مواضيع اليوم

أنا حمار لأنني أحرّض المصريين!

 

المرةُ الأولىَ التي وَصَفْتُ فيها نفسي بأنني حِمارٌ كانت عندما صَدَّقْت الرئيسَ علي عبدَ اللّهِ صالح وهو يُقْسِم لشـَعْبِنا اليمني أنه لنْ يُجَدد لولايةٍ رئاسيّةٍ، فثمانيةٌ وعشرون عامًا مِنْ الحُكْمِ المـُطـْلَقِ كافيةٌ، وقد آن وَقْتُ تـَجديدِ دِماءِ السُلْطَةِ وشـَبابـِها!

 وَصَدَّقتُه رَغْمَ مَعْرفـَتي اليَقينيةِ بأنَّ أكثرَ زُعَمائِنا كاذبون، وأنَّ جَلْسَةَ تَخْزينٍ للقاتِ مع قَيّلولةٍ يغفو خلالها الجَسَدُ والعـَقْلُ قادرةٌ علىَ جَعْلِ صاحبها يكذب علىَ اللهِ ولو كان حافِظًا لكُلِ الكـُتبِ المـُقَدّسَةِ و .. الخضراء!

 مَخاضُ الكِتابةِ لا يختلفُ عَنْ الانتحارِ البِطيء، وقد تَكـْتُب لتـُحيي مَوّتىَ، وقد تموت لأنَّ الروحَ غادرتْ أحبابَك، لكنها تظل فيك ولا تعرف كُنَهَها أو مُسْتَقَرَّها أو مُسْتَوّدعَها!

 إذا نَشَرَ صَحَفيٌّ في النرويج تقريرًا أو مقالا عن هديةٍ مُتواضعةٍ تلقـّاها رئيسُ الوزراءِ، أو خاتم في إصبعِ وزيرةٍ أهدَتْها إياه ضَيّفَةٌ، أو دعوّة خاصة علىَ العَشَاِء تـَم تسديدُ ثمنِها من ميزانيةِ الدولةِ، فإنَّ الحكومةَ كـُلَّها تقف علىَ صفيح ساخن فَوّرَ خُروجِ الصحيفةِ من بيّن ترُوسِ المطبعة!

 في مصر مبارك تنشر صحيفةٌ خَبَرًا عن استيلاءِ ميلياردير حرامي علىَ عِدة آلاف من الأفدنة الخِصْبَة، أو شِراءِ أرضٍ قاحِلة بسعْرٍ أرخص من ترابها، ثم إعادة بيعِها بعد أقل من شهر بـمئةِ ضِعْفٍ أو يَزيد، أو تنشر احصائيةً مُفْزِعَةٍ عن مَرْضىَ سَرَطان المزروعات، أو عنْ دَفْنِ نفايات الحَديد تحت الأرضِ الزراعيةِ في مُحافظة البُحَيّرَة، أو تجاوز عمليات سرقة الأعضاءِ من أجسادِ المصريين نسبة الكارثةِ إلى الفاجعة، أو عن اغتصاب رجال أمام أبنائِهم في سجون ومعتقلات جحيمية، أو تأَخُر مصر في كل المجالات لتصبح النموذجَ الأوضح للتخلف، والديكتاتورية، والفساد، والرشوة، والتزييف!

 ومع ذلك فأبناءُ بلدي لا يكترثون، ولو قرأت علىَ مسامع أحدهم سبعين ألف مقال تصف جهنمَ في عهد الطاغية مبارك، فسيضرب كـَفّـًا بِكَفٍ، وسيقول حسبنا الله ونعم الوكيل، وسيبحث في بانجو مقدس من منبر مسجد أو كنيسة أو شاشة صغيرة عن مزيدٍ من التخدير، فالنومُ ينقذه من خطورةِ اليقظة التي قد يتصادف فيها عودةُ الوعيّ لساعةٍ أو بعضِ الساعةِ فيجد نفسَه مسؤولا عن جريمة الصمت !

 في كل مَرَّةٍ يُعاني قلمي آلامَ الولادةِ الكتابية أخْرُج من الغرفةِ كأن جبـَلا انزاح من فوق صدري، وأعيد قراءةَ المقال فيوهمني تفاؤلي بشعبنا أنني كتبتُ مقدمةً لزوبعةٍ تتحول إلىَ عاصفةٍ وتنتقل إلىَ الإعصارِ فتتسوّنـَم لتهزّ النظامَ العفنَ بفضل تأثُرّ الخائفين علىَ مصر ، وعاشقيها، ومستوعبي كلماتي.

 ويقترب قلمي المناهضُ للديكتاتور من رُبع قرنـِه على صفحات المجلة، وعشرة كتب، وآلاف المقالات، لكنني لم أحَرّك شعرةً واحدةً من مكانِها، فأحبابي .. أبناءُ شعبِنا أكثر تصَلُّبـًا في الأرض من أبي الهول، وخوفًا من كل فئران الدنيا، منفردة أو مجتمعة.

 أعودُ إلى كتاباتي لأبحث عن السبب في أنها لم تستنهض هِمَّةً، ولم تُوقظ نائمـًا، ولم تـُحيي مَيّتـًا، ولم تُقدم مُبررًا واحدًا للثورةِ علىَ الطغيان، فأقف حائرًا كعاشقٍ ألقىَ سبعين قصيدة غزل لحبيبته ثم اكتشف أنها كانت نائمةً طوال الوقت!

 أعَدْتُ قراءةَ: (مناقشة البيان النهائي للاطاحة بمبارك وأسرته)، (مقطع من يوميات الرئيس مبارك)، (الله يخرب بيتك يا ريس)، ( تعريفٌ جديد للكُفر- تأييدك للرئيس مبارك)، (مقطع من يوميات ضابط شرطة مصري)، ( مقطع من يوميات برلماني مصري)، (حوار بين عزرائيل والرئيس مبارك)، ( ولكن عزرائيل لا يزور ميونيخ)، (الرجل الذي أحلم به رئيسا لمصر)، (تأييدُك لجمال مبارك تجسس لحساب إسرائيل)، (ولكن جمال مبارك ليس مواطنا)، (سيدي جمال مبارك: الآن يمكنك أن تعتلي عرش مصر)، (أحفاد الرئيس لهم الجنة وأطفالنا ولاد ستين ألف كلب)، (طز فينا جميعًا)، (لماذا لا تقوم في مصر ثورة؟)، (ألم نقل لكم بأن مبارك شيطان يحكم مصر؟)، (لكن الله لا يقبل من المصريين صلواتهم)، (هل يحرقنا مبارك قبل أن نحرقه)، (حوار بين الرئيسين بشار الأسد وجمال مبارك)، (نهاية طاغية في عامه الثمانين)، (خطوات ضرورية قبل القبض على مبارك ومحاكمته)، (سيدي الرئيس.. استحلفك بالله أن تستقيل)، (حوار بين مواطن مصري وضابط شرطة)، (سيدي الرئيس.. استحلفك بالله أن تهرب)، (لماذا لا يُحاكَم مبارك بتهمة شائعة موت الشعب المصري)، (مات- يموت- سيموت الرئيس)، (أصل الحكاية ماتضحكش)، (لماذا لا يؤمن المصريون بأن مصر بلدهم؟)، (محاولات لتخريب الشخصية المصرية)، (لماذا أحلم بحبل المشنقة حول عنقك؟)، (يا ولاد ستين ألف كلب)، (هل المصريون سعداء بالذل أم تعساء بالخوف؟)، (البيان والتبيين في أوجاع مصر وأحزان المصريين)، (طز في الشرفاء والأحرار والوطنيين)، (لماذا لا يغضب المصريون؟)، (كلنا خائفون.. فكيف تتحرر مصر؟)، (السيناريو القادم في مصر- ماذا يخطط الرئيسان؟)، (سيدي الرئيس.. أرجو أن تبصق في وجوهنا!), (مبارك للمصريين: نعم أنا نذل وسنغتصبكم فردا.. فردًا)، (أيها المصريون.. هذا الرجل مجنون .. هذا الرجل نيرون)، (لماذا أكره الرئيس مبارك؟)، (تجديد الدعوة للعصيان المدني- دعوة للاطاحة بمبارك)، (جمال مبارك للمصريين: سوطي ينتظر ظهوركم العارية)، (كيف تقنع المصريين بأن لهم كرامة؟)، (انتحار الرئيس حسني مبارك)، (كلاب السيد الرئيس)،( البيان رقم واحد) ، ........

 وغيرها الكثير الذي لا يتسع المجالُ والمساحة والوقت لعرضِه، ولو أنني خاطبتُ صخرةً صَمّاءَ تمُدُّ جذورَها لأبعد منطقة عن مركز الزلازل لانشَقَّتْ، وتحركت، وربما انبجس منها ينبوعُ ماءٍ أو .. دموع!

 ومازلت في المربع صفر مثل كل القوى المعارضة لهتلرِنا، فشعبنا تكالب عليه رجالُ الدين والإعلام وأجهزة الأمن، فخَدَّرَه فقهاءُ السُلطة بأهمية طاعة السيد وسوطه وكلابه وأولاد كلابه، وكذب عليه الإعلاميون فكانوا شهودَ زور في الدنيا لحطب جهنم في الآخرة حتى لو وضعوا صورة كبيرهم أمام كل زعماء الدنيا فالفوتو شوب في خدمة ( الأهرام)، وحرست أجهزةُ الأمن الطاغيةَ ثم انفصلت عن حمايةِ شعبِها، واستعانت بمجرمين وبلطجية، ومن لمْ تُخـِفْهُ عصا علىَ جسدِه، تـُفْزِعه عصا في دُبـُرِه!

ثمانون مليونا من البشر يقتلهم الفقر والاحتيال والنصب والنهب والجوع وانتهاك الكرامة والبحث عن المأوىَ والعبث في القمامة وتأجير الأجساد لطلاب الطب أو بيع أعضاء لأثرياء العهد الأسود، ثم لا يغضب منهم أكثر من عدة مئات من الشباب لساعتين أو أقل!

 نعم، أنا حمار لأنني أحرّض القضاة والمحامين والأكاديميين ورجال الدين الاسلامي والمسيحي والمثقفين والإعلاميين والعلماء والمفكرين وأبناء أبطال العبور والشرفاء في أجهزة الأمن وأصحاب الضمير اليقظ في أجهزة المخابرات، ومع ذلك فاصطكاك الأسنان، وتخلخل الركب، ونبضات القلب الطبلية تقف بيني وبين فرسان بلدي، فالرجل يدهس الجميع بحذائه، وربما يستأذنه الجميع بوضع رقابهم تحت حذائه!

 نعم، أنا حمار لأنني بحثت طويلا عن ثغرة أنفذ منها لسرِّ الغضب، فأستَثِيره، وأهيّجه، وأقذف به في وجوه كلاب القصر، فظننتُ أنَّ غضبَ العاطلين عن العمل قادم، وأنَّ ثورةَ ربات البيوت في الطريق، وأن عوائل وأحباب المنسيين في سجون ومعتقلات مبارك سيستصرخون الآخرين لغضْبَةٍ عاصفة، وأن أبناء أبطال العبور ستدمع أعينهم وهم ينظرون إلىَ صور آبائهم على الحائط فيستمدون من أرواحهم الطاهرة شجاعةً تُطَهرهم، لكن سذاجتي فاقت طيبةَ كل البلهاء والحمقى، فشعبُنا لا تؤثر فيه كلمات السماء ولا قِيَم الخيّر ولا .. روح الله فيه!

 نعم، أنا حمار فشعبنا يغرق في المسلسلات، وسخافات الفضائيات، ومنتديات النتّ، وتعليقات متخلفة تحيد بأي موضوع جاد ليتحول إلى تهكُم، وسخرية، وشتائم، فضلا عن آلاف من رجال الأمن المدرَّبين على الشبكة العنكبوتية لتغيير مسارات كل الحوارات التي قد توقظ الموّتىَ و .. النائمين والمخدَّرين!

أما مقالي ( البيان النهائي للاطاحة بالطاغية مبارك وعائلته) فأقوم الآن بسحبه، والاعتذار عنه، فهو لم .. ولن يحرك شعرةً من موضعِها، وسيكون مصيرُ البيان أسوأ َمن دعوتي للعصيان المدني ( مايو 2005 ) والانتفاضة( يوليو 2006 ) والأخيرة كانت بالاشتراك مع مندرة كفاية.

 لو كنت بمفردي لما أدهشني ردُّ الفعل الصِفْري، لكن هناك مئات غيري من المثقفين والمفكرين والمعارضين والحزبيين والعاملين في مجالات شتّىَ يكتبون، وينشرون على النتّ، ويشاركون في فضح أنتن نظام حُكم في تاريخ وادي النيل ، وهي صحفٌ في متناول أيدي الجميع، ويمرّون عليها صُبْحـًا ومساءً، ويعرفون تفاصيلَ لو كانت هناك ذرة إيمان واحدة بقيم السماء، أو جُزَيء حُبٍّ يتيمٍ لأرض سقطنا من بطون أمهاتنا فيها، ثم تنازلنا عنها للصوص والأوغاد، لشهد كل شبر في مصر غضبا شعبيا يجعل كل أركان الحُكم القذر يتبولون في سراويلهم وهم يشاهدون هديرَ أمواجٍ من البشر يستعيدون مِصرَهم، وخيراتهم، وطعامَ أولادِهم،

 لم يعد لديَّ أدنىَ شكٍ في أنَّ المصريين كلَّهم، إلا قلة نادرة، يشاركون في اغتيال وطنِهم، ودعمِ طاغيتِهم، وتعريةِ مؤخراتِهم، وتسليم فلذات أكبادِهم لمغتصبي السلطة والإنسان المصري.

 لقد تخطينا مرحلةَ وصفِ المشهد المصري، فلا يصف الجحيمَ من يحترق فيه، ونحن الآن في مرحلة استعذاب الضحية للسلخانة، واتفاق الجميع، تقريبا، على أن مصر ليست بلدَنا، وأننا، مسلمين ومسيحيين، سنصوّت للطاغية حتى لو كان الخيار الوحيد الآخر في صناديق الاقتراع هو الله جل جلاله.

 نعم، أنا حمار لأنني أحرّض أبناءَ بلدي على التحرير، لكنهم مُنشغلون بحفنة أفرادٍ انتقل بعضُهم من دين إلى آخر ،ونحن نخدع أنفسَنا فكلُّنا انتقلنا من دين آبائِنا إلى دين قصر عابدين.

 نعم، أنا حمارٌ لأنني ظننت أن أهل بلدي يحبون مصرَ، ثم اكتشفت مُتَأخرا أنهم مُسَمَّمون مُسْبَقـًا بالطائفية، والفوقية الدينية، والاستعلاء المذهبي، وأن رقابهم مقيدة بسلسلة يمسك طرفـَها الطاغيةُ ورجال الدين.

 من لا يرى الفتنةَ الطائفية تستعد لحرق الأخضر واليابس، وأن الثمن الذي سندفعه جميعا أفدح من الذي دفعه اللبنانيون، والعراقيون، والروانديون، وأشلاء يوغوسلافيا التي مزقتها الكراهية، فهو أعمى البصر والبصيرة.

 إن اللّهَ، عز ّوجل، ليس منحازا لأحدٍ في مصر، وعندما تشتعل الكنيسة والمسجدُ، فالملائكةُ لن تختار المكان الذي ستطفئه أولا لأنها ستكون قد هربت من مصر قبلها بوقت طويل.

 نعم، أنا حمارٌ لأنني كلما انتهيت من مقالٍ ظهر بصيصُ أملٍ في أهلي، وأحبابي، وأبناء بلدي، ثم استمعت إلىَ ضحكاتِ الشياطين تصُمّ الأذنين وتختلط فيها أصوات مبارك، وابنه، وأبناء أبطال العبور، ورجال جمال مبارك، وأصحاب القلم في بلاط السلطة الأخيرة، ووزير الداخلية، ورئيس مجلس الشعب، ورئيس مجلس الشورى، وأحفاد رأفت الهجان، ووزير الإعلام، وأحمد عز، وأعضاء لجنة السياسات بالحزب الحاكم، وكبار ضباط الدولة، وممثلي العدالة في المحاكم، وصفوة المجتمع من علماء ومفكرين، و ....

  ثم أسْمَعهم جميعًا بوضوحٍ شديدٍ، يَصْرُخون في نـَفَسٍ واحِدٍ: نعم، أنت حمارٌ لأننا ننتظر بصبرٍ نافدٍ جمال مبارك ليركَب فوقنا، ويُلهِب بسَوّطِه ظهورَنا و .. يغتصبنا!

 

محمد عبد المجيد

 رئيس تحرير مجلة طائر الشمال

 أوسلو في 24 سبتمبر 2010

 Taeralshmal@gmail.com

 





التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات