مواضيع اليوم

أمل دنقل .. الشامخ فوق أنقاض السقوط

حسن توفيق

2010-07-10 18:02:11

0

                     سيرة حياته لم تكتب بعد


             أمل دنقل.. الشامخ فوق أنقاض السقوط

                                بقلم : حسن توفيق

1 - في سجن الزمان والمكان


لا يتشكل الإنسان، أي إنسان، من الفراغ، وإنما يتشكل في زمان ومكان محددين،وفي إسارهما يواجه ما يواجه، ويتعرض لما يتعرض، ويتفاعل – سلبا أو إيجابا- مع ما حوله ومن حوله،وهذا ما يدفعني إلى الحديث عن الزمان والمكان اللذين عاش فيهما الشاعر الكبير أمل دنقل على امتداد سنوات عمره القصير.
لم تكن سنوات الستينيات من القرن العشرين الغارب سنوات فاترة باهتة الملامح على الصعيدين العربي والعالمي، وإنما كانت سنوات محتدمة وعاصفة. وكانت القاهرة – العاصمة العربية الكبرى – تمتلك قبل تلك السنوات وخلالها إرادة التحدي، وهي تقود – طواعية – جماهير الأمة العربية، وتواجه غوايات ودناءات القوى الأجنبية المتجبرة، متمثلة – على وجه التحديد – في الإمبراطورية الأمريكية الطامعة في أن ترث الأرض وما عليها، حيث بدأت – في السر وفي العلن – تخطط وتنفذ محاولات الالتفاف على حركات التحرر العالمي بصورة عامة، وعلى حركة التحرر العربي بزعامة جمال عبد الناصر، حيث أصبحت هذه الإمبراطورية الأمريكية أشبه بأفعى مرعبة ومتحفزة لابتلاع ما يحلو لها من فرائس وضحايا، بعضها يحاول أن يقاوم وبعضها يحاول أن يفر ناجيا بجلده، وبعضها لا يستطيع المقاومة ولا الفرار، فيستسلم للمصير المحتوم.
كان لإرادة التحدي قاموسها الحي في قلب كل إنسان عربي، حيث عاش الجميع أجواء التحفز المضاد المناقض لتحفز القوى الأجنبية المتجبرة ، وظلوا يتنفسون – بعمق – معاني "التحرر" و"الكرامة" و"العزة" و"الشموخ" وكان الإنسان العربي – أيا كان القطر الذي ينتمي إليه – يشعر وهو خارج الأرض العربية، وبالذات في أوروبا، بكل هذه المعاني المضيئة، لأنه يجد الآخرين يقابلونه ويتعاملون معه بتقدير واحترام، باعتباره واحدا من ملايين العرب الذين يتزعمهم "ناصر".
وفي تصوري أن أهم ما يميز سنوات الستينيات وما قبلها، عما تلاها من سنوات السبعينيات وما بعدها، أن الروح الجماعية كانت هي الغالبة، لدرجة أن ظهور أية ملامح للروح الفردية، على طريقة "أنا ومن بعدي الطوفان" كان يقابل بالاستهجان والنفور والازدراء، وبالطبع فإن أحدا لا يستطيع أن ينفي أن هناك مثقفين قد عزلوا أنفسهم عن إيقاعات الروح الجماعية، ولجأوا إلى تغييب وعيهم بصورة متعددة، وتبدو نماذج هؤلاء المثقفين واضحة وجلية في العوامة النيلية التي رصد ما كان يجري داخلها كاتبنا العملاق نجيب محفوظ في "ثرثرة على النيل".
مقابل هؤلاء، كان المثقفون الجادون والملتزمون، ومعظمهم ممن كانوا على يسار ثورة 23 يوليو 1952 المجيدة، يحاولون تعبئة الجماهير، كل بالصورة التي يراها، ويقفون موقف التأييد العاطفي من الثورة، كلما اتخذ الزعيم الخالد جمال عبد الناصر مواقف أكثر ثورية مما سبقها من مواقف، لدرجة أن الشيوعيين – على سبيل المثال – كانوا يهتفون بحياة عبد الناصر، وهم في الزنازين والمعتقلات، وحول هذه النقطة بالذات، كان للشاعر العظيم صلاح عبد الصبور تعليق ساخر، كرره مرارا في جلساته وبين أصدقائه، حيث كان يرى أن هؤلاء الشيوعيين ينطبق عليهم المثل الشعبي المصري "القط يحب خناقه"!
تألق الشاعر الكبير أمل دنقل خلال سنوات الستينيات المحتدمة والعاصفة، وكنت ألتقي معه في صباحات عديدة، وأسهر معه في ليال بلا حصر، وكان أبناء جيلنا من الشعراء العرب أبناء مصر يعيشون هذه الأجواء متأرجحين بين الهموم الجماعية الشاملة وطموحاتهم وأحلامهم وهمومهم وإحباطاتهم الفردية، لكنهم يتفاوتون – فيما بينهم – في هذا التأرجح الواعي والعقلاني عند عدد منهم، وفي هذا التأرجح المزاجي والانتقائي عند آخرين منهم. وحين أحاول هنا أن أحدد المقصود بأبناء جيل أمل دنقل، بصورة دقيقة أو أقرب إلى الدقة، أقول إنهم أولئك الذين ولدوا قبل الحرب العالمية الثانية بقليل، أوفي أثنائها أو بعدها بقليل أيضا، وهم الذين سمعوا بوعي أو دون وعي خلال سنوات طفولتهم عن مأساة اغتصاب فلسطين وإقامة دولة الكيان الصهيوني العنصري يوم 15 مايو سنة 1948، وهم الذين ظهروا بصورة متميزة عن الشعراء العرب من رواد حركة الشعر الحر في أعقاب كارثة نكسة يونيو – حزيران سنة 1967، وأقول هنا "نكسة" لا "هزيمة" لأن إرادة التحدي الوطنية، على المستويين الشعبي والرسمي في مصر وشقيقاتها العربيات لم تنكسر، على الرغم من كل ما جرى عسكريا على ساحات القتال.
حين أشير إلى الظهور المتميز للشعراء من أبناء جيل أمل دنقل، فهذا لا يعني إطلاقا أنهم قد ألغوا أو طمسوا ملامح رواد الشعر الحر، وإنما يعني أن هناك أصواتا جديدة أثبتت حضورها المتميز على الساحة إلى جانب أصوات الرواد، وبطبيعة الحال فإن الأصوات الجديدة لم تكن كلها في الواقع جديدة بمعنى الكلمة، فهناك من كانوا مجرد أصداء باهتة أو مكررة لأصوات الرواد الذين تفتح وعيهم السياسي والاجتماعي خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، وعلى سبيل المثال فإنه مع انتهاء تلك الحرب سنة 1945 كان عمر نازك الملائكة خمسا وعشرين سنة، وكذلك كان عمر نزار قباني، بينما كان كل من بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري في التاسعة عشرة من العمر، وكان عمر لميعة عباس عمارة ست عشرة سنة، وعمر صلاح عبد الصبور أربع عشرة سنة، ويمكننا أن نضيف اثنتين وعشرين سنة إلى أعمار هؤلاء عندما وقعت كارثة نكسة سنة 1967، وعلى سبيل المثال فإن أكبر هؤلاء، وهما نازك ونزار، كانا في السابعة والأربعين، بينما كان أصغرهم، وهو صلاح عبد الصبور، في السادسة والثلاثين.
