مواضيع اليوم

أمغاص التيهان

jamaleddine elbouazzaoui

2010-03-26 14:28:54

0

أكيد أن كل إنسان عاش في حياته بعض أحداث و حالات التيه و الضياع والاختفاء بشكل من الأشكال وبعامل من العوامل. الأمر الذي جعله يتمثل معنى التيه ومرارة الضياع التي عاش روائعها من داخل تجارب الذات..والتيهان يأخذ عدة مظاهر بعضها بسيط و آخرها معقد. فمن الشكل البسيط مثلا تيهان إنسان في شوارع مدينة غير مدينته، ومن الشكل الثاني تيهان فكر أصيل في مدينته وهذه من أكبر تجليات التيه الذي يصل أوجه درجة الاغتراب والاستلاب والجنون. ذلك أن الفكر هو ضابط الجسد وحافظ الهوية من براثن النسيان وأعمال الزمن و فواعل الاضطهاد. فبصلابة الفكر / الجوهر تصون الذات الإنسانية أصولها وعراقتها وخصوصيتها داخل عوالم تسيج فيها روابط التواصل ولانفتاح و التسامح و الالتقاء مع ذوات أخرى. وذلك إيمانا من كل طرف بمبدأ الاختلاف كضرورة لاكتمال الإنسانية في بعدها الكوني.إلا أن كل هذه الغايات الإنسانية الكونية لا يمكن لها أن تتحقق إلا باحتفاظ كل إنسان و مجتمع وفكر بما يميزه كتفرد وجودي قوي وواعي بمحتواه الخاص (الخصوصيات الفكرية و الاجتماعية) وذلك حفظا له من التيه.

من هذا المنطلق يحق لنا أن نحيي الفكر الأمازيغي الذي استطاع رغم قرون التغريب من أن يصمد ضد محاولات التقبير و التجهيض التي استهدفت إفراغه من وجوده الأصلي الأصيل وتمليئه بفكر دخيل يتوخى تذويبه في الفكر العام ليتخلى بموجب ذلك عن العيش بضمير الأنا وينصهر في حقل العام "الناس " وذلك محاولة من أصحاب النزعة التمركزية الذاتوية المغالية في جعل المركز الأصلي هامشا وجعل الهامش الدخيل مركزا.

لقد أدرك العقل الأمازيغي أن العيش والحياة في العراء وعلى أشواك جبال الريف أشرف من العيش في سهول الورد,متوسدا بذلك عتمات الإقصاء و التجويع وخيبات الزمن وألغام التاريخ. مما مكنه من تحفيظ كل هذا المجد والبسالة في فنون و آداب و رسوم وتماثيل وعادات صانت أرشيف الحضارة الأمازيغية العريقة...وحفظت امتداده ودعمت إرادته للحياة ليحتفل اليوم بالسنة الجديدة 2960 التي تؤرخ لأجمل انتصار حكيم و عادل في تاريخ البشرية لنصرة قضايا الحق و الشرف والهوية والإرادة.

إن قراءتنا لتاريخ العقل الأمازيغي في بعدي السيرورة و الصيرورة تقودنا إلى التأمل في واقع المجتمع الامازيغي من حيث المنتوج الثقافي المادي و الغير المادي الذي هو انعكاس لماهية العقل الأمازيغي المطلق في مجاله الخاص و النسبي في بقية المجالات الفكرية الكونية. ومن خلال هذه الرؤية الترابطية للفكر و الواقع في الحقل الأمازيغي تتعزز الهوية الذاتية الأمازيغية وتتقوى حصانتها الوجودية وتحضر بشكل نووي في تشكيل الهوية النحنية للمجتمع الشمال الإفريقي..

 

و لفهم الديناميك الكمي و الكيفي للعقل الأمازيغي الذي قاوم الصمت القاتل وأبان عن كفاياته وقدراته العلمية و الإبداعية لا بد من استحضار بعض مظاهر مجده في مجالات المجتمع و الفن و العلم.و التي يمكن تبيان بعضها في ما يلي:

- على المستوى الاجتماعي أبدع العقل الأمازيغي ترسانة من القوانين العرفية لتنظيم النسق المجتمعي تستند لأسس عقلية تنتقي القيم الفاضلة الإنسانية و تنبذ قيم العنف و الكراهية خدمة لقضايا الإنسان المصيرية و الكونية. وما انتصار شيشونق على فرعون سوى دليل على انتصار القيم الأخلاقية الإنسانية على القيم الفرعونية الاستبدادية مما يدل تاريخيا على وعي الإنسان الشمال الإفريقي بحقوقه الطبيعية العادلة، وشغفه للعيش في مجتمع تسود فيه روح النحن وأريج العدالة و الخير والمساواة. وهو ما يصون الذات و الهوية من محاولات التتييه و الاغتصاب الوجودي الذي من أبشع مظاهره محاولات اغتصاب الأرض و الفكر. لكن بسالة الذات الأمازيغية و قوة عزيمتها استطاعت حفظ عرضها / شرفها : الفكر و المجال. مما مكنها من صون عذريتها من أنياب الدخلاء و معاول الغرباء.

وفي استقرائنا السوسيولوجي لبنية المجتمع الأمازيغي من حيث ما وسمه من ظواهر نجده قد عرف مجموعة من المخططات التدبيرية التي تتوخى امتداد و استمرارية اللحمة المجتمعية/الجسم المجتمعي. هذا الأخير الذي اشتغل عضويا ووظيفيا وفق قيم التضامن التي من أهم تجلياتها ظاهرة تاويزا...التي بموجبها تطهرت ذاتنا التاريخية من نوازع الأنانية المتضخمة و البراغماتية الضيقة لتتشبع بقيم الغيرية التي هي أهم أسس بناء المشروع الإنساني الكوني. وهو ما يؤشر انتروبولوجيا و أكسيولوجيا علي إيمان الإنسان الأمازيغي بأخلاق الصداقة و الفضيلة و التسامح و الكرم و التضامن و التكافل الاجتماعي.

- وفي الشأن السياسي و العسكري يستشف من انتصار شيشونق العسكري على فرعون طابع التبصر والتعقل و حنكة التخطيط لاستراتيجيات المعارك و الحروب.." فأن تنتصر على مستبد مثل فرعون يعني أن عقلك يخطط بذكاء و حكمة". فالحكمة و الترزن و التنظير الجيد هو ما مكن مجموعة من العظماء الأمازيغ من حفظ ممالكهم النعيمية من بطش الأطماع الجحيمية...وفي هذا السياق من واجب احتفائنا بتاريخ ذاتنا استحضار أرواح مشاهير الملوك الأمازيغيين في موريطانيا و نوميديا: ماسنسا ،يوغورطة، كوضا، جوبا الأول، جوبا الثاني، بوخوس الأول، بوخوس الثاني، بوغود، بطليموس...وكذلك أرواح شخصيات قائدية أمثال : تاكفاريناس و أيديمون و غيرهم..كل هؤلاء ألحقوا هزائم عظيمة بالاحتلال الروماني. (للإشارة فهؤلاء العظماء عاشوا في حقب زمنية تتراوح بين القرن الثالث الميلادي ق م و القرن الثاني بعد الميلاد).

و لقد توارث الزعماء الأمازيغ اللاحقين عن هؤلاء حكم و خطط الاستراتيجيات العسكرية..ومن أهم المحطات التاريخية العظيمة المؤرخة لإبداع الذات الأمازيغية لفنون الحرب محطة المناضل و الزعيم و المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي (.....) الذي حقق انجازات عسكرية هامة تجد نموذجها السامي في انتصاره الأسطوري في معركة أنوال 1921 على القوات الاسبانية...علاوة على انجازات أخرى تناولتها بالتفصيل كتب و مجلدات تاريخية تكشف عن تطبعه الأصيل بشيم التضحية لنصرة عزة الأرض و الذات و الفكر و التاريخ . إن الجوهر المتحكم تاريخيا في انتصارات الأمازيغ العسكرية يجد أساسه في إيمان الأمازيغي بحقه المشروع في العيش في مجاله الطبيعي بكل حرية و سعادة. متبنيا بذلك مبدأ الإرادة كمحدد ماهوي لهويته..وإرادته للحياة اشترطت فيه مطلبين هما: قوة الإرادة و إرادة القوة.

- وفي مجال الأتربولوجيا تعزز المشهد الثقافي الأمازيغي بمجموعة من العادات و الطقوس التي تخص حفلات الزواج و العقيقة و الاحتفال بالأعياد الدينية و رأس السنة الأمازيغية.....و تولد عن هذا تمهر اليد الأمازيغية في صنع مجموعة من المتوجات (ألبسة،جواهر،أدوات خزفية،أدوات تجميل،...) تنطق بلسان هوياتي فصيح: " أنا مصنوعات أمازيغية...اقرأني سيميائيا لعلك تفهمني.....".

و احتلت ظاهرة الوشم( Tatouage ) مكانة متميزة في البنية الأنتربولوجية للمجتمع الأمازيغي.و الوشم على الجسد يفهم هيرمنوطيقيا باعتباره وشما على الأرض: الصخر، الحجر. وذلك حفظا للذات / الأرض من مخاطر التعرية و التجوية الاجتماعية و الاختلاط الثقافي. وليست كل الأجساد الآدمية قادرة على تحمل الآم التوشيم " التوخيز و التجريح". بل لا يتحمل عمق هذا الجرح الهوياتي إلا مثل أجساد النساء الأمازيغيات اللواتي شاركن الرجال في محنة صناعة المصير الوجودي...وفي هذا السياق التداولي لمفهوم الوشم الأمازيغي نجد أنفسنا أمام نص مكتوب بلغة الدم على الجسد (جسد المرأة). انه نص أكثر عمقا مقارنة مع النصوص الأخرى المكتوبة على الورق. ويشكل هذا النص / الوشم الجسدي حقلا لتقاطع تيمات الهوية و الانتماء و الجمال والإرادة و الخصوبة :" خصوبة المرأة الأمازيغية / خصوبة الأرض".وبهذا المعنى يؤول الجسد نصا و النص جسدا. انه نص تطبعه التناصية (Iintertextualité )، ولقراءته أدبيا و ثقافيا لا بد من التوسل بمختلف المناهج البنيوية والتفكيكية و التاريخية و الوظيفية و الاجتماعية....

ومن منظور استيطيقي يفهم الوشم الأمازيغي كبؤرة لاستنطاق المرأة لمكامن جمالها و خواص أنوثتها المكتملة..انه تعبير عن النضج الجسدي و الجنسي بشكل يتوخى إثارة الرجل ليقبل على الزواج بها تحقيقا للإحصان و التنسيل وحفظا لامتداد الأصل الأمازيغي. وعلى هذا الأساس يمكن الوشم جسد المرأة من التماهي و التباهي مع الأرض بشكل يحقق الاندغام الوجودي بينهما من خلال هذه الصيغة التحاورية بين الأنثيين ( المرأة و الأرض) : أنت أنا وأنا أنت.

لقد ساهم العقل الأمازيغي في صناعة تاريخ العلوم من خلال تشييده لمجموعة من النظريات العلمية في مختلف التخصصات . وفي هذا الإطار لا بد أن نشيد بالعمل الجليل الذي قام به المفكر عبد السلام بن ميس صاحب كتاب "مظاهر الفكر العقلاني في الثقافة الأمازيغية القديمة،(دراسة في تاريخ العلوم الصورية وتطبيقاتها".حيث حاول القيام بعمل جينيالوجي و حفري يتوخى استعلام مجالات إبداع و اشتغال العقل الأمازيغي العلمي في الفترة الممتدة من القرن 12 قبل الميلاد الى حدود القرن 6 بعد الميلاد. حيث سرد نماذج لعلماء أمازيغ أسسوا اللبنات الأولى للعلوم الصورية و التجريبية.ومن بين هؤلاء النوابغ:

- نموذج أبوليوس المداوري في تخصص المنطق الصوري.

- نموذج تيكونيوس في مجال منطق التأويل و المناظرة.

- نموذج القديس أوغسطينوس في مجال منطق التأويل و الجدل.

- نموذج فيكتورينيوس الأفريقي، في مجال المنطق الصوري و ترجمة النصوص اليونانية.

- نموذج فرونطو، في مجال منطق الخطابة القضائية.

إن هذه النماذج و غيرها تزكي أطروحة يقينية مفادها أن الإنسان الأمازيغي خاض عقليا و علميا في مجموعة من الحقول المعرفية باليات اللوغوس وأسس تفكيره على الحجاج و البرهان و المنطق، فاستطاع بذلك إحداث قطيعة ابستمولوجية مع باقي أشكال التفكير اللاهوتي و الميتوسي.

من خلال هذا الاستحضار المختصر لمظاهر الحضارة الأمازيغية التي استطاعت حفظ ذاتها من التيهان في ظلمة التاريخ و هوامشه...يمكن القول أن مجالات المجتمع و الفن و الثقافة و السياسة و العلم التي تفوق فيها الإنسان الأمازيغي هي في جوهرها انعكاس و تجلي للروح الأمازيغية المطلقة في وجودها الأصلي الراهنيDESEIN . وعليه ففي الحضارة الأمازيغية كل ما هوعقلي واقعي وكل ما هو واقعي عقلي وهو ما يخلق التوافق بين فكر الأمازيغي وواقعه.

                          بقلم جمال الدين البعزاوي                      jamal_philo@hotmail.com




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !