أمّاهْ
بقلم: حسين أحمد سليم
لأجلكِ أصلّي, با أعظم كتاب قرأته في حياتي, ويا أنعم حضنٍ ترعرعت فيه, ويا أجمل وردة تنشّقت عبيرها من ثغركِ... لأجلكِ أضرع لله, وأستغيث وأتهجّد, يا سبب وجودي في هذه الحياة, ويا رفيقة دربي في الأيّام العجاف, ويا مشكى همومي في الشّدائد... ويا أملي المرتجى في البعد, ويا رجائي الذي أتوسّمه في ضيقي, ويا نعمة عزائي عندما يتعاظم بوجهي الشّقاء, ويا أطيب لذّة تذوّقتها في حياتي... ويا راحة نفسي واطمئنانها, ويا أمينة أسراري التي ضاق بها صدري, ويا حافظة وعدي وعهدي وبيعتي وقسمي... ويا مهدهدة أحلامي في نومي وسهادي, ويا هادية روحي ونفسي وقلبي للرشد, ويا باسمة وضاحكة ومسرورة ومبتهجة في وجهي... فما أحلاكِ يا أمّي, يا أجمل وأطهر وأقدس كلمة, نطقت وتنطق وستنطق بها البشريّة, ويا أجمل مناداة يلهج بها لسان في الوجود, لم ولن ولا أنسى أنّ الجنّة, شاءها خاتم الأنبياء تحت أقدام الأمّهات, ولم ولن ولا أنسى وصيته بالأمّ ثمّ الأمّ ثمّ الأمّ ثمّ الأب... ولم ولن ولا أنسى وصيّة الله للإنسان, بالوالدين إحسانا, والقول الكريم لهما, واخفض جناح الذّلّ لهما من الرّحمة, وخاصّة الأمّ التي حملت جنينها وهنا على وهن, وحملته كرها ووضعته كرها... اللهمّ ارحم أبواي كما ربّياني صغيرا, وبارك أمّي برحمتك الخاصّة...
أمّاهْ...
أتذكّركِ دائما وأبدا ما حييت, أتذكّركِ في ومضات الصّحوة, أتذكّركِ فِي ارتعاشات اليقظة, وأتذكّركِ فِي رؤى الغفوة, وفي أحلام الثّبات... لم ولن ولا تبرحين وجداني, لم ولن ولا تغيبين عن خاطري, منذ شاء الله أن تنتقلي إلى رحمة جواره... لتنعمين اطمئنانا وهدأة وسكينة في جنان الخلد برضى الحقّ...
أتذكّركِ أمّاهُ في كلّ ومضة, وفي كلّ لفتة, وأناجي روحكِ الأثيريّة, وأمتزج بها وأتوحّد, ليلا ونهارا في امتدادات البعد... روحكِ التي أستشعرها تحلّق فوق رأسي, أينما ذهبت, وأينما يمّمت وجهي, وأينما كنت, وأينما حططت سكينة هدأتي, وأينما أرسيت ضجعة هجعتي...
كلّ مساء زمنيّ, تتراءى لي هالة طيفكِ, تحلّق في فضاءات غرفتي, تحوطني بقبس من أنوار حنانكِ, تتغلغل بين أنسام شعري, وتمسّد لي جدائلي, وتدغدغني طويلا, كأنّها الأنسام الشّفيفة, الحانية التّموّجات... بصوتكِ الرّقيق اللطيف, تدندنين وتحْدينَ لي أرقّ الكلمات, وأجمل التّرانيم التي تتموسقين بها, فأنام مطمئنّا بين سيّالات طيفك, وأنا أحلم بكِ أجمل وأعذب الأحلام...
كلّ صباح قدريّ, أستيقظ منتعشا على همس صوت طيفكِ الأثيريّ, القادم من البعد الآخر إلى جلاء سمعي, مرندحا من لامتناهيات البعد, خلف إمتدادات المدى... وأكحّل عيناي النّاعستين, بخيوط من هالة طيفكِ الصّباحيّة... وانشطارت هالة طيفكِ, تهدهدني وتعانقني وتضمني, وأنا ما زلت مستلقيا, مستدفئا في فراشي, فأحسّ بأنّ يومي قد بدأ بالأمل المرتجى, وتضمّخ بنبل الحبّ والعشق...
كلّ يوم مباركٍ, يطلّ مولودا من قلب الزّمن, مشرقا بالأمل المرتجى, يتماهى في دورة الحياة, أستشعره عيدا خاصّا ومباركا لكِ أمّاهُ... فيراودني وجداني, الذي لا يغفو عن ذكركِ, لأبحر في الخيال بعيدا, وأرتحل في التّفكّر عميقا, علّني أظفر فرحا وحبورا, ببعض الكلمات الحانيات, المضمّخات بالحبّ والعشق, النّابضات بالوفاء والإخلاص, المنتعشة بالصّفاء والنّقاء, والتي أودّ أن أرفعها خالصة لكِ, هديّة لمقامكِ الرّفيعِ, عربون تقدير وإجلال وإحترام...
أتقدّم إليكِ مهنّئا, مباركا لكِ مع كلّ صباح, أزور ضريحكِ مع كلّ مساء, بمناسبة وبدون مناسبة... أستلهم من تراب لحدكِ حكمة الحياة, وأستوحي من ذرّات رغام قبركِ, أنّي لاحق بكِ يوما... فكلّ يوم في قناعتي, هو عيد لكِ, وكلّ عيد, هو عيدكِ يا أطهر الأمّهات...
غالبا ما تراودني الأفكار الغريبة, وتجتاحني الرّؤى العجيبة, فتمسكني وتكبّلني في وحدتي, و تقيّدني في غربة حياتي الممتدّة, القاسية في هذه الدّنيا... فتزدحم الصّور في خيالي, وتتكاثف الأفكار في خواطري, وتتدفّق المشهديّات في تفكّري... فيحرّضني القلم على جرأة البوح, ويحملني قهرا على قهر على ركوب صهوة التّدوين للذّكرى, فأكتب إليكِ أحاسيسي ومشاعري, التي تنتابني بين الحين والحين...