لا تبدو المسافة الزمنية شاسعة بين أصغر شعراء جيل الرواد صلاح عبد الصبور وأكبر شعراء جيل أمل دنقل وهو فاروق شوشة، فالفارق بينهما في العمر خمس سنوات، وأشير هنا إلى أعمار بعض شعراء جيل أمل دنقل – جيل الستينيات عندما وقعت كارثة نكسة سنة 1967، فقد كان فاروق شوشة في الحادية والثلاثين من عمره، أما محمد إبراهيم أبو سنة ومحمد فتوح أحمد فقد كانا في الثلاثين، وكان سميح القاسم وفرج مكسيم في الثامنة والعشرين، أما سامي مهدي وعبد الستار سليم وغازي القصيبي فكانوا في السابعة والعشرين، في حين كان أمل دنقل ومعه محمود درويش وخليفة الوقيان وممدوح عدوان وسالم جبران ومحمد حماسة عبد اللطيف في السادسة والعشرين من العمر، بينما كان أحمد سويلم وحسب الشيخ جعفر وسعاد الصباح في الخامسة والعشرين، وكان أحمد درويش وحامد طاهر وحسن توفيق وسعد مصلوح وعزيزة كاتو وفؤاد طمان ومحمد السيد ندا ومحمد يوسف في الرابعة والعشرين، وكان محمد أبودومة ومريد البرغوثي في الثالثة والعشرين، أما وفاء وجدي ونصار عبد الله فقد كانا في الثانية والعشرين، كما كان في الحادية والعشرين من العمر كل من إسماعيل عقاب وآمال الزهاوي ودرويش الأسيوطي وعز الدين المناصرة وعلوي الهاشمي ومليكة العاصمي.
ولكي تتكامل جوانب الصورة، لابد من الإشارة إلى جيل لم ينل حظه من الدراسات النقدية، لأن أبناء هذا الجيل قد برزوا إلى الساحة قبل جيل رواد الشعر الحر بقليل، ومعظم هؤلاء قد تأثروا تأثرا واضحا بشعراء جماعة أبولو، وجاءت حركة الشعر الحر وما صاحبها من معارك نقدية جادة ومعارك صحفية سطحية لتسهم – دون قصد – في إبعاد الأضواء عن شعراء ذلك الجيل المظلوم، وأذكر منهم عبد الرحمن الخميسي وعبد القادر القط ويوسف خليف وكمال نشأت ومحمد الجيار وسعد درويش، إذ لم يظفر أي شاعر من هؤلاء بدراسة متعمقة تتناول عطاءه الشعري حتى يومنا هذا.
كان رواد حركة الشعر الحر في مقتبل الشباب عندما قامت الولايات المتحدة الأمريكية بأكبر الجرائم وأبشعها ضد الإنسانية، حيث ألقت طائرتان أمريكيتان قنبلتين ذريتين على كل من هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين يومي 6 و9 أغسطس سنة 1945، ولم يكن العالم بأسره قد عرف شيئا عن التأثير المرعب لهذا السلاح التدميري على الإنسان والطبيعة، وخمدت نيران الحرب العالمية الثانية، ليكتب كثيرون من رواد حركة الشعر الحر ضد السلاح الذري والنووي، باعتباره شرا لابد من تجنبه وتجنيب الإنسان آثار ويلاته الفاتكة.
وكان شعراء جيل الستينيات، جيل أمل دنقل، في مقتبل الشباب حين عاشوا بكل أعصابهم كارثة نكسة يونيو – حزيران 1967، وهذا يفسر سر كثرة القصائد التي كبتها أبناء هذا الجيل ومعهم جيل الرواد عن تلك الكارثة التي لم تكسر – كما قلت – إرادة التحدي الوطنية، وإن كانت قد كشفت اتساع الهوة بين القول والفعل العربيين، ومن أشهر قصائد الكارثة "هوامش على دفتر النكسة"، لنزار قباني من رواد حركة الشعر الحر، و"البكاء بين زرقاء اليمامة" لأبرز شعراء جيله أمل دنقل، وقصيدة لعز الدين المناصرة الذي كان يبدي حنقه على النقاد، وربما ما يزال، لأنهم لم يهتموا بإيضاح أن قصيدته أسبق في الكتابة من قصيدة أمل دنقل. وقد صورت هذه القصائد وسواها فداحة ما جرى بصورة حادة، لكنها – في نفس الوقت – أدخلتنا جميعا في نفق مظلم، تطلب تجاوزه وعبوره وقتا طويلا وثقيلا، وهو نفق "جلد الذات" الذي شارك فيه الجميع، وها هو أمل دنقل يفضح ما كان قد رأى بعيني زرقاء اليمامة ويكشف اتساع الهوة ما بين قول وفعل:
أيتها العرافة المقدسة
ماذا تفيد الكلمات البائسة؟
قلت لهم ما قلت عن قوافل الغبار
فاتهموا عينيك يا زرقاء بالبوار!
قلت لهم ما قلت عن مسيرة الأشجار
فاستضحكوا من وهمك الثرثار
وحين فوجئوا بحد السيف قايضوا بنا
والتمسوا النجاة والفرار
ونحن جرحى القلب، جرحى الروح والفم
لم يبق إلا الموت والحطام والدمار
وحدهم شعراء المقاومة الفلسطينية، وهم من أبناء جيل أمل دنقل، هم الذين لم يدخلوا نفق "جلد الذات" وهم وحدهم الذين طالبوا بسرعة إزاحة آثار الكارثة عن النفوس، مبشرين بطائر الرعد الذي لابد سيأتي، وهذا ما نتلمسه بوضوح – في قصائد توفيق زياد وسميح القاسم ومحمود درويش، وها هو محمود درويش يقرأ ميلاد النهار:
إنني أقرأ في عينيك ميلاد النهار
إنني أقرأ أسرار العواصف
لم تشيخي.. لم تخوني.. لم تموتي
إنما غيرت ألوان المعاطف
عندما انهار الأحباء الكبار
وامتشقنا لملاقاة البنادق
باقة من أغنيات وزنابق
ويبدو سميح القاسم أكثر قدرة على التحدي وأكثر صلابة وهو يؤكد:
ضربة البرق التي تنقض في عرض الطريق
تغمر العابر بالضوء، ولو كان الحريق
يذكر القارئ أو لا يذكر القارئ..
لكني، لكي يفهم كل الناس ما قلت، أعيد:
نحن في الخامس من شهر حزيران ولدنا من جديد


