لبنان بعد تشكيل حكومة السعودية وإيران ليس لبنان ما قبلها.
علينا أن نصدّق أن عاصفة التخوين المتبادل على مدى ثلاث سنوات كانت سحابة صيف عابرة، وأن أزهار الربيع بين القوى المتناحرة قد بدأت بالتفتح؛ أليس وزير الداخلية "نهاد المشنوق" مَن عَلّق في 18/2/2014 على التواصل المستجد بين "حزب الإرهاب المنظم" و"المستقبل" بالقول: "لم نطوِ الصفحة وحسب بل طوينا كتبًا"؟!
علينا أن نصدّق أن جولات الاقتتال العشرين في طرابلس قد انتهت الى غير رجعة. الجيش والقوى الأمنية أرسَيَا الأمن في التبانة وجبل محسن. "الحزب العربي الديمقراطي" أصبح حزبًا إرهابيًا بعض قيادييه موقوفين فيما رؤوسه الكبيرة "ملاحقون" وإن كان تهريبهم من البلاد قد تمّ بغطاء وعلم من الأجهزة الأمنية. شارع "سوريا" يخطّط "الحريري" لتحويليه شارعًا نموذجيًا على غرار "سوليدير". أما الشهداء والجرحى فأمرهم لا يعدو عن "فرق عملة" من الطبيعي أن يذهب في معاملات صيارفة الخارج المتحكّمين في الداخل.
علينا أن نصدّق أن الخطة الأمنية قد وصلت الى البقاع بعد طرابلس، الجيش انتشر في كامل عرسال، والغطاء قد رُفع عن بعض المطلوبين بعشرات ومئات مذكرات التوقيف في بريتال وحي الشراونة في بعلبك وسواها من قرى البقاع المحسوبة على "حزب الإرهاب المنظم"، وإن كان تمّ إمهال بعضهم لتمكينهم من الفرار من وجه العدالة.
علينا أن نصدق أن طبيعة الصراع في لبنان قد تبدّلت من صراع سياسي جذري بين 8 و14آذار الى صراع مطلبي معيشي نقابي بين المالكين القدامى والمستأجرين، وأصحاب المؤسسات والعاملين، وبين الدوائر الرسمية والموظفين، بين المدارس والمعلمين، بين الجامعة والاساتذة المتعاقدين، بين شركة الكهرباء والمستخدمين، صراع متطوعي الدفاع المدني المطالبين بالتثبيت، وصراع هيئة التنسيق النقابية المطالبة بسلسلة الرتب والرواتب، والصراع بين هؤلاء جميعًا ومجلس نواب أرعن في تشريعاته ومتسرّع في سنّ قوانينه ومنحاز الى حيتان ماله، عدد ساعات عمله هي الأقل مقارنة مع برلمانات العالم، كيف لا وقد تمّت مصادرة مفتاحه منذ 23 سنة من الثنائي الشيعي، ووُضعَ في جَيب رئيسه "المؤبّد" مكافأة له على إخضاع "حركته" للحزب الإيراني وتناسيه كل التصاريح الموثقة التي كشف فيها حقيقة الحزب و"مقاومته".
علينا أن نصدّق أن الجانب المعيشي والاجتماعي بات عليه مدار السياسة في لبنان وكأننا في بلد غربي متطور، وكأن لا انتخابات رئاسية دخلت مهلة استحقاقها، ولا حدود منتهكة يوميًا من مقاتلات ومدافع العدو الأسدي، ولا حزبًا إرهابيًا يجتاز الحدود اللبنانية لاحتلال بلد مجاور وقتل شعب يريد انتزاع حريّته من قلب وحش كاسر، ولا دولة تنحل تدريجًا لمصلحة دويلة ظلامية.
هي "الصحوات" تفعل فِعلها وتؤدّي مهمتها بإتقان تارة بحق وتارة بغير حق؛ نعم، "الصحوات" التي حذّر منها "حكيم ثورة الأرز" عندما رضي الحزب الإرهابي بتسليم أهم الوزارات الأمنية لـ"تيار المستقبل" كي يستثمر سنيّته المزعومة في إخماد البؤر المتوترة ذات الغالبية السنية تفاديًا أو إخفاءً للبعد الطائفي المذهبي من جهة أولى، ومن جهة ثانية كي يضعه الحزب في الواجهة لدى رفعه الغطاء عن بعض المجرمين والإرهابين المحضونين من بيئته والمتوارين فيها، وذلك تجنّبًا لأي صراع داخلي قد ينشأ أو دماء قد تراق بين مكونات البيئة الشيعية...
بالمختصر المفيد، لبنان رهين فريقين متصارعَين عميلَين لدولتَين أجنبيتَين. الفريقان لا يملكان من أمرَيهما شيئًا، يأتمران بأوامر الدولتين الوصيّتين عليهما أيًا كانت الأوامر ولو كانت الأثمان خيانة للعهود ونكثا بالوعود وانقلابا على "التحالفات" وطعنا للحلفاء والتفريط بدماء الشهداء... الفريق الأول عميل لإيران، يعلن عمالته ولا يخفيها، بل يجاهر بأعلى صوته أنه "يفتخر أن يكون جنديًا في حزب ولاية الفقيه". وفريق ثان عميل للسعودية، غير أنه يفضل ستر عمالته بشعار "لبنان أولاً" فيما السعودية لديه أولاً وآخرًا، وانقلاباته المفاجئة وطعناته القاتلة لـ"ثورة الأرز" منذ عام 2005 أقوى دليل على ذلك.
إذا عرفنا ذلك أدركنا أننا نعيش أمنًا مزيفًا واستقرارًا مؤقتًا لن يلبثا أن يتبخّرا عندما يأتي الأمر الخارجي بإعادة تشغيل محرّكات الخلاف من جديد، وبالتالي فلا مجال لتصديق كل ما يريدون منا تصديقه مما تقدّم، أما قنبلة المطالب المعيشية الدخانية فتمّ تفجيرها للتعمية والتشويش والتغطية على الاستحقاق الرئاسي تمهيدًا لتنصيب فخامة "الفراغ" رئيسًا للجمهورية حتى إشعار آخر.
أما "دعاة الاستقرار" ومحتكروا "الاعتدال" فهنيئًا لهم التخلّي عن منطق استكمال المواجهة السلمية المشرِّفة على كلفتها الأمنية الباهظة وإن انتهت بانهزام، وقبولهم بالتنازل المخزي بالرضوخ للحالة الميليشيوية مقابل العيش باستقرار زائف ممزوج بذل واستسلام.
التعليقات (0)