يعتز المصريون بوصفهم لمصر بأم الدنيا. ويعتز كل المخلصين من عرب وغيرهم ممن يقطنون المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج بأم الدنيا هذه. اعتزوا بذلك طويلا. فالحضارة المصرية القديمة موضع إعجاب العالم كله والى اليوم. والثقافة المصرية حتى لا نذهب بعيدا في التاريخ ازدهرت قبل الثورة المصرية عام 1952 , وازدهرت في أوائلها. كان الفن مصريا. والمسرح مصريا.والسينما مصرية. والغناء مصريا, والشعر مصريا. والأدب بأنواعه مصريا. من لم يقرأ ويتحدث ويعجب بكتابات قاسم أمين والعقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ . ومن لم يحفظ قصائد لشوقي وحافظ إبراهيم وغيرهم وغيرهم... الم يؤثر هذا بما حوله في المنطقة العربية بأجيال وأجيال؟ الم يكن من يريد أن يُعرف أو ينتشر أدبا وشعرا وغناء وتمثيلا يذهب إلى أم الدنيا؟. ألم تسد اللهجة المصرية وتصبح مفهومة من المحيط إلى الخليج؟. ألم يصل صوت أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش.. لكل بيت في المنطقة العربية ولكل ناطق بالعربية خارجها؟. الم تجلب النوادر والنكات المصرية البهجة إلى كل القلوب؟ الم تكن مصر حاضرة في فكر وضمير كل عربي وناطق بالعربية أينما كان وطنه ومحل إقامته؟ . الم تكن الحضارة مصرية ومصر حضارية؟.
نُكبت أم الدنيا بسياسيها. منذ ثورة الضباط الأحرار لم تعرف ديمقراطية حقيقية , لا نتحدث عن فترة ما قبل الثورة وبعض مظاهر الديمقراطية التي أفسدتها ممارسات الأحزاب وارتباط غالبيتها بالمحتل الانكليزي, وعنجهية الانكليز وسيطرتهم المباشرة على الدولة بملكها وكامل السلطة التنفيذية, لأننا لا نؤرخ هنا لمصر, فهذا فعله الصادقون من أبنائها. نُكبت بدكتاتوريات, شفعت وطنيتها في عهد عبد الناصر لكثير من التجاوزات والأخطاء ـ إن كانت هذه قابلة للشفاعة لها ـ ولكنها بعده ومع ترسخها عبر الزمن أخذت تزداد استبدا وفسادا, حتى أصبحت الاستبداد المطلق والفساد الشامل, والخيانة الوطنية والقومية. خيانة المسؤوليات وخيانة الالتزام بحماية المواطن وخدمته.سياسيو مصر منذ السادات والى سقوط مبارك لم يخرجوا مصر من تاريخيها فقط وإنما جعلوا منها مصرا أخرى. باقية بجغرافيتها على اتساعها ولكنها مهمشة سياسيا تُملى عليها الإرادات الغربية , الأمريكية بشكل خاص, لما فيه مصالح إسرائيل وأمنها. لم تعد رائدة في شيء في تلك الحقبة من عمرها. مشيخات وإمارات لا يتجاوز سكانها سكان مدينة مصرية من الحجم المتوسط تلعب دورا أكثر أهمية من دورها على الساحة العربية والدولية, تتملقها السلطات المصرية لكسب ودها وتوسلا لمساعداتها المالية, وتسترضي على حساب الشعب المصري مستثمريها. تقبل, خلافا لاعتبارات الكرامة, ما يُقدّم لها من "بخشيش" أو تستجديه بنفسها, ثمن موقف أو تنازل عن موقف. لقد هدر ساسة مصر عقودا كرامة مصر. أصبحت السبعة آلاف سنة في عمرها وكأنها ليست ارث حضاري عريق متواصل, وتراكم وغنى في التجربة, وفي تكوين الإنسان المصري العريق بأصوله الضاربة عميقا في التاريخ, وإنما بدت وكأنها الشيخوخة بأمراضها وعجزها حين ربط حكامها عجزهم وفسادهم باسم مصر وبأنهم هم مصر وهم ممثليها ووجهها الحقيقي وهم تاريخها الذي بدأ بهم ومعهم. مما شجع من لا تاريخ ولا عراقة حضارية لهم على التطاول عليها وإعطائها دروسا في الحضارة والتمدن والسلوك والتصرف. فتح ساسة مصر أبوابها لزعماء إسرائيل ومخابرات إسرائيل وسياحها. وفيها كان التآمر على الفلسطينيين والقضية الفلسطينية والقضايا العربية. زودوا إسرائيل بالغاز وبابخس الأثمان. وفتحوا لها الأسواق المصرية رغم المقاطعة الشعبية. وعملوا على ترويج ثقافتها, ففتحوا في معارض الكتاب العربي جناحا للكتاب الإسرائيلي .. فارضين تطبيعا سياسيا واقتصاديا وثقافيا.خروج أم الدنيا عن دورها فتح المجال واسعا أمام أنظمة عربية مشابهة للنظام المصري لتتمكن وتترسخ وتستقر ناسجة على منواله فسادا و استبدادا وخنوعا وغطرسة واحتقارا وإذلالا للمواطنين. فقدان المواطن المصري لحريته وكرامته وحقوقه كانسان افقد المواطن في كل المنطقة العربية الحرية والكرامة وكامل حقوقه.لم يستطع سياسيو مصر قراءة عمق الواقع المصري وما هو كامن في المجتمع, فقد أعماهم عن ذلك ما اعتقدوا انه استتباب نهائي للأمور لصالحهم لا يمكن أن يعكر صفوه أي شيء, بعد أن أُخرج الشعب كاملا من السياسة, وخلت الساحة للمستبدين والفاسدين,وبلغ بهم الاستهتار في أيامهم السلطوية الأخيرة درجة الاحتقار غير الموارب فيه. فزورا, إرادة الشعب وتجاوزوا عليها بتعيينهم نوابا في مجلس الشعب والشورى بـ "العافية" والتزوير العلني والتحدي المكابر العنيد (الم يفاخر رأس النظام بان لديه دكتوراه في العند). وبلغ الاستهتار بالتحضير الجدي لتوريث الحكم لابن الرئيس بعد أن توافي المنية هذا الأخير أو بعد أن يسأم الحكم مرددا قول زهير بن سلمى:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسأم. لوضع مصر في سياق تاريخها كان لابد من ثورة حقيقية نابعة من عمق مصر, لا تقوم على انقلابات
عسكرية أو تحالفات أحزاب سياسية أثبتت إفلاسها لأساليب "نضالها" الانتهازية والسعي لمصالحها
الخاصة وبعدها عن المعاناة الحقيقية للغالبية العظمى من الشعب. أحزاب أصبحت جزءا من نظام الفساد
لا يمكنها قيادة تغيير جذري وطرح برامج في هذا التوجه. أحزاب يقوم بعضها على التكفير وإخافة
الآخرين في الداخل والخارج بأساليبها الإرهابية والادعاء بامتلاك الحقيقة, وطرحها حلولا غيبية
لمشاكل يومية تمس الأوضاع المعيشية للإنسان مثلما تمس كرامته وحريته ومستقبل أبنائه. بعيدة كل
البعد عن عصرنا وروحه. وأخرى المخضرم منها أو المستحدثة, هي من طبيعة النظام الحاكم تنظيما
وعقلية وممارسة, تقوم على الدكتاتورية الداخلية وعبادة الزعيم "الأمين العام" للحزب ما دام الحزب
قائما, مؤسسة في نهجها لثقافة التبعية والخنوع وعبادة الشخصية, وفي غالبيتها شخصيات هرمة
مخضرمة لا اتصال حقيقي لها بالواقع المعاصر ومعطياته ومتطلباته. ولا مقدرة ذهنية لديها لاستيعابه
أو التعامل معه.لوضع مصر في سياق تاريخها كان لابد من ثورة شبابية حقيقية, مدركة أن الإصلاحات المستجداة من الحكام الغارقين في الفساد, المتمرسين بفنون الخداع والالتفاف على كل إصلاح, القادرين على توظيفه لخدمة مصالحهم, لا يمكنها ,أن حصلت, أن تغير شيئا يذكر. ولا يمكنها أن تكون قاعدة لبناء دولة تستحقها مصر. كان لا بد من ثورة تبني الدولة على الشرعية الشعبية الثورية, بدستور جديد ومؤسسات جديدة, ومبادئ وقيم جديدة. ورجال جدد. ثورة مثل هذه لم يشر إليها علم السياسة التقليدي أو يتوقف عندها, أو يتنبأ بها, لأنها غير مسبوقة. ولم
يتوقعها سياسيو الغرب حين فرضوا على شعوبنا دكتاتوريات وساندوها, وتحدثوا, عهرا, في الوقت
نفسه عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطن. ونظروا للشباب العربي نظرة لا تختلف عن نظرتهم
لحكامهم ولسان حالهم يردد ما يردده القدريون العرب "كما تكونوا يولى عليكم". لم يتوقعوا أن يفجر
شباب ولد وترعرع في عهود الاستبداد والفساد ثورة تضع هدفا أساسيا لها هو اقتلاع الاستبداد
والفساد وتدفع ببطولة من أجل ذلك ثمنا غاليا شهداء وجرحى.ثورة شباب مصر التي أعقبت ثورة شباب تونس وعمقتها كما وكيفا, والتي سيتبعها حتما ا ن عاجلا أو
أجلا ثورات تجتاح العالم العربي بأسره, أصبحت بداية تاريخ جديد, ونظام عربي جديد قائم على أنقاض
النظام العربي القديم الساقط والآيل للسقوط في كليته.لقد أعاد شباب مصر أم الدنيا إلى الدنيا, أُمّا للمصريين وللعرب.
د.هايل نصر.
التعليقات (0)