أمي الحكيمة
أمي من جيل الأمهات الصامدات ، اللواتي سخرن أنفسهن لتقديس الحياة الزوجية ، وبكل معانيها المادية والروحية ، لذلك ترسخت لديهن قناعة عجيبة ، فكانت الأسرة ومشاغلها وتلبية إحتياجاتها مِن أولى الأولويات التي تمحي آثار الأنا المقيت لديهن ، لتتأصل مكانه فلسفة القناعة بالقليل الموجود ، وكذا الإيثار.
ورغم مستوياتهن التعليمية المحدودة ، إلا أنهن حكيمات بالفطرة ، بل إن المتعلمين مِن أمثالي يقفون مدهوشين أمام آرائهن الحياتية البسيطة والصادقة والبناءة ، والتي تضاهي آراء المحللين والفلاسفة والمُتفلسفين.
فأمي كانت تشجعني منذ طفولتي على التعلم ، لأنها أرادَت رُؤيتي حاملاً لأعلى الشهادات ، وأحَبُّ شهادة إلى قلبها ، كانت شهادة الطبيب ، فهي مافتِئَت تردد عبارة : إبني سيصبح طبيبا ... فكانت دليلي الذي يُنهضني مِن نكبات الإستسلام .. ومِن حُمى البحث عن حرية (وهمية طبعا) مِن صرخاتِ ، وشخراتِ المُدرسين ، ورقابة إدارة المدارس اللصيقة بي وبوقتي ... فكانت حكيمة بقلبها لابعقلها..
[قلب الأم ] ... الذي لايعرف الكراهية ولا الحقد ، فاقترن لونه بلون الحليب ، وبطاقة الحليب التي يُمِدُّ بها العقل والقلب والجسد..
قلت إنها كانت حكيمة بقلبها لابعقلها ، لأن الحكمة هي البحث عن السعادة المادية والروحية ، وكلاهما في الطاعة ، والقيام بالواجب ليأتيك حقك ونصيبك ، مُنساقا مِن عند ربٍّ رزق الحوت في البحر ، والدود في الحجر...
والحكمة أيضا هي في مُجاهدة النفس وهواها ، ومُغريات الدنيا وزخرفها ، واتقاء سبل الشيطان عدو الإنسان الأزلي ، الذي حسده وبغضه حتى قبل أن ينفخ فيه الإله مِن روحه ، ورفض السجود له حين أمِرَ بذلك...
أمي منحها الله تلك الحكمة حالها كحال جميع الأمهات ، فكانت أفكارُها نورانية مِن نقاء سريرتها ، ومِن حُسن ظنها بالناس ، لأنها تحسن الظن بالله في المقام الأول...فكانت – في كل نكبةٍ أعانيها – تبدأ بعلاجي بابتسامة صادقة ، تشرق مِن نفسها السمُوحة ، فتعيدني إلى حياة السماحة.
أنا : [صديقي الفلاني] ..شتمني فضربته ، فتدخل أخاه الأكبر بعدما نهشته الحميّة.
أمي : [صديقك الفلاني] .. يبقى صديقك ، والصديق كنز ، كما أنه مِن أخيار الناس .. ثم ماذا أخبرتك عمن هم أكبر منك سِنا...؟ واحترامهم ليحترمك مَن هم دونك ؟..
أنا : [مدرسي الفلاني] .. لايُنصفنا في النقاط ، رغم أنه يُنهكنا بالواجبات ، والصرخات ، وحتى الضربات أحيانا.
أمي : [مدرسك الفلاني] .. نفسُه مَن مدحَكَ أمامي في جمعية أولياء الأمور، أما الواجبات فهي تزيد مِن معارفكم وتقويها ، أما عن صرخاته فهي صرخات النخوة ، لأنه يريدكم أن تتعلموا لتخدموا وطنكم كما يخدُمُه ، أما عن الضرب فهو من حقوقه المشروعة.
كثرَت المواقف - خلال مراحل حياتي – واختلفت حدتها أو تأثيراتها ، لكن طبع أمي النقي لم يتغير أمام أيٍّ مِن تلك المواقف...وتعلمتُ ماشاء الله ، ونلتُ ماشاء الله مِن شهادات ، لكن أعلاها وأغلاها كانت على يدي أمي التي علمتني حكمة القلب ، فأصبحتُ حكيما صغيرا لأمي بقلبي لابعقلي.
تاج الديــن : 2009
التعليقات (0)