معذرة أنا مشغول بحالي عن هموم وطني الصغير تونس ووطني الكبير العالم العربي...
مشغول بغبائي الذي قادني إلى تصديقي لربيع عربي افتراضي أزهرت حقوله على الشبكة العنكبوتية لتلهيَ بخدعتها عن حقيقة شتاء الواقع العربي البائس والمسؤول عن شلّ القدرة عن الفعل الحضاري ..
مشغول بقصوري عن الإسهام في إنقاذ وطني في ذاتي المُهشَّمة،وما كانت من قبل بكلّ هذا الانكسار...
مشغول بمصيري في مصير وطني عن مصيره المحفوف بالمخاطر أنا الذي ليس لي وطن سواه لأنني،ككل المستضعفين،لا أحمل غير هويّته ولا أقدر على التبرّؤ من تشوّهاتها المستفحلة...تشوّهاتٌ تنعكس ندوبا غائرة في أعماقي تضجّ بها قسمات وجهي الشاحبة الحزينة...
الوطن في داخلي أضحى بركانا يتربّص بي شرّا لأنّ غيري لا يُريدُه أن يتّسع لي،فإذا بي أصوغ مبررات إعلان رفضي ليتّسع له...
عجبا،هذا وطني أكاد لا أعرفه أستغيثه فيرميني بسهام استغاثته بي صارخا في وجهي قائلا :" ألا تراني أغرق ؟.ا.."...
أنشغل بذاتي حائرا متسائلا:"منْ يحميني في وطن يغرق؟..ماذا يعني أن يحضنني وطن يغرق؟..هل أفرّ من أحضانه إلى حيث لا وطن لي غيره؟.ا.."
اليوم أدركت رسالة تلك الحشود الغفيرة من الشباب قادحِ شرارة الثورة وهو يتدافع مبحرا في قوارب الموت على أمل بلوغ الضفة الشمالية من المتوسط حيث مكان الاحتجاج على ما يعانيه من قهر وإذلال..لقد أدرك بحدسه ما لم أكن قادرا على إدراكه في إبّانه من أنّ الوطن لم يعد بإمكانه الإصغاء إلى صراخه بعد أن وقع أسير تهريج نخبه السياسية التي علا صوتها على صوت شبابه الثائر وشعبها المنهك المهموم...
إنها ذات النخب السياسية المتوارثة للهزائم العربية فكرا وسلوكا تنقضّ من جديد كوحش كاسر على أحلام الثائرين الورديّة لتفتك بها مدّعية،دون خجل،أنها من صنعها وأنها بحاجة إلى وصايتها،مشوّهة لسحر جمالها بما تقترفه من إثم في حقّ نقاوتها،فارضة عليها الوقوع في محاذير تراث "داحس والغبراء" بتعلة أنّ التنافر فالتقاتل بين أبناء الشعب الواحد هو من فرائض الثورات التي لن تستكمل أهدافها بدونه...وإلاّ التفّ الأشرار على الأخيار وأجهضت الثورة والحال أنّ الخطر كلّ الخطر من أحقاد لا يتسع لها الوطن فتغتاله...
ما من خطر يعصف بأحلام شعوب "الربيع العربي" غير ابتلائها بزعامات جديدة قديمة قد يلوح بعضها بوجوه جديدة لكنها لا تختلف جوهريا عن الزعامات السابقة،إذ العبرة بالمشاريع وبأسلوب التعاطي معها،غير أننا إزاءه اجترارٍ لمشاريع قديمة متآكلة تتستر بمساحيق العصر بينما هي تكرّر صياغة التراث العربي صياغة تشكو فقر الإبداع والتجديد وتعاني القصور عن ولوج المدنية الحديثة وفقا لشروطها لا لضوابط جشع الحالمين بالسلطان،ولا شيء غير السلطان مهما كان الثمن الذي تدفعه شعوبهم التي أنهكها تنكر التاريخ لاستعادة شرفها وإبائها...
في ظل القمع الأيديولوجي المروِّع يبدو المشهد مرشَّحا لانحدار في هوّة سحيقة تلتهم ما تبقّى من أملٍ في ربيع عربيّ أعلِن عنه وقد لا يأتي وقد يكون خدعة كتلك الخدع الكثيرة التي حبُل بها رحِمُ الحلم العربي (تحرير فلسطين والوحدة العربية وبناء المغرب العربي والارتقاء بشعوبنا إلى مصاف الدول الديمقراطية المتقدّمة..و..و..)
وكما الخطاف حلّق في سمائنا في غير فصله،فلقد انشغلنا عن لونه الأسود ببشراه لنا بالرّبيع ،فإذا بنا،ودون سابق إنذار،نستعجل التنظير إلى مفهوم آخر لمعنى "نحن والآخر"..."الآخر" لم يعد ذلك المهيمن على حضارة العصر...تغيّرت المفاهيم بقدرة قادر وبمصوّغات استدعت التضادّ بين الصالح والطالح،وبين العلماني والإسلامي،وبين حماة الثورة والخونة...فإذا بــ "نحن والآخر " داخل الوطن الواحد ليينشطر شعبه إلى فريقيْن متصارعين ،إن لم يكن أكثر، بعد أن كانت من مبررات وحْدته تلك القناعة بالعدوّ الخارجي المهيمن الذي يتربّص به،وذلك الخوف من قمع الحاكم الوطني المستبدّ...
غير أنّ الكارثة لا تتربّص بدول "الرّبيع العربي" من هذه التجاذبات الكلامية التي كان بإمكانها أن ترقى إلى تناظر فكري يثري ويضيف...الخطر واضح في منسوب التشنّج المرتفع الذي انحدر إلى تشابك عنيف ودموع ودماء واغتيالات تدق طبول الحرب الأهلية بين أبناء شعب واحد في وطن واحد طمح إلى العلى ورغب في حقه في الحرية والكرامة...
إنّ الصخب الايديولوجي تحوّل إلى حالة تشنّج قصوى دنّستْ ألقَ القيم الدينية والوضعية وانحرفت بجوهر مقاصدها النبيلة لتشحنها بمخزون موروث من الأحقاد والضغينة والنميمة والتخلف والقصور عن الفعل الحضاري في زمن لا يُدين إلاّ بفعلٍ ينفع الناس على أرض الواقع
ولأنّ الضباب أصبح يعتّم الرؤية،فإنّ ما يلوح من "منافع" الربيع العربي هو انصرافنا عمّا درجنا على التلهّي به والذي كان يقوم على التّسلي بمعادلة " نحن والآخر " بمعنى : "الآخر" هو العالم المتقدّم المهيمِن الذي اعتقدنا أنه يُعادينا ويُذلّنا "نحن" العرب والمسلمين لا لشيء سوى لكرهه لهويّتنا...هكذا بكلّ هذه البساطة استبلهنا أنفسَنا لنبرِّرَ لعْقنا لجراحنا على أنْ نقوى بها على عدوّنا .ا..هذا الأخير استعذب حماقتنا وأمعن في دفعنا على تصديقها،ولمّا استوفى غرضه منّا عن طريق حكامنا المسكونين بداء العظمة،سمح لخطَاف الرّبيع أن يُحلِّق في سماء أوطاننا المكفهرّة...رأينا بأمِّ أعيُنِنا خطافا يُحلّق في سماء خريفنا فحسبنا "الرّبيع" أتى على غير عادة نواميس الفصول والطبيعة...جاء الخطاف ليغيّر من معنى "الأنا والآخر" ويُحوّل الصراع والكراهية داخل بيوتنا....
وحيث أني لا أرى من وجبة قدّمها لنا مهندسو وسياسيو "الربيع العربي" غير وجبة الضغينة والصراخ والعنتريات فلقد انشغلت بهمومي عن هموم وطني الذي أراه يضيق بي...
التعليقات (0)