أي شخص يتوقف عن التعلم هو عجوز..سواء كان في العشرين أو الثمانين
بغض النظر عن الطريقة التي مات بها المسؤول الأول عن الأمن في الجزائر، فان اللافت للانتباه أن خبر الواقعة تناقله الجزائريون، في بضع دقائق... و ما من أحد منهم سأل الآخر: من يكون علي تونسي ؟!.. الكل كان يعرف من هو علي تونسي. نقطة، و دعوني أرجع إلى السطر.
منذ أيام قليلة، فقدت قائمة الأوزان الثقيلة الثمينة في الجزائر، اسما لم يحزنني رحيل صاحبه بقدر ما أحزنني أن السواد الأعظم من الجزائريين، لم يكن يعرف أي شيئا عنه. كمال بلقاسم هو الذي رحل منذ أيام فقط. الرجل، باختصار شديد كان مديرا لأول و أكبر و أشهر جريدة جزائرية مستقلّة قبل التعدّدية الإعلامية، و الحزبية و السياسية.. أي قبل زلزال 5 أكتوبر 1988. تلك الجريدة، و قد كانت أسبوعية ناطقة باللغة الفرنسية، اسمها " الجزائر الأحداث " Algérie Actualité.
يؤلمني ألا يعرف الجيل الجديد أي شيء عن هذه الصحيفة، و عن النساء و الرجال الذين صنعوا مجدها ، و على رأسهم الر احل كمال بلقاسم.. و الذين صنعت هي، مجدهم و هم كثيرون جدا.
أسابيع قليلة، قبل وفاة كمال بلقاسم، كانت قد انتابتني رغبة غامضة في الكتابة عن تلك الجريدة، فكتبت عنها أقول:
" قبل مظاهرات 5 أكتوبر 1988 كانت تصدر في الجزائر صحيفة أسبوعية ناطقة بالفرنسية اسمها Algérie Actualité. هذه الصحيفة وحدها أسّست للديمقراطية و ثقافة التعددية و كرّست التعددية السياسية و الإعلامية و الثقافية و الاختلاف في الرأي أكثر مما فعلت كل الأحزاب السياسية التي ظهرت في الجزائر منذ إقرار التعددية الحزبية و السياسية إلى يومنا هذا!
نعم صحيفة Algérie Actualité قدّمت قبل التعددية للجزائريين ، مواطنين بسطاء، و مثقفين و إطارات و معارضين و جامعيين و فنانين و حقوقيين و سينمائيين و مسرحيين و مرضى و أطباء، ما لم يقدمه أي واحد من كل هذه " الشكارة" من الأحزاب التي ظهرت بعد إعلان التعددية.
Algérie Actualité و على الرغم من أنها كانت تابعة للدولة، ناقشت المحظورات و تحدّت الرقابة و الممنوع بذكاء، و فتحت الباب للمعارضة عندما كانت تلك المعارضة قليلة و ثمينة،و كوّنت جيلا من المثقفين و حتى من الصحفيين، من الصعب أن نعثر اليوم على أقران لهم في كل هذا الكم الهائل من الصحف الجزائرية التي تعتبر نفسها "مستقلّة" و هي حقيقة مستقلّة عن كل شيء إلا عن قسّام الإشهار". انتهى ما كنت قد كتبته عن هذه الصحيفة.
Algérie Actualité التي كانت تُوزّعُ كل خميس، أتذكّر كيف أن البعض في منتصف الثمانينات كان يضطرُّ للاشتراك فيها لدى أصحاب الأكشاك و المكتبات، بينما كان البعض الآخر، يضطرُّ في أغلب المدن الداخلية للبلاد ، للتضحية بالفترة الصباحية كاملة تقريبا، في انتظار وصول السيّارة التابعة لشركة التوزيع و التي كانت تحمل معها ذلك العنوان الصحفي الغالي... Algérie Actualité !
Algérie Actualité أرست الاختلاف و الحرية و الديمقراطية قبل زمن التعددية.. لقد كانت تؤدي عن جدارة دور الرياح التي تسبق أي تغيير. يُقالُ أن نبرة الحرية و الجرأة التي كانت تطبع هذه الجريدة، يعود الفضل فيها لرجل واحد هو الرئيس الشادلي بن جديد. و إذا كانت هذه المعلومة صحيحة، لا يمكننا إلا أن ننحني " مرة أخرى" أمام هذا الرجل، لأنه و إلى أن يُثبت العكس، ما من رئيس للجزائر سبق أم لحق، أنجز ما أنجزه هو. كثيرون هم الذين سوف لن يستطيع أحد أن يمنعهم من الاستهزاء بالشادلي بن جديد و إلصاق كل هموم البلد بشخصه، لكن ما أقلّ الذين يتوفرون على القدر الأدنى من النزاهة و الشرف و الشجاعة، كي يعترفون له بأعماله... و لكن الشادلي بن جديد ليس هو موضوعي، فدعوني أعود إلى هدفي، كي لا أتيه.
ساعات قليلة فصلت بين رحيل كمال بلقاسم، و بين رحيل رجل آخر من معدن ثمين هو كذلك. هذا الأخير اسمه زروق. كم هو عدد الجزائريين الذين يعرفون أن زروق كان مديرا عاما للمؤسسة الوطنية للتلفزيون.. و كم هو عدد الذين يعرفون بأنه غادر مبنى التلفزيون الجزائري، مستقيلا.. و كم هو عدد الذين يعرفون لماذا استقال من منصبه على رأس تلفزيون البلد؟ أنا أقول لكم بأنه استقال عام 1992، مباشرة عقب تعيين حمراوي حبيب شوقي وزير للاتصال و الثقافة في حكومة بلعيد عبد السلام. حمراوي كان يشتغل في التلفزيون الجزائري، و زروق لم يتقبّل فكرة أن يصبح ذلك الشاب المبتدئ وزيرا وصيّا عليه. يؤلمني ألا يعرف الناس في بلدي، مثل هذه الحقائق.
يؤلمني، ألا يسأل أحد منا، اليوم عن رجل اسمه بوجمعة كارش. و كيف يسألون عنه و هم لا يعرفونه ؟ بوجمعة كارش كان مديرا للسينماتيك الجزائرية. ما من مدير لمهرجان سينمائي دولي ، و ما من مدير لأي سينماتيك في العالم، لم يكن يعرف من يكون بوجمعة كارش. لقد كان الرجل مديرا لواحدة من أكبر متاحف السينما العالم ( السينماتيك الجزائرية !).. لقد صنع مجدها في السبعينات و الثمانينات. جيل كامل من الوزراء و السفراء و الولاّة و المسؤولين السّامين في الدولة ممّن تكوّنوا في المدرسة الوطنية للإدارة الشهيرة، و من الجامعيين و الأطباء و الصحفيين و الكتاب و الفنانين مرّوا كلّهم من القاعة التي كان يسيّرها بوجمعة كارش.. مرّوا كلّهم من قاعة شارع العربي بن مهيدي... يؤلمني أن أسأل اليوم، و لا أحد من أبناء الجيل الجديد، يعرف ما هي " السينماتيك" !
يؤلمني ألا يتحدث الناس، اليوم عن " بوجمية مرزاق" و الذين يتحدثون عنهم، يسمونه " بوجمعة مرزاق"... يؤلمني ألا يتذكّر أحد أن هذا الرجل هو الذي أدار الجوق الذي أدّى موسيقى مسلسل "الحريق" للراحل مصطفى بديع، و يؤلمني أكثر ألا يعرف الناس أن الرجل الذي ألّف موسيقى " الحريق" اسمه الأمين بشّيشي. هذا الأخير قد لا تعرف عنه الأغلبية أكثر من أنه كان وزيرا للاتصال و قبل ذلك مديرا عاما للإذاعة الجزائرية.. لكن كم بقي من الجزائريين الذين يعرفون أن الأمين بشّيشي هو أولا و قبل كل شيء، أستاذ للموسيقى ؟!
يؤلمني أن يتحدث القوم عندنا عن السينما الجزائرية، و لا يذكرون فيلما عنوانه " نهلة" و لا يتذكّرون مخرج " نهلة" و اسمه فاروق بلّوفة.. و لا يسألون عن فاروق بلّوفة أين يعيش، و متى لماذا غادر الجزائر.. و إن كان لا يزال حيّا.
يقطّع قلبي ألا يتذكّر أحد منا الراحل أحمد مالك الذي أبدع في موسيقى أشهر الأفلام السينمائية و التلفزيونية الجزائرية.
يحزنني ألا يعرف ابني صغير، ما هي قاعة السينما، و يصدمني أن يضطرّ موزع أفلام سينمائية لأن يتفاوض مع رئيس بلدية كي يتمكّن من عرض فيلم سينمائي للجمهور، و يُبكيني أن أعيش لأشهد على وقوع هذه المأساة في زمن ترصد فيه خزينة الدولة أموالا خيالية لهيكل إداري اسمه وزارة الثقافة.
هل تعلمون بأنه حدث ذات مرة ( نهاية 2004) أن زارني في مكتبي، الزميل الصحفي عمر بلهوشات ( مدير صحيفة " الوطن" ) ، و أردت أن أرفع معنويات إحدى المتربّصات ، في ذلك الوقت، و أن أجعلها تشعر بأن الصحيفة التي تتربّص بها، تتيح لها شرف التعرّف على أكبر رموز الإعلام في الجزائر، و من بينهم عمر بلهوشات طبعا، ليس فقط لكونه مديرا للوطن، و إنما و خصوصا، لأنه في التسعينات ( سنوات الإرهاب) كان العالم بأكمله يتعامل معه على أساس أنه رمز النضال الصحفي في الجزائر ، حتى أن عدد الجوائز الدولية التي حصل عليها في تلك الفترة، قارب أو تعدى الـ 50 جائزة.. المهم أنني قدّمت ضيفي لتلك المتربّصة، قائلا لها: "أقدّم لك عمر بلهوشات..." .. لكن الزميلة الصغيرة، وقفت و صافحت الرجل دون أن تُبدي أي أثر إعجاب أو تقدير كما يحدث دائما في مثل هذه الوضعيات. شعرت، بل تأكدت بأن في الموقف، شيء ما غير طبيعي على الإطلاق، و ما كنت متيّقنا منه أكثر، هو أن الزميلة لم تكن تتخذ أي موقف مبدئي من بلهوشات، لأسباب إيديولوجية أو ثقافية مثلا... بل هي ظلّت باردة كالحديدة لأنها لم تكن تعرف من يكون عمر بلهوشات. و بالفعل، عندما سألتها صباح اليوم الموالي، إن كانت لا تحب عمر بلهوشات، حتى لا تُبدي له أي مظهر من مظاهر التقدير و الإعجاب. فردّت عليّ بكل عفوية و براءة: " لا أعرف من يكون ؟!" . الزميلة الصغيرة كانت على وشك التخرّج "صحفية" ( شهادة ليسانس في علوم الإعلام و الاتصال) من أحد معاهد علوم الإعلام في إحدى الجامعات الجزائرية، و الذنب ليس ذنبها، و لا ذنب كل الآخرين من الجيل الجديد الذي يعرف علي تونسي، لكنه لا يعرف الكثيرين ممّن يستحقون أن يعرفهم الجن قبل الإنس ... أما الذنب، ذنب من ، فهذه حكاية أخرى. السلام عليكم.
التعليقات (0)