بقلم/ ممدوح الشيخ
mmshikh@hotmail.com
كان لقاءً تلفزيونيا عن جلوس المرأة على منصة القضاء وكان المتحدث القاضي الجليل المستشار أحمد مكي واستوقفتني عبارة ساهمت في حل لغز!
قال المستشار أحمد مكي إن من المتاعب التي يشفق على المرأة منها في موضوع عملها قاضية التقليد الذي يجعل القاضي لا يبقى في مكان واحد أكثر من خمسة أعوام، والهدف ألا يكون القاضي علاقات اجتماعية تصبح عبئا على عمله ودوره في الفصل بين الخصوم. والمهم في هذه القاعدة أنها متبعة جزئيا في وزارة الداخلية، ومعنى هذا أن بقاء الموظف العمومي في مكان واحد باب للفساد!
وقبل 23 يوليو 1952 كانت القاعدة متبعة جزئيا في كثير من الوظائف العمومية قبل أن يتم تثبيت الأوضاع بشكل جعل العلاقات الاجتماعية عبئا ثقيلا جدا على أداء الموظف العمومي، فهل حدث هذا بشكل عرضي؟ على الأرجح لا.
فثقافتنا عموما تشهد منذ منتصف القرن العشرين إلحاحا على فكرة الثبات والارتباط المبالغ فيه بالمكان، رغم أن ثقافتنا العربية كانت ومنذ قديم الزمان تلقن أبناءها أن "في السفر سبع فوائد"، وفجأة أصبح كل منا مرتبطا بالمكان الذي ولد فيه بشكل مرضي، أي أننا أصبحنا مرضى بالحنين.
وهذا النقاش فتح الباب لفهم مقولات وسلوكيات طالما بدت غير مفهومة – ولو جزئيا – فنحن من الأمم القليلة في العالم التي تأخذ عالمها معها في الغربة، وقبل أن يتم تشديد الإجراءات في بعض الدول العربية لأسباب أمنية وصحية كان كثير من المغتربين يشحنون معهم مصر كلها: جبنة قديمة – مش – عسل نحل – عيش بيتي - .... وكأن المطبخ المجتمع الذي يذهب هؤلاء إليه للعمل رجس من عمل الشيطان، وعندما عادت شرائح من المغتربين معتادين على شيء من عادات شعوب الخليج في المأكل أو الملبس أو غيره من العناصر الثقافية أقيم مأتم على هويتنا التي ضاعت وشخصيتنا الوطنية التي مسخت، واستدعى البعض بحزن وأسى صورة محمود المليجي (محمد أبو سويلم) في فيلم "الأرض" وهو يتشبث بالأرض ويرويها بدمه.
والمرضى بالحنين دائما متشبثون بالأرض لأن "الأرض عرض"، والخائن هو دائما "عواد الذي باع أرضه"....وهكذا. وفي إطار هذه الثقافة يذهب الناس إلى الغربة ويجمعون ثروة تمكنهم من الانتقال من مسقط رأسهم لمكان أرقى فإذا بأحدهم يعود إلى قريته التي ولد فيها بحنين أقرب إلى الأسطورة، وكأن كلا منهم يريد أن يشطب من ذاكرته "جريمة الغربة"!!!!
ومن الحقائق المثيرة التي تستوجب التأمل أن الارتباط المبالغ فيه بالأرض سمة من سمات الثقافة اليهودية حتى أن اليهودي الأرثوذكسي يعتقد بأنه لا يدخل الجنة ما لم يدفن في أرض إسرائيل!!
والارتباط بالأرض لا يخلو من آلام، وهناك أمثلة لهذا الإحساس الوهمي بالاقتلاع تجعل المرء يشعر بالإشفاق على ما صنعته بنا الأوهام البراقة، فعندما تنزل سيدة في العقد الخامس من العمر من شقتها وهي تبكي بحرقة وتتشبث بالجدران كما لو كانت تساق إلى المشنقة لمجرد أن عائلتها تنتقل إلى شقة سكنية أخرى في المدينة نفسها. وفي إطار هذه الفوضى العاطفية غير الخلاقة تسمع كثيرا تشبيه العلاقة بمكان – أي مكان – بعلاقة السمك بالماء، قد يكون هذا المكان الذي أصبح "المقوم الرئيس " للحياة – كالماء بالنسبة للسمك – قد يكون مدينة كئيبة لا روح فيها أو شقة لا تدخلها الشمس لكنها مفتوحة الأبواب والنوافذ للحنين المرضي، وقد يكون محلا تجاريا هو في النهاية وسيلة لكسب الرزق ولا يصلح أبدا أن يكون في نظر صاحبه "حتة من الجنة"، وقد يكون غرفة فوق سطوح منزل مسجون "في حارة من جوة حارة"......
والآن صرت أفهم أن تجد شابا طويلا عريضا يقف على شاربه الصقر يكاد يتلوى من الجزع وهو يضطر للانتقال بعد زواجه إلى شقة بعيدة عن الأسرة، وتجده يردد دون خجل: "أنا عايز أسكن جنب أمي"!
وأسوأ ما في هذا الوضع أننا تكيفنا معه وبالتالي لا ندرك نتائجه الخطيرة، فالمرضى بالحنين ميالون للثبات خائفون من التغيير والتقدم مرهون دائما بالتغيير السياسي والثقافي والتكنولوجي، أي أن مزاجنا العام هو عقبة في طريق مستقبلنا ونحن مستسلمون ومتشبثون بكل ما يشبع هذا الحنين.
التعليقات (0)