2 - أمل.. سيرة حياة لم تكتب بعد


إذا كان أحمد شوقي قد أكد أن "الناس صنفان: موتى في حياتهم.. وآخرون ببطن الأرض أحياء" وإذا كان – من باب المباهاة بالشعر – قد جعل الحبيبة تقول "أنتم الناس أيها الشعراء" فإني أتصور أن الشعراء أنفسهم ينقسمون إلى صنفين، أولهما صنف يقترب في أسلوب حياته اليومية من الأسلوب المعروف والمألوف الذي ينتهجه الموظفون في الدوائر الحكومية، فلكل شئ عند كل منهم وقت، ولا ينبغي أبدا أن يتغير الإيقاع المكرر والثابت، فللذهاب إلى العمل وقت، وللانصراف منه وقت، وللجلسة مع الزوجة والأولاد وقت، وللجلوس في المقهى لبعض الوقت مع من على شاكلته وقت.
وبالطبع فإن الإبداع الشعري لهذا الصنف من الشعراء يتأثر بأسلوب حياتهم، وتتحول القصيدة عند كثيرين منهم إلى نوع من أداء الواجب الوظيفي، وقد كان أمل دنقل يتندر أو يتهكم أو يسخر باستمرار من شعراء هذا الصنف، ويحددهم بالأسماء، وأحيانا يعلن رأيه فيهم وفي قصائدهم أمامهم، دون مراعاة للمجاملات الاجتماعية التقليدية، ودون اهتمام بأن يغضب هؤلاء أو أن تحمر وجوههم مما يوجهه إليهم من تندر أو تهكم أو سخرية.
الصنف الثاني من الشعراء، وفي صدارته أمل دنقل، يحب أن يعيش الحياة – كما يقال – بالطول والعرض والعمق، وإذا كان النهار ملكا للموظفين في الدوائر الحكومية، ومشاعا لكل الذين يكدحون تحت الشمس، فإن الليل – بكل ما فيه وما يحويه – هو المملكة المقدسة التي يتجول تحت سمائها المقمرة أو الشاحبة أو الغائمة كل الشعراء الذين ينتمون إلى هذا الصنف، والذين ينقسمون بدورهم إلى قسمين: قسم الشعراء المستقرين ممن يملكون أو يستأجرون شققا فاخرة أو عادية، وهؤلاء كانوا يقننون علاقتهم مع الليل، فقد تمتد سهراتهم مع أصدقائهم حتى الصباح، وقد ينغلقون على أنفسهم، ولا يسمحون لأصدقائهم باقتحام شققهم وانتزاعهم من خصوصياتهم، أما القسم الثاني فيندرج فيه من يتوحدون مع الليل ويندمجون في أجوائه، وهم يتنقلون من مكان إلى آخر، بل إلى عدة أماكن أخرى خلال الليلة الواحدة، وبطبيعة الحال فإن هؤلاء لم يكونوا مستقرين، ولم تكن في جيوبهم مفاتيح شقق، يدخلونها أو يخرجون منها، كما يحلو لهم، ومن الطبيعي أن تكون حياة هؤلاء أقرب إلى حياة الشعراء الصعاليك خلال العصر الذي يسمونه بالجاهلي، رغم بعد المسافة الزمنية بين هؤلاء وأولئك، فقد كان الشعراء الصعاليك القدامى يأتنسون بوحوش الصحراء، وينفرون – في نفس الوقت – من الناس العاديين المنتظمين في دوائر العلاقات الاجتماعية المقننة وفقا لقانون القبيلة، حيث نسمع صوت أحدهم وهو يؤكد "عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى – وصوت إنسان، فكدت أطير" كما نسمع صوت شاعر آخر منهم وهو يقول لرفيقته "ألم تعلمي أن الصعاليك نومهم – قليل إذا نام الخلي المسالم؟" فالنوم في الليل حكر على المستقرين والمنتظمين في دوائر العلاقات الاجتماعية المقننة، ونقفز من المسافة الزمنية الشاسعة، لنعود إلى أمل دنقل الذي رأى في الليل، كيف "تثب القطة من داخل صندوق الفضلات":
أطرق باب صديقي في منتصف الليل
(تثب القطة من داخل صندوق الفضلات)
كل الأبواب العلوية والسفلية تفتح إلا بابه
وأنا أطرق.. أطرق
حتى تصبح قبضتي المحمومة خفاشا يتعلق في بندول!


الليل مملكة مقدسة، يتجول في أرجائها أمل دنقل، وكنت معه أتجول على امتداد سنوات، ولعل أجمل إهداء خطي منه هو ما كتبه لي عندما أهداني "العهد الآتي" حيث كتب "العزيز حسن توفيق شاعرا وصديقا وصعلوكا عظيما مع تقديري ومحبتي.." وأعترف بأني أشعر بمزيج من النشوة والحسرة حين يذكرني هذا الإهداء بزمان الصعلكة في القاهرة، بمجرد أن يطل الليل، وأعود الآن بحنين دافق إلى شوارع القاهرة، أعود مع أمل دنقل:


الشوارع في آخر الليل.. آه
أرامل متشحات ينهنهن في عتبات القبور – البيوت
قطرة.. قطرة.. تتساقط أدمعهن مصابيح ذابلة
تتشبث في وجنة الليل.. ثم تموت
الشوارع في آخر الليل.. آه
خيوط من العنكبوت
والمصابيح – تلك الفراشات – عالقة في مخالبها
...................
الشوارع في آخر الليل.. آه
أفاع تنام على راحة القمر الأبدي الصموت


هل كنت وحدي الذي تجول في الليل مع أمل دنقل على امتداد سنوات؟.. بالطبع لا.. فهناك أصدقاء عديدون كانوا يتجولون معه، ولكن لماذا أطرح هذا السؤال؟.. أطرحه لأقول إنه ليس للشاعر الصعلوك الذي يعيش الحياة بعمق عالم واحد محدد، يمكن أن يحصره أحد في إطاره، وإنما هناك عوالم متعددة لمثل هذا الشاعر، وقد يعرف بعضنا عالما أو عالمين من هذه العوالم، لكنه لا يستطيع أن يزعم بأنه يعرفها جميعها.
هناك كتاب يكتبون عن الشعراء الذين عرفوهم وصادقوهم خلال مرحلة معينة، ومع هذا فإنهم يكتبون عنهم وكأنهم قد عرفوا معرفة اليقين كل شئ يتعلق بهؤلاء الشعراء على امتداد حياتهم بأسرها، وليس خلال تلك المرحلة المعينة التي ربطتهم خلالها أواصر صداقة. وأعترف هنا بأن أول من نبهني إلى هذه النقطة هو أستاذي فاروق خورشيد، فقد كان يتحدث عن أخيه وتوأمه الروحي صلاح عبد الصبور الذي كان قد تغيب عن سهرتين متتاليتين. وهنا قال فاروق خورشيد لكي يحسم التساؤلات: صلاح ليس ملكا لنا وحدنا.. نحن هنا لا نمثل سوى عالم واحد من عوالم متعددة لصلاح عبد الصبور، وقد نسمع عن بعض هذه العوالم الأخرى، لكننا – بالتأكيد – لا نعرفها.
واهمون أو إنهم يتباهون ويفاخرون هم الكتاب الذين يتصورون أنهم يعرفون علم اليقين كل كبيرة أو صغيرة في حياة من عرفوهم وصادقوهم من الشعراء الكبار الذين عاشوا حياتهم بعمق، ولم يكن لهم عالم واحد محدد، وإنما مجموعة من العوالم البادية أو الخافية، وأعتقد أنه لا أحد من هؤلاء الكتاب يمكنه أن يزعم أنه قد استطاع أن يكتب سيرة حياة الشاعر الذي صادقه بصورة شاملة ومتكاملة، ما دام لم يعرف – بصورة مباشرة – غير عالم معين من عوالم هذا الشاعر، وخلال مرحلة معينة.
على ضوء هذا فإن سيرة حياة الشاعر لا يمكن أن تكتب بشكل دقيق، إلا من خلال جمع كل ما كتب عنه من جانب من عرفوه وصادقوه، وبحث أوجه الاتفاق أو الافتراق فيما بين هذه الكتابات، وتحديد ما هو صادق مما هو ملفق.
إذا طبقنا هذا على سيرة حياة أمل دنقل، أستطيع القول بكل وضوح إن هذه السيرة لم تكتب بعد حتى الآن، أما ما كتبه أصدقاؤه ومحبوه، فهو مجرد شهادات، بعضه واف وبعضه مبتور، وبعضها ملئ بزهو الكاتب بنفسه من خلال تصوره أنه الوحيد الذي عرف وصادق أمل دنقل، دون أن يدرك أنه قد عرفه وصادقه خلال مرحلة معينة وليس على امتداد كل مراحل حياته.
هناك من عرفوا أمل دنقل خلال طفولته وسنوات صباه في صعيد مصر، ولكن هؤلاء لم يظلوا على تواصل حميم معه بعد غياب زمان الطفولة والصبا وبعد انتقال أمل دنقل من الصعيد إلى كل من القاهرة والاسكندرية والسويس.
وهناك من عرفوا أمل دنقل عن قرب وبصورة حميمة خلال سنوات نضجه الشعري في مطالع الستينيات من القرن العشرين، ولكنهم لم يعرفوه – لأسباب مختلفة – خلال فترة مرضه القاسي، وهناك من توثقت صلتهم معه خلال فترة المرض وحدها، ولم تكن صلتهم معه عميقة قبل تلك الفترة.
كل هؤلاء يمثلون حلقات تتطلب أن تتكامل، لكي تصبح بحق سيرة حياة متكاملة لأمل دنقل، ويأتي السؤال الصعب: من الذي يمكنه أن يقوم بهذا العمل؟ واحد ممن عرفوا أمل؟ أم مجموعة منهم؟ أم واحد أم مجموعة من بين الذين لم يعرفوه على الإطلاق، حيث يعتمد هؤلاء على الكتابات – الشهادات التي كتبها من عرفوه وصادقوه؟
تبقى ملاحظة بشأن الكتابات – الشهادات، حيث يبدو أمل دنقل من خلالها معزولا أو مفصولا بصورة متعسفة عن المناخ الشعري الذي كان يتنفس فيه، كما أن هذه الكتابات – الشهادات لم تحاول، في معظمها، أن تربط بين أمل دنقل وشعراء جيله، وهذا ما يجعله يبدو أشبه بنبات بري وحيد في صحراء.
وفيما يتعلق ببعض الكتابات – الشهادات، أود أن أشيد بالصدق الذي تجلى فيما كتبه الدكتور سلامة آدم، وهو أحد أصدقاء أمل دنقل خلال مرحلة الطفولة والصبا، كما أود أن أعيد الإشادة بما كتبته الكاتبة عبلة الرويني على امتداد صفحات "الجنوبي" الذي كرسته لتناول ما عرفته من بعيد أو ما عايشته عن قرب في حياة زوجها أمل دنقل.
وأتصور أنه من المهم أن نتعرف على أوجه الاتفاق أو الافتراق فيما يتعلق بليالي القاهرة كما عرفها أمل دنقل، وليس إبراهيم ناجي بطبيعة الحال، وذلك من خلال ماكتبه أحمد عبد المعطي حجازي في كتابه "الشعر رفيقي" وماكتبه الكاتب الكبير الدكتور جابر عصفور في كتابه "ذاكرة الشعر" وفي هذا السياق، يهمني أن أشير إلى أن أمل دنقل خلال جولاته الليلية كان يفضل أن تكون تلك الجولات بصحبة صديق واحد أو صديقين، وليس بصحبة حشد من الأصدقاء، ومع وجود صديق واحد يختاره أمل في جولاته الليلية كان يبدو مندمجا ومنسجما بصورة أكبر، وربما يرجع هذا إلى أنه كان يريد أن يزيح عن نفسه الإحساس بالوحشة في الليل من خلال الاندماج مع هذا الصديق أو ذاك، ومن باب الوفاء لذكرى شاعرين من شعراء الجيل الذي أسميته بالجيل المظلوم من قبل النقاد، وهما محمد الجيار وسعد درويش، لابد أن أشير إلى روابط الصداقة العميقة التي ربطت كلا منهما مع أمل دنقل، على الرغم من اختلافهما عنه في أسلوب التعامل مع الحياة، لدرجة أن ماكان يثير دهشة محمد الجيار أو حب الاستطلاع عند سعد درويش كان يدفع أمل دنقل إلى السخرية والتهكم خلال الليل وأمام كل منهما دون مداراة أو مواراة، وفي المقابل فإن ما كان يتوقف عنده أمل دنقل متأملا كان يستدعي – في نفس الوقت – نظرات مشبعة بالضيق أو حتى بالتأفف، لكن الليل بمملكته المقدسة كان الصديق المشترك للجميع، حيث يجعلهم مقتربين ومغتربين في آن واحد تحت سمائه. ولعل من الطريف أن أذكر واقعة محددة، حين هاجم الكاتب الكبير رجاء النقاش أمل دنقل الذي كان قد نشر قصيدته "سفر أ.د" حيث كتب رجاء النقاش مقالا في مجلة "المصور" بعنوان "أبيات حادة للشاعر أمل دنقل" فقد أبدى سعد درويش دهشته من عنوان القصيدة، ورأى – مداعبا وساخرا – أنه لم يبق أمام أمل سوى أن يعتنق المسيحية.. أما محمد الجيار فقد رأى أن ما كتبه رجاء النقاش ليس هجوما على أمل، وإنما هو تمجيد شديد له، وقال لي وهو يشير إلى عنوان المقال في "المصور".. أهذا معقول؟.. انظر إلى اسم أمل وهو مكتوب بهذا البنط العريض.. إن الاسم يكاد يضئ، كأنه لافتة ضوئية على أحد المحلات الكبيرة.. لا.. لا.. هذا المقال ليس ضد أمل.. وفي الليلة التالية اصطحبني أمل إلى الجيار بعد أن علم مني بتلك الواقعة، وقال له بصوت مرتفع: يا جيار.. سأطلب من رجاء النقاش أن يهاجمك مثلما هاجمني، فما كان من محمد الجيار إلا أن شعت من عينيه نظرات ضراعة، وهو يقول: ياريت!.. ياريت!..


3 - لمحات خاطفة من حياة عاصفة


أعتز كثيرا بالصداقات الجميلة التي جمعتني مع كثيرين من شعرائنا العرب من أبناء مصر وأبناء سواها من شقيقاتها العربيات. ومن الطبيعي أن تتفاوت هذه الصداقات من حيث عمقها وطبيعتها، فمن هؤلاء من تعلمت منهم الكثير وأدين لهم بالفضل، وأذكر في مقدمة هؤلاء الشاعر الدكتور كمال نشأت الذي كان أستاذي المباشر الأول، كما أذكر الإنسان النادر المثال أستاذي صلاح عبد الصبور، ومن هؤلاء من هم من أبناء جيلي، وأذكر هنا أمل دنقل ومحمد إبراهيم أبو سنة وفاروق شوشة وبدر توفيق وأحمد سويلم ووفاء وجدي وعزيزة كاتو وفؤاد طمان وآخرين كثيرين، ومن هؤلاء، وهم القلة من الأصدقاء، من ينتمون إلى الجيل اللاحق، ومنهم حلمي سالم ورفعت سلام وأحمد الشهاوي.
ولست أنوي الآن أن أكتب عما ربطني بأمل دنقل، وكيف انجذبت إليه، وكيف تبدو انطباعاتي الشخصية عن طبيعة شخصيته وعن حياتنا المشتركة تحت سقف واحد، وإلا لظللت أكتب وأكتب دون أن أحس أني قد فرغت مما أود أن أكتبه، ولهذا فإني سأعرض هنا بعض اللمحات الخاطفة من حياتنا المشتركة العاصفة.
قال أمل دنقل وكتب عن علاقته بأحمد عبد المعطي حجازي، معتبرا نفسه تلميذا له، وفسر الدكتور جابر عصفور – فيما بعد – سر الروابط العميقة بين أمل دنقل وأحمد عبد المعطي حجازي. وفيما يتعلق بي فإني أحببت صلاح عبد الصبور بكل صدق وعمق، ومازلت أحبه ربما أعمق من ذي قبل، وهنا أود أن أشير إلى إشاعات عديدة كانت وربما ما زالت تتردد ، وهي أن صلاح عبد الصبور لم يكن يحب أمل دنقل ، فالواقع أن هذه الإشاعات كاذبة، ومما يدل على مساندة صلاح عبد الصبور لأمل دنقل حكاية نشر ديوان "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" فقد تراجع نزار قباني عن وعده لأمل بأن ينشر ديوانه ضمن إصدارات "منشورات نزار قباني"، وهنا بادر صلاح عبد الصبور – بكل حب – لكي يوصي الدكتور سهيل إدريس بأن ينشر الديوان ضمن إصدارات "دار الآداب" وهذا ما كان بالفعل، وحين صدر الديوان وتسلم أمل مجموعة من نسخ الهدايا أسرع إلى صلاح عبد الصبور لكي يهديه نسخة وعليها إهداء بخط يده "إلى الأستاذ صلاح عبد الصبور.. لولاه لضعت.." وأقول هنا إن هذه النسخة المهداة لصلاح عبد الصبور موجودة ضمن مكتبتي.
روى لي أمل دنقل ذات مرة أنه قد دعي إلى وليمة غداء في بيت صلاح عبد الصبور، ضمن مجموعة من المدعوين والمدعوات، وأنه سمع بنفسه السيدة سميحة غالب وهي تهمس في أذن إحدى المدعوات: "هذا أمل دنقل.. تلميذ صلاح".. ووقتها قلت لأمل: وما ذنب صلاح عبد الصبور في هذا الأمر، إذا كان هو شخصيا يؤكد شفاهة وكتابة أنه ليس له تلاميذ؟ وأبدى أمل اقتناعه بما قلت.
اتفقنا – أمل وأنا – أن نقيم في سكن مشترك، وهذا ما كان، حيث استأجرنا شقة مفروشة متواضعة في البيت رقم 4 بشارع عيسى حمدي سابقا – نجيب محفوظ الآن في حي العجوزة، ومع فرحتنا بأنا أصبحنا نقيم في شقة، أهملنا بعض الوقت زياراتنا الليلية المعتادة لمحمد الجيار الذي كان يقيم في شقة جميلة، تبدو أجواؤها رومانسية، في شارع الفريق عبود، والقريب جدا من شارع عيسى حمدي – نجيب محفوظ، فأخذ الجيار يتهمنا بالعقوق وعدم الوفاء، بينما أخذ سعد درويش يتندر علينا إلى أن عدنا من جديد لنلتقي في شقة محمد الجيار الذي طلب من أمل أن يسمعه إحدى قصائده الجديدة، وكانت قصيدة حادة، فعقد الجيار جبينه علامة على الدهشة، ووجه سؤالا غريبا، يشي بمدى رومانسيته، ومدى ابتعاده عن الواقع السياسي، حيث قال:"هي الموضة إيه دلوقتي يا أمل؟.. نمدح الحكومة.. ولا نهاجم الحكومة؟.. على العموم أنا أيضا كتبت قصيدة أهاجم فيها الحكومة!".. وقد ظللنا جميعا نطلق الضحكات المدوية بعد هذا السؤال، مما دفع الجيار إلى التهديد بإلغاء طعام العشاء إذا لم نتوقف عن الضحك، وسكتنا نحن بالطبع، لكي نلتهم ما لذ وطاب من يدي الجيار.