أمارس الجرأة ببعضَ بوحي, أنمنم الحروف والكلمات في سطور من قصار الجمل, في عفويّة معدودة... تشبه كثيرا سذاجة طفل بريئ, يلعب في حبيبات الرّمال عند شاطيء الذّكرى, أعبّر فيما أبوح, عمّا يختلج في دواخلي من شوق وحنين لكِ, بعيدا عن الكلمات المزخرفة والمنمّقة, فالكتابة لكِ أمّاه... أصدق وأطهر وأوفى ما يكون من إبن لأمّه... وكلماتي لكِ, هي حديث إنسان صادق مع نفسه, واعد وعاهد في رؤى تجلّياته...
أمّاهْ...
دائما وأبدا, منذ وعيت وحدتي في غربتي, بعد رحيلكِ القدريّ عنّي, أستشعر هالة طيفِ روحكِ النّورانيّة, تشعّ في قلبي إستنارة, وتضيء صدري استبصارا, وتبعد الظّلمة الدّجوجيّة عن تفكّري, وتهديني الطريق الأقوم في حياتي... وكلّما إتّقد النّور القادم من هالة طيفكِ, وتنامى في دواخلي, واستدام في بواطني لهيبا آخر... أشعر في كنهي, بأنّني بحاجة إلى حضنكِ الدّافيء, لأشعر بالهدأة والسّكينة, ولأحتمي تحت جناحيكِ الوارفين, وأختبيء في دفء صدركِ, كي أشعر بالأمان والإطمئنان...
أولد من جديد, طفلا بريئا بجسد رجل, أنهكته أعباء الحياة... فأنعتق تفكّرا من كلّ شيء, وأنتزع عن وجهي, كلّ الأقنعة الموروثة, وأخلع عن جسدي, كلّ الأردية المادّيّة... وأرتدي ثوب الطّهارةِ والبراءةِ, نفسا وروحا وفكرا, وأرتمي على صدركِ, أتحسّس حنانكِ وعطفكِ وأمومتكِ...
فجر كلّ يوم جديد, ينعم به الله على الخليقة, مودّة ورحمة, ومع إطلالة نجمة الصّبح في الأفق الشّرقيّ لبلادي, ومع اشراقة كلّ شمس, تتكوكب من خلف قمم الجبال, ومع غروب الغزالة بعد ارتحالها اليومي, ومع تشكيل كلّ شفق صباحي وغروبيّ, ومع سطوع كلّ قمر في أطواره... أهدي إليكِ أمّاه, محبّتي الصّادقة, وعزف قلبي الطّيّب الطّاهر, وعدا صادقا لكِ وعهدا واعدا لك...
كنت وأبقى وسأبقى, كما شئتِ لي, نقي الطّوايا, صافي النّوايا, أضوع بطهر الطّيبِ... وسأكون زهرة جميلة شذيّة, تفوح بعطرها عند أركان قبركِ, ضارعا لله تعالى, ألاّ تبخلي عليّ, ببركة رضاكِ... حيث أستمدّ القوّة والعزم منكِ, والمثابرة والإستمرار في حياتي... أنتِ من زرع في روحي الإيمان, منذ طفولتي الأولى, وأنتِ من أرضعتني القناعة والعنفوان, وأسقيتني الشّهامة وعزّة النّفس...
يا من حملتني كرها على كره في أحشاءكِ, ويا من عانيتِ بي الآلام والأوجاع, ولا من يشعر بكِ, ويا من تمخّضتِ بي ووضعتني بين الحياة والموت... يا من أرضعتني حبّ الحياة, ويا من علّمتني الإباء والكبرياء والرّفعة... وعدا لك وعهدا, ستبقى هامتي شامخة للعلا, وسيبقى رأسي عاليا, ولم ولن ولا ينحني لغير الله تعالى, مهما تكالبت عليّ ظروف الحياة, ومهما توالت عليّ الهموم والمصاعب, ومهما عصفت بي هوج الرّياح, وحرمتني نعيم الحياة, وزجّت بي في أتون العذابات والآلام...
كلّما ضاقت بي ظروف الحياة, أدخل مخدعي باكيا, وأنظر إلى وجهكِ, الطّافحِ بالبشر, المشرق في صورتكِ, التي يتماهى بها جدار غرفتي... وأغيب عن ذاتي في ارتحال نفسي بعيد, خلف قيود المكان والزّمان... فتسري في كينونتي الضعيفة, قشعريرة الحنان من هالة طيف وجهكِ, وأنتعش مجدّدا بالحياة...
شاءت حكمة الله, التي أجهلها, أن ترحلي بعيدا عنّي, وتتركيني وحيدا أمّاهُ, أعاني الآلام والعذابات في عصر القهر, وزمن الوحشة, وحياة الغربة, ولا من يشعر بي, لا من قريب أو من بعيد... تركتينني أمّاهُ, أحارب كلّ الأشياء, التي أحاطت بي, إحاطة السّوار بالمعصم, تريد نهش بقاياي... فآثرت على نفسي, ألاّ أغرق في بحار السّرابات, وألاّ أستسلم طائعا, لتتقازفني الأمواج العاتية, ذات اليمين وذات اليسار, ضياعا في المتاهات, التي لا نهايات لها...
عزمت الأمر بعد تفكّر وتعقّل, ألاّ تستهويني المظاهر المزيّفة, التي يتباهى بها النّاس, ويتبجّحون بها, وينتحلون شتّى الصّفات, وألاّ أذوب في زيف العصرنة, و ألاّ أكره على أجوائها الغريبة العجيبة... فلقد تعلّمت منكِ, كيف أمارس الحياة, بحرّيّة وجرأة وقوّة, وكيف أجتاز كلّ الصّعاب, ولا أخاف كلّ الأشياء, مهما صغرت أو كبرت أو تعاظمت...
تعلّمتُ منكِ سيّدتي, ما لمْ ولن ولا أتعلّمه من غيركِ من النّساء, وتعلّمت منكِ ما لم تلقّنني إيّاه المدارس العصريّة, ونهلت من وعيكِ ما لم أنهله من وعي آخر, وغرفت من ثقافتكِ ما لم أغرف من ثقافة أخرى... وتعلّمت منكِ, الكثير الكثير, وحفظت عنكِ الكثير الكثير, وتدرّبت على راحة يديكِ, وتدرّجت في مراحل مدرستكِ...
تعلّمت أن أحاسب نفسي مع قدوم كلّ مساء, وأحقّق معها مع إطلالة كلّ صباح, وألاّ أجعل للشّرور الصّغيرةِ, أن تبقى مختبئة في زوايا نفسي, وأن أحرّض مكامني على فعل الخير للجميع...
كلّما ألقيت برأسي على وسادتي, يتراءى لي طيفكِ النّورانيّ, فتتطهّر نفسي من شرورها, وتنعتق من قيودها, وتتخلّص من سلاسلها... فأشعر بالهدأة والطّمأنينة والسّكينة, ويرتاح وجداني, ويطمئن ضميري, وأنتعش بروحيّة الإيمان, بتنام مستدامٍ...
كلّ يوم يبدأ ببركة الله تعالى, لله تعالى أتطهّر, نفسا وروحا وقلبا وفكرا ووجدانا وخاطرا... وأرتدي ثياب طهارتي, وأنعش كينونتي, بقداسة الحبّ والعشق... أرود غرفتي الصّغيرة, بعيدا عن أعين النّاس, ومن تراودهم نفوسهم على الفضول... أقف خاشعا بين يديّ الله, وأستقبل قبلة الإيمان والقناعة, تستقبلني جميع الخوافق متّجهة إلى نور الله في كلّ مكان...
أقيم صلاتي, قناعة تفكّر, وأركع إجلالا وعظمة لخالق الأكوان, وأسجد تعظيما وعرفانا لوحدة الله... وأرفع يداي عاليا إلى السّماء, أدعو الله لكِ في سرّي وعلانيّتي, يرحمكِ بواسع رحماته... وأتهجّد له في قيامي وقعودي, وفي نومي ويقظتي, وفي هجعتي وضجعتي, وفي تفكّري وخيالاتي, أن يجعل مسكنكِ الأخير بهيجا, ويمنّ عليكِ مثواكِ الأفضل, راحة وطمأنينة في جنان الخلد...
أمّاهْ...
للأمومة معناها الأرقى, كلمة لها قدسيتها, ولها طهارتها, إحساس نبيل مخبّأ طيّ حقائب الصّروح المجيدة والمباركة... تمتزج معاني الأمومة بروحانيّة الوجدان, تعانق أطيافها بشائر الرّؤى التي تشكّل الأمل المرتجى... بيارق الأمومة ترتفع أعلاما خفّاقة فوق القنن تتماهى على سواري العنفوان, تتجلّى في محاريب العطاءات... هذه هي الأمومة التي أتلمّسها في كينونتي, وهي ما رضعته مع الحليب من ثدييكِ يا أمّي...
وأنا في الحقول اليانعة بالورود والرّياحين والأزهار, أذكرك سيّدتي, وأنا أراقب تنقّل الفراشات البيضاء الهائمة بالحبّ والعشق, تحوم مع دفء سيّالات الشّمس على موسقة ألحان الأنسام ودندنتها في أذن المدى, والفراشات المزركشة الألوان, كأنّها لوحات منمنمة بريشة فنّان حاذق, أواكبها تبحث عن الرّحيق في ميسم كلّ زهرة تناجي شروق الشّمس وغروبها...
الأمومة الّتي تتجلّى لي في بهاء ونقاء وصفاء, كلّما إستذكرتكِ, وتراءى لي طيفك النّورانيّ, وأنا أتفكّر بكِ أمّاه... أرى طيف أمومتكِ الحاني السّيّالات, يُخيّم على ظلال أريج الرّحاب الإيماني المتّقد في نفسي وفي ومض روحي, حيث أستقبل من نور وجهكِ الإيمانيّ, الهدي والرّشاد في مدى وفضاءات أجوائي الحياتيّة...
الأمومة ربيع دائم الإفترار, يمتد على مدار السّنة, وحنان الأمومة أوراق ذهبيّة ربيعيّة نضرة ودائمة الإخضرار, أبدا لا تذبل ولا تصفرّ ولا تهتريء على مذابح فصل الخريف, ولا تقرب لها عواصف الرّياح الجنونيّة... وتبقى الأمومة كما الشّجرة المخضلّة الوارفة, مترامية الظّلال, يركن إليها الأطيار, ليهنؤون في قلب حنانها...
أبجديّة الأمومة, منظومة هجائيّة أخرى, تكتنز بأسرار الله, الّذي منح الأمّ ما لم يمنح سواها, من قداسة وطهارة... أبجديّة الأمومة أبدا لا تشبه أبجديّات التّواصل الأخرى, ولها أحرفها اللامكتوبة, والّتي لم ولن ولا تتّقن العمل بها إلاّ كلّ من طهّرها الله بالأمومة... وأنتِ أمّاه من أولئك الأمّهات اللواتي تطهّرن بالقداسة الآلهيّة, وأنجبتني بالحبّ والعشق إلى هذه الحياة...
جميع اللّغات تتماهى بكِ, وكلّ السّمات تترقّى بكِ, ولك أجمل الصّفات... فأنت سِرّ البشارات في استمراريّة الحياة, وأنت رمز المزامير في أذن الموسقات, وأنت ديمومة الآيات في مسارات الأمل المرتجى... وأنت كلمة الله التي تراحم بها رحمك, المشتقّ من الرّحمة, والرّحمة من الرّحيم, إسم حسن من أسماء الله الحسنى, وله الأسماء الحسنى, سبحانه تبارك الله...
أمّاهْ...
ريشتي الصّوفيّة الّتي أرسم بها طيفك, بأشكال وألوان ومشهديّات تتراءى لخيالاتي... أبذل قصارى جهدي كي تأتي مطابقة لمعاني الأمومة الّتي أكرمك بها الله, والّتي أتمنّاها تنعش كينونتي برضى الله... حروفي وكلماتي لكِ أعزفها على أوتار موسيقى روحي, روحي المنتشية بالأنغام العطشى لكِ, تحلم بالآمال المعقودة الّتي سيحملها لي الغد الآتي على صهوات الأحلام العِذاب...
طيفك الأثيريّ الّذي لم ولن ولا يفارقني لهنيهة في استمراريتي, تهتزّ له رعشاتي وتنتابني قشعريرة أخرى, كلّما ومض في وجداني طيفك الشّفيف... ودائما طيفك ينعشني برنين سيمفونيّاته المعطّرة, ويغرقني في رؤى البعد المأمول بنعيم دائم في رياض الله...
أستذكرك يا أمّي الرّاحلة الهائمة في رحاب الله, كيف كنتِ تمضين حالات أفراحك وأتراحك في كنف مسيرة حياتكِ... تقطعين الأوقات وأنتِ غارقة في كنف الخشوع الإيمانيّ لله, تختصرين كلّ الطّرق بطريق واحد, علاقتك بالله وهو أقصر الطّرق إلى رضى الله... تزرعين صلواتك وتهجّداتك حبّات حبّ وعشق في تراب العمل الصّالح, لتنبت سنابل مودّة ورحمة تزدان بقطرات ندى الإيمان...
كُلّما إرتفع من مآذن المساجد صوت الآذان يدعو النّاس للصّلوات في أوقاتها, أتذكّرك كيف كنتِ تتهيّئين لأداء الصّلوات متوشّحة بألبستكِ البيضاء وتقفين خاشعة بين يديّ الله... وكُلّما دقّت أجراس الكنائس ونواقيسها لأداء مراسم القداديس في رحابها, أتذكّرك كيف كنتِ تتشهّدين باسم الله, وتتمتمين بالسّلام على ابن مريم عليه السّلام... منكِ تعلّمت أسرار الإيمان ومراسيم الخشوع في الصّلوات...
عندما أستيقظ باكرا مع شقشقات الضّوء الفجريّ, حيث يتماهى الصّباح بالأنسام اللّطيفة... أخرج من غرفتي نحو أواني الورود, الموزّعة في جنبات الشّرفات في بيتنا الواسع, أروي تربتها وأرشّها بالماء, وأدغدغ وريقاتها لتتشذّى بالحبّ والعشق, وكي يضوع عبير طيبها في أنحاء غرف البيت, إقتداءً بما كنتِ تمارسين وأنت بيننا, قبل أن يتغمّدك الله بواسع رحمته, ويسكنك رحابه الطّاهرة بالرّحمة والغفران...
تفتقدك الورود أمّاه في رحاب دارتنا, ودائما تفاجئني عنكِ بالسّؤال, كلّما حملني الفضول إليها, حيث هي تنعم بالهدأة والسّكينة في جنبات البيت وشرفاته... تقطر من عينيّ الدّموع حزينة على فراقك منسابة فوق وجنتيّ, وتشاركني الورود ,الّتي عايشتكِ, في الحزن, وكأنّ قطرات النّدى على أكمامها, دموع الحزن على مرارة الفراق, وتعبيرا عن لوعتها لبعدك القاصي عنها...
أمّاهْ...
مواهبي الّتي أنعم الله بها على كينونتي, ما هي إلاّ من إيحاءات أمومتك لي وحنانك لي, وما هي إلاّ ما رشح من نبل رعايتك لي وحضانتك لي... وهي يا أمّاه النّبراس الإيحائيّ, الصّامد في قلاع كينونتي من إيحاءات طيفك المبارك, المتناهي لي في البعد... أمدّ لك يداي وأناملي مفترّة بالدّفء, كأغصان الأشجار في الحدائق الغنّاء, وأنا بينها أرفل تحت نظرك الحاني, بثوب العفاف ووشم العنفوان...
ما زلت أذكر رغم قهر الأيّام والسّنون لي, ويتراءى لي وجهك الممتليء بالحبّ والعشق, الطّافح بالبشر, المشرق بالأنوار, وكأنّك لست إلاّ في غيبوبة النّوم, وما زال جثمانك المسجّى يخاطرني في رواق البيت قبل أن يوارى في غياهب التّراب وظلمة القبر... ما أنت إلا القربان الأعظم لجنائن الأنهار المتدفّقة في مدينة الشّمس, وبقايا عظامك ما هي إلاّ نديم الصّفاء, ساكنة في القبر, تخاطرني مع كلّ مساء وصباح بأناشيد الماضي والحاضر والمستقبل...
خلف أسوار أسرار الموت, حكمة الخالق في فناء كل شيء, تتجلّى الدّروس والعبر في مسارات الحياة... كأنّي خلف تلك الأسوار أستنير بطهارة الأمومة وقدسيتها, ترتسم أمامي بصري في الأفق البعيد, وكأنّها لوحات زيتيّة عابقة بقصائد الحبّ والعشق... تلتقي في دفائن آيات براءاتها, أسرار الآمال المرتجاة, تراودني كيفما ارتحل وجداني, وترتمي نفسي في دفء أحضانك, مخضّبة بملامح الخجل...
حروف الأبجديّة غير كافية لي للإستدلال والتّعريفات والمناقبيّات الّتي كنتِ تتحلّين بها يا أمّي... وعقول النّوابغ والمبدعين والمفكّرين والكتّاب والشّعراء, أيضا لا تفي للتركيز والتّمايز والتّفسيرات لصفاتك الّتي ميّزكِ بها الخالق سبحانه... أنت أمّي الّتي حملتني وتعذّبت بي ووضعتني وحضنتني وسهرت على تربيتي وتنشئتي... أنتِ كلّ شيء في الحياة على الإطلاق...
أنتِ سفينة النّجاة والخلاص لي, وأنتِ الأمل المرتجى في البعد لي, وأنت المثل المحتذى لي في معتركات العيش, وأنت الهدي والرّشاد لي في متاهات الحياة... وأنت قمم العنفوان الّتي أتمثّل بها في مساراتي, وأنت قيثارة الحبّ والعشق الّتي تُفعمني بالشّدو, وتنعشني بالموسقة... وأنت رؤى النّور البعيد الوامض في اللامتناهيات, يهديني استقامة السّبيل إلى الهدف الأسمى المنشود...
تتراءى لي روحك في طيفها الأثيريّ, شفيفة النّقاء والصّفاء, تتماهى في برزخ عالم الذّرّ... حيث يتجلّى بديع صنع الله في عظمته وقدرته ووحدته... وحيث عجائب الخلق وغرائبها ترسي معايير المعادلات ومقاييسها في أقانيم الحبّ والعشق من رحم المودّة والرّحمة الّتي أودعها الله في صدور الخلّص له من عباده...
ما أحلى وأطيب حلاوة الشّهد المنساب من رضابكِ فوق شفتيكِ متساقطا عند قرمزيّة لماكِ... وما أجمل تلك الومضات الّتي تتجلّى في مآقي عينيكِ العسليّتين... وهي تزرف بعض الدّمع الدّافيء ينساب فوق وجنتيكِ وأنتِ تدندنين لي كي أغفو بين يديكِ, حالما بالحنان المنعش لروحي ونفسي وكينونتي...
لو تعلمين أمّاه ماهية الأحزان والإكتئاب وصعوبة الإبتعاد والهجر والفراق؟!... ليتكِ أمّاه تدرين ما أنا فيه من الحيرة والقلق من جرّاء قهر الأيّام؟!... وليتكِ تعرفين أنّني كلّ يوم أرتحل إليك وأبوح لك بما يتفاعل في كينونتي من ظلم الآخرين لي؟!... أبكي عند تراب قبرك حتّى أرتحل في غيبوبتي لأجل... وأضع على ضريحك باقة من الورود والرّياحين, تضوع بالطّيب لأنفاسك الطّاهرة... وأعود القهقرى إلى سجني الّذي عليه اعتدت في هذه الدّنيا, بإنتظار حكمة الله...
أمّاهْ...
أَنْتِ فِتْنَةٌ فِي جَنَّةِ الحَيَاةِ, صَاغَ الله قَلْبَكِ مِنَ شَفِيِفِ رُوْحِهِ, خَفْقُ نَبَضٍ بِالحَنَانِ, صَدَى الأَنْفَاسِ الدَّافِئَةِ... أَنْتِ سَوْسَنَةٌ تَتَنَهَّدُ مَعْ كُلِّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ, وَرَذَاذُ الطِّلِّ هَامٍ عَلَى الأَكْمَامِ, يَا غُرَرُ الجَمَالِ تَتَأَلَّقُ عَلَى جَوَانِحِ المُقْمِرَاتِ... بِكِ كَانَتِ بَدْءُ الكَائِنَاتِ, مِنْ رَحَمَكِ صَاغَ الله رَوَائِعَ الرَّئِعَاتِ, يَا أُمُّ الحَيَاةِ... يَا مَنْ سَامَرْتِ أَحْلاَمِي فِي اللَّيْلِ وَالسُّبَاتِ, يَا مَنْ سَقَيْتِنِي الحُبَّ وَالعِشْقَ فِي أَكْؤُسِ هَانِئَاتٍ... أَنْتِ نُعْمَى الوُجُوْدِ, وَطَيْفُكِ دَائمًا يُلْفِتُنِي, يُحَرِّضُ فِي كَوَامِنِي الذِّكْرَيَاتِ...
صَغِيِرا كُنْتُ أُنَادِيِكِ بِلَهَفٍ, وَشَوْقٍ مُتَعَاظِمٍ لَكِ... كُنْتِ دَائِمًا مِثَالُ الجَمَالِ أَرَاكِ, وَكَمْ كُنْتُ أَتَمَنَّى أَنْ يُسْبِغَ الله عَلَيَّ وَمَضًا مِنْ حُسْنَكِ وَجَمَالكِ... صَدْرُكِ الدَّافِيِءِ بِالحَنَانِ, كَانَ لِي أَفْضَلَ وِسَادَةٍ, أُلْقِي بِرَأْسِي إِلَيْهَا, وَأَرْتَاحُ عَلَيْهَا... حَمَلْتِيِنِي تِسْعَةَ أَشْهُرٍ فِي بَطْنَكِ, وَكَثِيِرًا تَأَلَّمْتِ بِي... أَطْعَمْتِيِنَنِي مِنْ صَدْرَكِ كُلَّمَا الجُوْعُ إفْتَرَسَنِي... وَحَمَلْتِيِنَنِي بَيْنَ ذِرَاعَيْكِ كُلَّمَا أَجْهَشْتُ بِالبُكَاءِ وَالصُّرَاخُ أَخَذَنِي... وَكُلَّمَا غَفَوْتُ كُنْتِ تَرْكَعِيِنَ قُرْبَ سَرِيِري... لَيْتَنِي بَقِيِتُ صَغِيِرا, وَبَقِيِتِ بِقُرْبِي يَا أُمِّي...
تَكْرِيِمًا وَعَرَفَانًا لَكِ وَبِكِ, جَعَلُوا لَكِ عِيِدًا سَنَوِيًّا, يَتَجَدَّدُ مَعْ نِهَايَةِ كُلَّ شِتَاءٍ وَإِطْلاَلَةِ كُلَّ رِبِيعٍ... حَيْثُ تَتَوَازُنُ الأَوْقَاتُ عَدَالَةً, وَيَتَسَاوَى حِكْمَةَ خَالِقٍ, زَمَنُ اللَّيْلِ وَزَمَنُ النَّهَارِ... وَحَيْثُ تَتَبَرْعَمُ أَكْمَامُ الأَغْصَانِ اليَابِسَةِ وَتَتَوَرَّقُ, وَتَتَمَوْسَقُ الأَوْرَاقُ بِالحَنَأنِ... وَتَتَفَتَّحُ مَيَاسِمُ الوُرُوْدِ, وَتُزْهِرُ وَتَتَفَتَّقُ بِالأَزْرَارِ, وَتَتَشَذَّى بِالطِّيِبِ يَنْتَشِرُ فِي الأَرْجَاءِ... وَتُنْبِتُ الأَرْضُ بِالحُبِّ وَالعِشْقِ, وَتَلْبِسُ الطَّبِيِعَةُ أَجْمَلَ ثِيَابِهَا مِنْ سُنْدَسِ الإِخْضِرَارِ... كُلُّ ذَلِكَ إِحْتِفَاءً بِكِ يَا أُمِّي... لَيْتَ كُلَّ الفُصُوْلِ فُصُوْلَ الرَّبِيِعِ, وَلَيْتَ كُلَّ الأَسَابِيِعِ أَسَابِيِعَ الوَفَاءِ وَالإِخْلاَصِ, وَلَيْتَ كُلَّ الأَيَّامِ أَيَّامَكِ يَا أُمِّي...
عَيْنَاكِ الثَّاقِبَتَانِ أُمَّاهُ, نَجْمَتَانِ مُتَلأْلِئَتَانِ, تَخْتَصِرَانِ كُلَّ النُّجُوْمِ, الوَامِضَةِ فِي دُجَى اللَّيِلِ, قَنَادِيِلَ مُعَلَّقَةً فِي قُبَّةِ السَّمَاءِ... وَوَجُهُكِ أُمَّاهُ المُشْرِقِ بِالبَسْمَةِ, بَدْرٌ وَامِضٌ بِالبِشْرِ وَالضَّوْءِ, يَخْتَصِرُ كُلَّ البُدُوْرِ, المُتَكَوْكِبَةِ فِي كَبِدِ اللَّيَالِي... لأَجْلَكِ أُصَلِّي أُمِّي بَيْنَ يَدَيِ الله, مِنَ الغَسَقِ حَتَّى الفَجْرِ, وَأَبْكِي وَأَتَهَجَّدُ حَتَّى الصَّبَاحِ... وَأَنْتَظِرُ قُدُوْمَكِ البَهِيُّ مَع سَيَّالاَتِ الشَّمْسِ, الَّتِي تُطِلُّ عَلَى مَدِيِنَةِ الشَّمْسِ مَنْ خَلْفُ الأُفُقِ... فَكُلُّ الصَّبَاحَاتِ لاَ رَوْنَقَ لَهَا بِدُوْنَكِ... وَكُلَّ اللِّقَاءَاتِ وَالمَوَاعِيِدِ وَهْمٌ بِلاَ حُنُوَّكِ...
كَمْ أَنْتَظِرُ شَوْقًا وَحَنِيِنًا وَتَشَاغُفًا, قُدُوْمَ انْبِلاَجِ الصَّبَاحِ, كَيْ يَحْمِلُنِي حَالِمَا إِلَيْكِ عَلَى صَهَوَاتِهِ الأَثِيِرِيَّةِ, المُرْتَحِلَةُ فِي الرِّحَابِ المُمْتَدَّةِ عِبْرَ ثَنَايَا حَنِيِنِ الأَنْسَامِ... أَتَذَكَّرُ أَيَّامَ الطُّفُوْلَةِ وَالحَنِيِنَ وَالوِدَادِ, وَأَتَذَكَّرُكِ أُمَّاهُ, فَتَلْتَهِبُ لَكِ عَوَأطِفِي, وَتَجِيُِشُ بِي أَحَاسِيِسيِ, وَتَتَّقِدُ كَمَا البُرْكَانِ... أَعِيِشُ حَيَاتِي مُعَذَّبَا, أَرْقُبُ عَوْدَتَكِ مَعْ كُلِّ مَسَاءٍ وَصَبَاحٍ, وَيَطُوْلُ بِيَ الإِنْتِظَارُ عِنْدَ مَرَافِيِءِ الحَيَاةِ... صَادِقُ الوَعْدِ لَكِ أُمَّاهُ, وَالأَحْزَانُ تَشْهَدُ, مَا جَفَّتْ مِنِّي المَآقِي, وَلاَ الأَشْجَانُ عَرَفْتُ لَهاَ إِطْمِئْنَانْ... أَبْكِي وَأَبْكِي, زُوَّادَتِي ذِكْرَى الأُمُوْمَةِ, وَأَنْسَامَ الحَنَانِ...
عَصْفُ الرِّيَاحِ, وَإِنْ جُنَّتْ, مَهْمَا تَعَاظَمَتْ عَصْفًا, لاَ تُقْلِقُنِي... وَقَصْفُ الرُّعُوْدِ, وَإِنْ احْتَدَمَتْ, مَهْمَا إشْتَدَّتْ رَعْدًا, لاَ تُرْعِبُنِي... فَفِي رُوْحِي الشَّفِيِفَةِ, هَمْسُ حَنِيِنٍ, أَعْظَمُ مِنْ عَصْفِ جُنُوْنِ العَوَاصِفِ, حَنِيِنٌ يُطَمْئِنُنِيِ... ذّلِكَ حَنِيِنُكِ الَّذِي أَسْتَشْعِرَهُ فِي البُعْدِ يَا أُمِّي... وَفِيِ كَيْنُوْنَتِي الأَبِيَّةِ, نَزْعُ صَوْتٍ بَعِيِدُ الرَّجْعِ, هَائِمٌ فِي الإِمْتِدَادَاتِ, أَتَحَدَّى بِهِ إِشْتِدَادَ قَصْفَ الرُّعُوْدِ, صَوْتٌ عَازِفٌ يُطْرِبُنِي... ذّلِكَ الصَّوْتُ الشَّجِيُّ, هُوَ صَوْتُكِ الحَانِي, فِي البُعْدِ يُنَادِيِنِيِ, وَيُشْجِيِنِي يَا أُمِّي...
نَكَبَاتُ الأَيَّامِ, وَإِنْ تَكَاثَفَتْ فَوْقَ كَاهِلِي, لَمْ وَلَنْ وَلاَ تُرْهِقُنِي... وَالبَلاَيَا وَإِنْ هَجَمَتْ عَلَى قَلْبِي, فَلَمْ وَلَنْ وَلاَ تُحْبِطُنِي... وَجُوْرُ الزَّمَانِ, وَإِنْ تَعَاظَمَ زُوْرًا وَبُهْتَانًا, لَمْ وَلَنْ وَلاَ يَفَلَّنِي... وَالرَّزَايَا مَهْمَا هَدَّتْ مِنْ سُوْرَ آمَالِي وَحَطَّمَتْ, فَلَمْ وَلَنْ وَلاَ تُحَوِّلُنِي يَبَابًا وَلاَ خَرَابًا... فَإِنَّ فِي حَيَاتِي أَمَلاً, أُحَاكِيِهِ وَيُحَاكِينِي, كَأَنَّهُ السَّيْفُ المَسْلُوْلُ فِي وَجْهِ المَنَايَا, يَدْرَأُ عَنِّي وَيَحْمِيِنِي وَيَزُوْدُ عَنِّي وَيَحْرُسَنِيِ... ذّلِكَ المَلاَكُ الأَمِيِنُ, طَيْفُ أُمِّي...
ذِكْرُكِ المُبَارَكُ, أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ عَبَقِ الطِّيِبِ, وَضَوْعِ العَبِيِرِ, وَأَذْكَى لِي مِنَ الشَّذْيِ اللَّطِيِفِ, يَتَمَاوَجُ فِي ثَنَايَا تَمَوُّجَاتِ الأَثِيِرِ... وَأَحَنُّ وَأَشْجَى, مِنْ مَوْسَقَةٍ حَانِيَةٍ عَلَى الوَتَرِ الأَوْحَدِ, تَتَوَالَدُ مِنْهُ أَنْغَامٌ, عَلَى إِهْتِزَازَاتِ الوَتَرِ الشَّرُوْدِ... مُحَيَّاكِ وَأَنْتِ فِي خُشُوْعٍ تُصَلِّيِنَ لله, فِي العَشَايَا وَالسُّحُوْرِ, وَتَضْرَعِيِنَ تَهَجُّدًا وَإسْتِغَاثَةً لِلْمَوْلَى القَدِيِرِ... تُنَاجِيِنَنِي عَلَى مَهْلٍ, قُرْبَ السَّرِيِرِ, وَأَنَا أَغْفُوْ حَالِمَا, وَإِلَيَّ يَرْنُوْ طَرْفُكِ تَارَةً وَأُخْرَى لِلْعَلِيِّ البَصِيِرِ...
كُلَّمَا حَاوَلْتُ أَنْ أَسْتَلَّ القَلَمَ, كَيْ أَبُوْحَ لَكِ, عَمَّا يَعْتَلِجُ فِي كَوَامِنِي, وَأَكْتُبَ لَكِ هَذِهِ الكَلِمَاتِ, مِنْ حَرْقَةَ نَفْسِي عَلَى رَحِيِلَكِ, وَبُعْدَكِ عَنِّي, أَتَرَدَّدُ كَثِيِرًا؟؟؟!!!... غِيَابُكِ تَرَكَ لَنَا فَرَاغًا, قَدْ كُنْتِ لَنَا نُوْرًا وَهَدْيًا, وَطَيْفَكِ كَانَ وَيَبْقَى وَسَيَبْقَى لَناَ وَبِنَا حُضُوْرًا رُوْحِيًّا أَبَدِيًّا, وَكُلَّ مَا عَدَاهُ لاَ مَعْنَى لَهُ... غِيَابُكِ عَنَّا, فَرَاغٌ رَهِيِبٌ فِي دُنْيَانَا, شَعَرْتُ بِهِ مَع اليَوْمِ الأَوَّلِ لِغُرُوْبَكِ عَنِّي... وَخَيَالُكِ لاَ يَبْرَحُنِي, وَدَائِمًا وَأَبَدًا أَرَأهُ أَمَامِي, فَأَرْتَعِشُ وَأَنْتَعِشُ مُجَدَّدًا...
أمّاهْ...
شاء الله لكِ ما شاء, وبمزيد من الرّضى والتّسليم, تقبّلت ما شاء لكِ الله... فما طال العمر بكِ سيّدتي وما طال بنا الزّمان, حتّى انتقلتِ إلى رحاب الله الواسعة, وغدوتِ تسكنين تحت الثّرى... تركتيني وحدي, وسافرتِ على صهوة راحلة الموتِ, لا معين لي, يجتاحني الحزن, ويسكنني الكمد, لا عضد لي, ولا من أسكن إليه, حتّى غدوتُ فاقد الصّبر, هائما على وجهي, أضرعُ لله يُلهمني السّكينة والهدأة, كي أمسكّ أمري...
كم أقضي الليالي باكيا, أذيب دمعي الصّارخ, شوقا ولهفا لكِ... لمن أشكو أمري سيّدتي؟! والكلّ من حولي يتجاهلني, والمآسي هدرت كياني, وأثقلت على كاهلي كلكلها... حبُّك أمّاه هو عشقي, هو فخري واعتزازي, أنتِ هواي, وهواكِ أنسام عليلة حانية من ربوع مدينة الشمس... إليكِ أبوح في سرّي وفي علانيّتي, وقلبي يعتصره الحزن عليكِ, وروحي تئنُّ في برزخها, ونفسي خارت محطمّة, وجسدي وهن من الألم عليكِ... فهل يا أمّاه ألقاكِ ثانية؟!...
أتلفّت حولي بحذر شديد, أستيقظ في كنف الليل, والكوابيس تتملّكني, أحدّق في أوجه الظّلام حيرانا... تغيمُ عيناي بدموع الذّكرى الأليمة, وأنا أحاول جمع بذور مصابي برحيلكِ, أغرسها وأعاودُ غرسها في حنايا ضلوعي... كم أجثو وحيدا أجترّ الأحزان, وتجترّني الآلام, قرب تراب قبركِ؟! والموتُ يُطعمني رغما عنّي لُقمته... إليكِ أمضي كلّ يوم مع الشّروق والغروب, أبثُّ لكِ كلّ حكايات حزني وألمي ووجعي, فواهٍ واهٍ لموتكِ أمّي...
كم أتمنّى أن تعودي لي, رغم يقيني بإحالة عودتكِ؟!... أحلم وأنا بهذا العمر الذي تجاوز الصّبا, أن تُهدهدينني, مثلما لو كنت طفلا صغيرا, وأن تُلاعبينني كما كنتِ سابقا تُلاعبيني, وأن تزرعينني في ثرى مدينة الشّمس, شجرة غضّة يانعة مزهرة مثمرة, ترمي بظلالها وفيئها, تأوي إليها الأطيار الصّادحة, والعصافير الزقزاقة, والسّنونو الحالمة, والحمائم واليمائم الهادلة, وتتفيّأ ظلالها كلّ الأحباب والعشّاق في رضى الله وتقوى الله...
جبيني المشرق بالنّور, بعضُ إشراقاتِ ضياكِ, وصدري المفعم بالإيمان, بعضُ ومضاتِ هُداكِ, وقلبي المتموسق بالتّشاغف لكِ, بعض من دفء حنانكِ, ووجداني الذي لا تغيبين عنه, بعضُ من قبس ذكراكِ, وعقلي المتفكّر دائما بكِ, بعضُ من حكمة فكركِ, ووعيي الباطنيُّ الذي أنتِ قوامه, بعضُ نور وعيكِ, وعرفاني الذّاتيُّ الذي أنتِ أسسه, بعضُ شعلة عرفانكِ... بكِ أمّاه عقلنتُ قلبي, وبكِ أمّاه قلبنت عقلي, وبكِ وعيت وعيي, وبكِ ذاد عرفان ذاتي... رحماكِ, رحماكِ, رحماكِ, وطيّب الله ثرى أبي وثراكِ...
أرسلي لي طيفكِ الأثيريّ الشّفيف, النّقيّ الصّفيّ الوضّاء... أرسليه لي, ذات ليلة كثيفة الظّلام, أرسليه يتلألأ في كنف الهدأة والسّكينة الغسقيّة, ويتهادى لي من عمق وقلب نجمة الصّبح الإشراقيّة, ليحملني عبر سيّالاته القدريّة, حيثما تبدو وامضة رؤاكِ... فأذداد إيمانا على إيمان, وأكتنز تقوى على تقوىً, وأسمو سموّا على سموٍّ, وأحمل ذاتي بذاتي, كي أعرج في مسارات الخيط الفضّيّ, الممتدُّ بين الأرض والسّماء, وأتواصل بكِ روحا أثيريّة شفيفة, تنتعش في برزخ الحقّ والإيمان ورضى الله وتقوى الله...
أنا سجين ربقة جسدي, الكثيف بالمادّة التّرابيّة, المخلوقُ من الحمأ المسنون, وسجين كهوف هذه المرذولة, التي يُسمّونها الأرض, وهي فانية, وكل شيء فان, ولا يبقى سوى وجهه الكريم بعد فناء كلّ الأشياء... وأنا يا أمّاه, أعيش مُجبرا في العصر القاهر الفاجر الكافر, حبيس الأعراف البالية, والتّقاليد العفنة, ومزاجيّات العشيرة القبليّة, التي تتماهى بها النّفوس المريضة, والعقول الصّدئة, الموبوءة بالفصام, تحت ستائر وأوشحة وديثارات, متعدّدة الألوان والأشكال, تتنافخ بما ليس فيها... فمتى أمّاه تدعينني إليكِ, كي أرتاح؟!...
إغسليني سيّدتي من ذنوب هذه الأرض, المليئة بالشّرور, التي تتربّص بي من كلّ حدب وصوب, والتي تتعاظم وتتكاثف يوما عن يوم... وامنحيني أمّاه, من الأمل المرتجى, الذي يُحاكيني, وأُحاكيه في البعد المأمول... واضرعي لي عند الباري, حيث أنتِ, في مثواكِ الأخير, لِيزداد يقيني, علّ يوما ما, فيهِ ألتقي بكِ وأراكِ... إنّي ها هنا في حياتي الفانية, وفي شجوني المتعاظمة, وفي أحزاني التي تفترسني, أرفع يداي للسّماء قانطا داعيا مستغيثا متضرّعا, أستجدي طالبا آملا رضى الله ورضاكِ...
طواكِ الرّدى, على حين غفلة منّي, وزُفّ جثمانكِ إلى مثواه الأخير, ورقد هامدا ساكنا تحت الثّرى في روضة قبرك, وهامت روحكِ الطّاهرة في رحاب الله, وعادت نفسك المطمئنّة ورجعت إلى ربّها بارئة, راضيّة مرضيّة, ودخلت عباده ورياضه ورحابه... وبموتكِ أمّاه غاضت ينابيع المحبّة والحنان, وتخيّلت روحي, نزلت معكِ في حفرة القبر, بعدما رافقت نعشكِ المسجّاة عليه... وقلبي أحسسته يدُبُّ حزينا كئيبا لفراقكِ, ونفسي ما زالت حتّى اليوم وتبقى وستبقى, تسكب توجّدها عند تراب قبرك...
التعليقات (0)