن أتقياء مسالمون ومحبون للحياة البسيطة الجميلة الآمنة، بينما الحركات الدينية لم تقدم الحل، ولم تسلم المجتمعات من عنفها.
> مَنْ خذل الآخر... الفكرة أم الأتباع؟
- أتذكر بسؤالك هذا المغاربة، حين زيارتي لهم قبل أشهر، وقابلت محمد برادة صاحب كتاب «حيوات متجاورة» وكنت حين قرأت الكتاب، أردت أن أكتب عنه، ولعلي أكتب لاحقاً، لكن هناك شيء مهم في قوله لي: «لم نكن نتصور أن المخزن كان جبلاً بهذا الثقل»، فالحالة هي إياها، فالتصور شيء والواقع شيء آخر.
> هل حزنتَ لسقوط ما كان يسمى الاتحاد السوفياتي؟
- لم أحزن، لتوافر مبررات السقوط، ولكن اليسار خدم المثقف، وعزز الحلم بصناعة عالم خلاق.
> لماذا سُحِبت منك جائزة العويس؟
- سحبت معنوياً فقط، وللعلم وللتاريخ فأنا لم أتطاول على الراحل الشيخ زايد، وإنما عتبت عليه بصفته حكيم عربي حين احتلت القوات الأجنبية بلدي.
> هل أنت الآن أكثر واقعيةً؟
- بل أنا أكثر لا منطقية، وأكثر حماقة، لأننا نعيش عصر اللامعقول، والتخلي عن كل معقولية، فالغرب سادة ونحن ندفع الثمن.
> ألم تفكر في العودة إلى العراق؟ وكيف ترى الوضع؟
- فكرتُ قبل الاحتلال أن أعود في ظل الشوق إليه، وتتابع الدعوات، أما بعده فلم أفكر لحظة واحدة في العودة، فأنا عشت النظام الملكي، والجمهورية الأولى والجمهورية الأخيرة لكني لا أقبل أن أعيش تحت ظل الاحتلال، وطريق الكارثة كان واضحاً من البداية، وأحد الألمان كتب عن وجود استعمارين أحدهما محلي، والآخر خارجي، فالنظام السابق في العراق استعمار محلي، نهب البلد وشرّد الناس، وما حدث هو أنه ذهب الاستعمار المحلي، وجاء الاستعمار الخارجي.
> هناك من يرصد تنافساً على المقدمة بينك وبين الراحل محمود درويش؟
- نحن صديقان صداقة عجيبة، ورفيقا درب، وأبناء حزب واحد، وأعتقد بأن علاقتنا كانت أصفى ما تكون علاقة بين شخصين، دعْ عنك علاقة بين شاعرين، وكنا نتحدث في شأن الشعر، ونتبادل ملحوظات حول ما نكتب ونصغي لبعض بانتباه، وإلى ما قبل رحلته ونحن على تواصل، فالفترة الأخيرة كنا قريبين.
> هل كان محمود درويش أكثر حظوةً منك؟
- محمود درويش كان شخصاً مضطهداً في حقيقة الأمر، كان يحس بالاضطهاد من بني جلدته، فما ظهر حوله من هالة لا تعكس ما كان يدور في العمق، وكان معزولاً لأنه كان أبياً وكريم خلق، وحراً ينتقد ما يراه ولم يكن مجاملاً، وهذه صفة الفنان العظيم.
> كيف ترى الشعرية في مقابل عدد الشعراء؟
- من الصعب تقويم الشعرية، والأصعب أن نقول إن الشعر بخير، فنحن لم نعد أمة كتاب، بل أمة معقودة اللسان، ونحن أضعنا الكتاب.
> ما مدى اطلاعك على التجارب الشعرية السعودية؟
- المشهد الشعري في السعودية ليس غريباً عليّ، ولي علاقة شخصية بمعظمهم، والشعراء السعوديون أكثر شجاعةً من شعراء لبنان، ولكن التراكمية غير متوافرة وإن لم تكن قانوناً قائماً، إلا أن الاتقاد أمر مجهول لا ندري كم يستمر!
> وكيف ترى القارئ السعودي؟
- هو قارئ مميز، وأنا صديق له ومتعاطف معه، وأنشر في الصحف المحلية السعودية من دون تردد، وما زلت أذكر دعوة السفير السابق في لندن غازي القصيبي، واستقباله لي في مدخل السفارة، وكنت محل حفاوته، والملحق الثقافي السابق عبدالله الناصر كان صديقاً لكل المثقفين وأنا أحدهم بالطبع.
> هل تعجز القصيدة عن التعبير عن الشاعر، حتى يلجأ إلى كتابة الرواية؟
- كتابة الرواية موجودة عند الشعراء، فأراغون الشاعر الفرنسي كاتب رواية عظيم، وديفيد معلوف كان شاعراً ثم تحوّل إلى روائي، فالرواية فن عظيم ومستغرق حياة وحيوات، وكثيراً ما أفكر. ولعلي أستعيد مقولة عبدالرحمن منيف إن الرواية تكتب بالقعدة الطويلة، وأنا أكتب على جهاز الحاسوب مباشرة وأتعب من الجلوس الطويل، و»الحضارمة» عندكم تجار لجلوسهم الطويل، ولي تجارب كتابية منها مثلث الدائرة وخطوات الكنغر، ويوميات الأذى وهو كتاب مقالات.
> أيهما أوفر حظاً في الحياة وطول عمراً... الشعراء أم الروائيون؟
- الروائيون في نظري أوفر حظاً، فنحن الشعراء من امرؤ القيس، مروراً بأبي تمام، وليس انتهاء ببدر السياب ورامبو لا نعمّر طويلاً، على رغم وجود نماذج من زهير ونازك ونزار، وأنا عندي الآن 75 عاماً، فلعلي أكون استثناءً ويمنحني الشعر طول العمر.
الشعر والتحولات الكبرى
> هل تعوّل على الشعر في التحولات الكبرى؟
- لا أعوّل على الشعر وحده، وإنما على الفن بوجه عام، فالسينما والتصوير الفوتوغرافي، والتشكيل، والمسرح، والموسيقى يمكن أن تسهم في التحولات، إلا أن الفن نفسه مريض اليوم، وبحاجة إلى طريقة علاجية ناجعة على رغم أنها ستكون شاقة.
> كيف تتعامل مع مواقع «الإنترنت»؟
- هذا علم عظيم، وفائدة كبرى، ومنفعة للإنسانية، وللثقافة، وخدمة البشر وتوفير المعلومة، وما تقوم به مؤسسات البحث وما لديها من كنز معلومات لا يمكن أن ندرجها إلا في قائمة العظمة.
> ما مدى رضاك عن التحولات في عالمنا العربي؟
- سؤال الأول لا يزال قائماً ولن أتنازل عنه متمثلاً في «متى تتكون لدينا الدولة الوطنية» فإن تكونت فيستحقق كل شيء، من تعليم إلى اقتصاد إلى تطور مستوى المعيشة، والصحة، ونظافة البيئة، فالدولة كانت في إطار التكوين ثم اختفت.
وعليك حين تريد أن تعرف واقع مجتمع أن ترصد نسبة الأمية فيه، وفي زيارة أخيراً إلى القاهرة طمحت إلى سماع أغانٍ مصرية، فنصحتني صديقة بصرف النظر عن هذا المطمح، لأنه لا توجد مع الأسف اليوم أغنية مصرية، هذا مع مكانة مصر وجدارتها وعظمة شعبها ورقي رموزها الكبار إلا أن هناك تجهيلاً.
> ألا ترى أننا أسرى فوبيا الآخر؟
- نعم، وهي مفروضة علينا من دون شك بالقوة وبالسلاح، من الغرب ومستعمراته.
> أين هي الأحزاب السياسية الفاعلة؟
- الجماهير قُمعت على مدى عقود، والناس مشغولة بالبحث عن القوت، ولقمة العيش، فهناك إقصاء بطرق همجية لإبعاده عن الشأن العام، والصديق الشاعر عفيفي مطر قال لي هناك أفراد من الشعوب العربية لا تتناول وجبة ساخنة في اليوم سوى الشاي.
> ما مدى مواكبة النقد للحركة الشعرية؟
- النقد انتهى، لأنه حين انتهى نقد السياسة انتهى نقد الأدب، وعبدالله الغذامي ذكي جداً في كتابته في النقد الثقافي ليقينه بأنه سينفذ منه إلى فضاءات ومناطق في الغالب محظور تناولها.
> هل جَنَتْ عليك مواقفك السياسية؟
- لا، والله.
> ألست الهلالي أفقر من ذرة الرمل بدّلت تيهاً بتيه؟
- هذا صحيح، وهذه حرية مطلقة، والمفلس في القافلة أمير.
> ألم تكن لك خيارات أفضل؟
- أنا حراك الريح، وحياتي هنا منسجمة، عندما تأكل وتشرب وتلبس بشكل جيد فالأمور على ما يرام.
> ألم تندم على فرص فاتت؟
- كلا، ما كنت ذات يوم في عوز قاتل أو ملح، يدفعني إلى حاجة الآخرين، وربما يمر بنا من يفاوضني على مبادئي ومواقفي لأعلن مناقضها، أو أعتذر عن موقف ليدفع لي بالدولار إلا أن مواقفي ثابتة، ورؤيتي للأشياء لا أخضعها لمزاج أو سياسة أحد، وذمتي ليست رخيصة لتشترى.
> حال الكتابة لها خصوصية عند سعدي يوسف؟
- أتذكر مقولة «فرجينيا وولف» حول ضرورة أن يكون لكل فنان غرفته الخاصة به، أنا أفضّل الكتابة في غرفتي الخاصة، لكني قد أكتب في المقهى حين لا أعرف أحداً، ولا يعرفني أحد، وأكتب في الطائرة حين يكون جليسي مجهولاً، والقصيدة تنمو عندي ببطء كامل، تبدأ بالتقاطة معينة، بسيطة جداً، ومن بعد أظل أجمع حول هذه الالتقاطات عناصر أعتقد بأنها ضرورية لإعطاء هذه الالتقاطة لحماً ودماً.
> هل من طقوس؟
- أجل، أجلس للكتابة بعد أن أكون حلقت لحيتي، وارتديت ملابس تصلح للخروج من المنزل، فأنا حين أستقبل القصيدة أستقبل العالم، وأفضّل ورق الصحافة، وأكتب بحبر أسود سائل، والكتابة عندي نهارية، فلا أكتب في الليل، وأحب أن أكتب قرب نافذة تطل على امتداد على بحر أو حديقة أو مشهد طبيعي، وإن لم يعجبني ما كتبت مزقته.
> ما هو الشعر عند سعدي يوسف؟
- هو خبزي اليومي، فمنذ أكثر من نصف قرن وأنا مع هذا الرفيق الذي لم يخذلْني يوماً، وإنْ خذلتُه كثيراً، في محاولتي التعرف عليه أكثر، ومعرفةَ خصاله وطباعه، وأدب مرافقته ومجالسته. والحق أقول إنني أبذل ما أستطيع بذله، وأستمتع بما أبذل، فرحلتي دائمة وهو قريب، ناء، وواضح، غامض، وكأنّ الحياة بأسرها ساحة للشعر وملعب، وكأنني مكلف بأن أذرع هذه الساحة في محاولة بلوغ الفنّ، بلوغ الشعر.
> وماذا يمثّل الجمهور لك؟
- يبدو لي أحياناً، أن عنواناً مثل «الشعر والجمهور» - ملتبس التباساً ما، وفي زعمي أن هذا العنوان يمثل استقطاباً (أي أنه يضع الشعر في مقابل الجمهور، أو يضع الجمهور في مقابل الشعر)، وكأن الشعر والجمهور قطبان ذوا علاقة هي السلب تحديداً. وربما يرى راءٍ أن الحل هو في «الشاعر الجماهيريّ» أو «الشعر الجماهيريّ»، والتعبيران كلاهما لا يتمتعان بالاحترام حتى من لدن القائلين بهما، فالتعبيران يُنزلان الشعرَ، باعتباره فناً، والجمهورَ، باعتبارِه مستقبل فنٍّ، منزلة دُنيا، تتعارضُ أساساً، مع مسعى الفنّ في الارتقاء بالفنّ والبشرِ إلى المَقامِ الأرفع، والشاعرُ هو المستقبِل الأول لما كتب.
> ماذا عن العائلة والبيت؟
- أنا يا أخي اكتشفتُ بعد تجربة أن الزواج استهلاك تراكمي، لا ينسجم مع حال الكتابة، والزوجة والعائلة قيود، والحياة الحرة أسمى الحيوات المتجاورة.
التعليقات (0)