في موقف سيارات الأجرة ، حافلات كبيرة وصغيرة ومتوسطة ، وأزمة خانقة في كل اتجاه ، الناس في هرج ومرج ، والباعة ينتشرون في المكان بشكل عشوائي كالعادة .. الريح تعوي فوق الصفيح وتثير غبارا خماسينيا مؤذيا ..
كنا نقف في طابور طويل ننتظر قدوم الحافلة التي غالبا ما كانت تأتي محملة بالركاب على الطريق ، فما أن تقف ينزل من ينزل ولما يحاول البعض الصعود إليها يجد أن لا مجال لراكب واحد .. حيث يكون السائق قد حمل من حمل .. والكنترول حجز ما حجز من مقاعد .. ويبقى الناس في الموقف لساعات حتى تتلاشى الأزمة فيصعد من لا يقدر على الفوضى أو الصعود من النافذة أو من باب السائق بمساعدة الكنترول الذي يمثل مسؤولا كبيرا في الموقف والحافلة .
في ظل هذه الفوضى العامة الطامة ، وعلى جميع الخطوط ، وبما تمثله لما نحن عليه ، وعلى جميع الصعد ، كان ثمة طفل صغير يبيع العلكة ، يتجول بين الركاب ، ينزلق من حافلة الى أخرى ، ومن طابور الى آخر .. ومن شاب الى فتاة .. أثناء تلك الحركات وهذه الفوضى سقط باكيت العلكة وداسته الأقدام .. فسقط الولد على العارض يحاول أن يلم ما يمكن لمه ويجمع شتاته .. فما افلح وما نجح .. واخذ يبكي بكاء مرا وكأنه فقد وطنه أو كاد ( اذا لم يكن قد فقده بعد ، لانه ربما لم يحس انه له وطن بعد ) ...
الغريب أن الناس كانت تقف في الطابور ببلاهة وبلادة وكسل ونزق .. وكأن الولد من كوكب أخر .. أو كأن البكاء موسيقى خلفية لمسلسل تركي حزين .. لم يتحرك احد .. لم ينطق أحد .. لم يبادر أحد .. لم يتألم أحد ..واستمر الولد على ما هو عليه .
ذهبت إليه ، قرفصت بجانبه .. سألته ..فاكتشفت أن الولد يتيم ..وأنه يبع العلكة لزوجته أبيه .. ,وإنها ستعاقبه أن لم يعد بالمبلغ كاملا وما تبقى من العلكة .. كان ثمن ما تبقى من العلكة مبلغا تافها جدا .. نقدته إياه ..وآلاف العيون ترمقني وكأنني من كوكب أخر ..
كم أحسست أنني من كوكب أخر كما زعم أحدهم في رده على مقالة من مقالاتي .. وهو يرحب بي على كوكب الأرض ..
تقتلني حالة البلادة والبله والانشداه التي تعمنا ..تصدمني حالات الانكسار أمام جبروت الحياة اليومية ، واستغرب حالات عدم المبالاة التي تسيطر على حياتنا ..وتحلينا الى كائنات طوطمية بلا هوية بلا اهتمامات وحتى بلا رغبات .
تنبهت الى طلابي في المدرسة تفحصت ودققت في هواياتهم واهتماماتهم وميولهم ومواهبهم في استبانه وزعتها عليهم .. وكنت أرجو من وراء ذلك أن أوزعهم على أندية مدرسية تقوم على تنمية تلك الهوايات والميول والمواهب ..
صدمت وتعجبت أي جيل هذا الذي نبيي ونعلم ونعلق عليه الآمال العريضة .. صدمت وأنا أتوقع أن أجد احدهم له ميول وهوايات واهتمامات واسعة الطيف عريضة متنوعة .. قد تجعل من المدرسة مكانا أكثر متعة ومتنفسا لهم ..صدمت وأنا أجد أن الكثير منهم بلا هواية وبلا ميول ..وترك خانة الهواية والميول والموهبة فارغة .. كانت نسبة 95 % ممن قام بتعبئتها منهم تميل نحو كرة القدم .
كنت أتمنى أن أجد منهم من يميل نحو التصوير الضوئي أو من يميل نحو التشكيل أو النحت أو البحث العلمي أو الرسم أو الغناء أو الرقص أو التمثيل أو جمع الطوابع أو المراسلة بالبريد العادي فضلا عن الالكتروني أو من يميل نحو الرحلات الاستكشافية ..أو إصلاح بعض الآلات أو ...
شيء يميت القلب أكثر مما هو ميت ، ويقتل أكثر مما هو مقتول ..
وأنا شو دخلي .. ما الي خص ..وحل عني ........
التعليقات (0)