أشار كثيرون ممن كتبوا عن أمل دنقل إلى حكاية السكن المشترك، ومن هؤلاء الدكتور عبد العزيز المقالح والأخت الراحلة الكريمة عايدة الشريف، وأود الإشارة هنا إلى أنني لست الوحيد الذي أقام مع أمل في شقة مفروشة، فقد أقام أمل مع عدة أصدقاء شعراء لبعض الوقت.
ما يهمني أن أقوله إن صورة أمل دنقل داخل البيت تبدو مختلفة، بل مغايرة لصورته في الخارج، إذ أنه لم يكن بوهيميا على الإطلاق داخل البيت، وكان يرتب غرفته وينظفها على أجمل وجه، بل إنه كان في بعض الأحيان يؤنبني إذا لم يجد غرفتي مرتبة على الوجه الأمثل، كما أنه كان يتعاون معي في الأمور المنزلية كافة، وكان صديقنا الجميل المشترك نصار عبد الله ينطلق لزيارتنا بانتظام، وبمجرد قدومه كان أمل ينبهني أن نصار لم يأت معه بـ"زيارة" أي كيس فواكه، وهنا نصر – أمل وأنا – على ضرورة خروج نصار مرة ثانية ليشتري الفاكهة التي نحددها له، وبعد الحفاوة تبدأ قراءات أي منا لما لديه من جديد، وأذكر أن أمل دنقل قد طالبني بضرورة قراءة محمد الماغوط قراءة متأنية لا متعجلة، ويا ليته ما فعل، لأني اكتشفت أنه قد تأثر به تأثرا واضحا في إحدى قصائده، وفيما بعد كتب رجاء النقاش عن هذه القضية. وإلى جانب زيارات د. نصار عبد الله لنا، كان لكل منا أصدقاء مشتركون، وأصدقاء غير مشتركين، فالذين يميلون إلى الرومانسية بشكل واضح لم يكونوا يتآلفون مع أمل، ومن ناحيتي فإني لم أكن أندمج مع الذين يميلون إلى الانتقاد الحاد.
كان أمل يستجيب للنقد الموجه إلى شعره، إذا أحس أن من ينقدونه يصدرون في نقدهم عن نيات حسنة وطيبة، وأتذكر أن كلا من سعد درويش ومحمد الجيار ظلا يتهكمان على سطر شعري ورد في إحدى قصائده التي كان قد نشرها في مجلة "المجلة" في ظل رئاسة أستاذنا يحيى حقي لتحريرها، وهذا السطر هو:
أبول في الحفرة
وفيما بعد، حذف أمل هذا السطر عندما ضم تلك القصيدة إلى ديوانه الثاني "تعليق على ما حدث".
اشتملت إحدى قصائد أمل على تضمين لسطر شعري من قصيدة للشاعر عبد المنعم عواد يوسف، وعلى الرغم من أن أمل قد وضع السطر ضمن قوسين، فإن عبد المنعم عواد يوسف ظل يتحدث مرارا عن تضمين أمل لأحد سطوره الشعرية الشهيرة، وهو:
وكما يموت الناس مات
وقرر أمل أن يحذف هذا السطر تماما من قصيدته، عندما صدر ديوانه الأول، وقال لي: يستطيع صديقك عبد المنعم أن يستريح الآن!
في أمسية شعرية أقيمت بدار الأدباء خلال نوفمبر أو ديسمبر 1974 على ما أذكر، وكانت أمسية مخصصة لتأبين عميد الأدب العربي طه حسين، ألقى أمل دنقل قصيدته العمودية "لا أبكيه" وألقيت أنا قصيدتي "الفارس الذي رحل" وقد تضمنت انتقادات حادة وواضحة للبهلوانيات السياسية التي انتهجها الرجل الذي حكم مصر بعد غياب الزعيم جمال عبد الناصر، وكان من بين حضور الأمسية يوسف السباعي، وكان وقتها وزيرا للثقافة، وأستاذتي الجليلة الدكتورة سهير القلماوي، وقد انسحب الوزير غاضبا احتجاجا على ما تضمنته قصيدتي، بينما وبختني أستاذتي، وتقبلت توبيخها دون أن أرد ولو بحرف واحد، ولكني فوجئت بأمل دنقل وملك عبد العزيز يشدان من أزري، بل إن أمل أخذ يشيد بقصيدتي أمام الحاضرين الذين تجمعوا حولنا عند مدخل "دار الأدباء".
وإذا كان من الممكن اعتبار قصيدة "لا أبكيه" لأمل وقصيدتي "الفارس الذي رحل" أقرب إلى الشعر السياسي، فإن هناك قصائد عاطفية لأمل ولي، أما الحبيبة فقد كانت واحدة، ولست أود أن أشير إليها في هذا المقام، خصوصا وأني ما زلت أعتز بصداقتها الطويلة، ولكني أود الإشارة إلى إحدى الليالي التي عاد فيها أمل إلى الشقة المفروشة المشتركة، وفتح الباب ليدخل، وقد بدا حزينا وثملا في آن واحد، وقال لي، وكان معي الصديق فتحي عبد الحافظ: "لقد انتهت الحكاية التي تعرفها".. ودون مقدمات أخرج أمل من جيب الجاكيت أوراقا، وجلس ليقرأ قصيدة جديدة.
- كأسك!..
- حان موعد الإغلاق
- لم تبق إلا قطرة أخيرة
- كأسك!.. لن تعيدها الأشواق


إذا كانت قصيدة "الكعكة الحجرية" لأمل قد تسببت في إغلاق مجلة "سنابل" وهي – كما نعرف – قصيدة سياسية، فإن القصيدة العاطفية التي أوردت خاتمتها، وهي بعنوان "فصل من قصة حب" كانت قد تسببت في حرج بالغ لرئيس تحرير مجلة "الإذاعة والتلفزيون" – سعيد عثمان وقتها – لأن هذه المجلة يفترض فيها أنها حكومية، وأنها لابد أن تتسم بالوقار، ومع هذا فإنها نشرت قصيدة أمل التي يقول في بداياتها:
لها حقيبة مدلاة ، وشعر غجري
(عرفت عنها القصص الكثيرة)
على أريكة القطار
ضاجعها اثنان
وخلف ساتر الغارات في الميدان.. في الظهيرة
وضاجعتها امرأة على البلاج الذهبي
وجسمها الخارج من محارة البحر مندى باللآلئ الصغيرة


أشدت وما زلت إلى اليوم أشيد بأمل – الإنسان وأمل – الشاعر، لكني أذكر أني قد هاجمته بقدر من القسوة على صفحات مجلة"الإذاعة والتلفزيون" بعد أن أهداني ديوان "مقتل القمر" فقد اعتبرت صدوره نكسة شعرية، لكن أمل لم يغضب على الإطلاق، بل إنه دعاني إلى الغداء في مقهى ريش، وتناقشنا أثناء الطعام، حيث أكدت له أن "مقتل القمر" كان لابد أن تتصدره مقدمة نثرية، تبرر صدوره متأخرا، رغم أنه يضم قصائد مبكرة، وربما لا يعلم كثيرون أن هذا الديوان قد ترجم – فيما بعد – إلى اللغة الإسبانية، حيث قام بترجمة قصائده المستعرب الجليل الدكتور بدرو مارتينيث مونتابث وشاركته في ترجمة بعض القصائد تلميذته الدكتورة كارمن رويث برافو، وإني أعتز بأن مكتبتي تضم نسخة من "مقتل القمر" بالإسبانية، رغم أني لا أعرف منها سوى كلمات التحية في اللقاء وفي الوداع!
حين زرت أمل في المستشفى بصحبة د. علوي الهاشمي سنة 1983 نسيت أن آتي له معي بنسخة من ديوانه الذي صدر في ليبيا سنة 1978 وليس سنة 1974، وهو يضم قصائد مختارة وعنوانه "أحاديث في غرفة مغلقة" وقد عاتبني أمل على هذا النسيان، فوعدته بأن أرسل له تلك النسخة، لكن هذا ما لم يحدث ولن يحدث، لأن أمل – الجسد كان قد غاب بعد زيارتي له بأشهر قلائل.
قد لا يعلم كثيرون أن لأمل دنقل قصيدة منشورة سنة 1962 بعنوان "قالت" وهي قصيدة من مقطوعتين متقابلتين أو متضادتين، وما تزال هذه القصيدة غير موجودة ضمن أعماله الشعرية الكاملة، وأعتقد أن من واجبي أن أقدم نصها في ذكراه الحية والمتجددة، مع مراعاة أنها من القصائد المبكرة، وإن كانت تحمل في ثناياها بذور التضاد والتقابل التي نراها بصورة ناضجة ورائعة في روائع أمثل.
قالت: تعال إلي.. واصعد ذلك الدرج الصغير

قلت: الحياة تغلني.. والخطو مضني لا يسير

مهما بلغت.. فلست أبلغ ما بلغت من المسير

درج صغير.. غير أن طريقه.. للامصير

فدعى مكاني للأسي.. ودعي مكانك في الحبور

فالعمر أقصر من طموحي.. والأماني لن تموت


قالت: سأهبط، قلت: ذاك سدى إن تنزلي لي

قالت: سأهبط، قلت: دربك لولبي المستحيل

ما نحن ملتقيان.. رغم توحد الأمل الظليل

.. نزلت تدق على السكون كقلب ناقوس ثقيل

وعيوننا متشابكات في أسى الماضي الطويل

تخطو إلي.. وخطوها ما ضل يوما عن سبيلي

وبكى العناق وأجهشت في ديرنا نار الصموت

قبل أن أتوجه للمرة الأولى إلى قطر للعمل في جريدة "الراية" ابتداء من 6 أبريل سنة 1979 كان لي لقاء مطول مع أمل، وقد ظللنا نتمشى في شوارع القاهرة دون أن نشعر بالإرهاق، وحين وصلنا إلى شارع نوبار أمسك أمل ذراعي، وأخذ يقرأ من الذاكرة رائعته الخالدة "لا تصالح" وأخذت قشعريرة النشوة بالشعر الساحر تسري في وجداني وأنا أستمع إلى هذه القصيدة التي لم تكن قد اكتملت تماما، فطلبت منه أن يسمعني إياها مرة ثانية، وهنا اشترط علي أن "أرشوه" بكوب من الشاي، وهكذا انطلقنا إلى مقهى في ميدان السيدة زينب. وخلال سنة 1984 أهداني أحد أصدقائي اليمنيين شريط كاسيت، وفيه يلقي أمل "لا تصالح" في بيروت احتفالا بالذكرى السادسة عشرة لانطلاق الثورة الفلسطينية، ويضم الشريط قصيدة لسعدي يوسف وقصيدة "بيروت" لمحمود درويش.
الكتابة عن صديق رائع وشاعر كبير أمر مرهق وممتع في آن واحد، وقد آن لي أن أتوقف حتى لا أطيل أكثر مما أطلت، ولكني لن أبتعد عن أمل، بل سأشرع حالا في الاستماع إلى "لا تصالح" بصوته:


لا تصالح.. ولو منحوك الذهب
أترى.. حين أفقأ عينيك..
ثم أثبت جوهرتين مكانهما
هل ترى؟
هي أشياء لا تشترى

 

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !