قدم الرسول (صلى الله عليه وسلم) من غزوة تبوك إلى المدينة ، وقد تخلف عنه رهط من المنافقين وتخلف أولئك الثلاثة من ِالمسلمين من غير شكٍ ولا نفاق ، وهم كعب بن مالك ، ومُرارة بن الربيع ، وهلال بن أُمية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه : لا تكلَّمُنَّ أحداً من هولاء الثلاثة ، وأتاه من تخلف عنه من المنافقين فجعلوا يحلفون له ويعتذرون ، فصفح عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يَعْذرهم الله ولا رسوله .
واعتزل المسلمون كلام أولئك النفر الثلاثة .
يقول كعب بن مالك : ما تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط ، غير أني كنتُ قد تخلفت عنه في غزوة بدر ، وكانت بدر غزوةً لم يعاتب الله ولا رسوله أحداً تخلف عنها ، ذلك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد خرج يريد عير قريش ، حتى جمع الله بينه وبين عدوه على غير ميعاد ، ولقد شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة حين تواثقنا على الإسلام ، وما أُحبّ أن لي بها مشهدَ بدر ، وإن كانت غزوة بدر هي أذكرُ في الناس من بيعة العقبة .
يقول كعب بن مالك : لقد كان من خبري حين تخلفتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قطُ أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة ، والله ما اجتمعت لي راحلتان قط حتى اجتمعتا في تلك الغزوة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلّما يُريد غزوةً يغزوها إلا ورّى بغيرها ، حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد ، واستقبل سفراً بعيداً ، واستقبل غزو عدو كثير ، فجلَّى للناس أمرهم ليتأهبوا لذلك أهبته، وأخبرهم خبره بوجهه الذي يريد ، والمسلمون من تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ،
لا يجمعهم كتاب حافظ ، يقول : لا يجمعهم ديوان مكتوب . يعني (السجلات بلغة العصر)
قال كعب : فكلَّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفى له ذلك ، مالم ينزل فيه وحى من الله ، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار وأُحِبَّت الظلال ، فالناس إليها صُعْر ، فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجهز المسلمون معه ، وجعلتُ أغدو لأتجهز معهم ، فأرجع ولم اقضِِِ حاجةً ، فأقول في نفسي ، أنا قادر على ذلك إذا أرت، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمّر الناس بالجدِّ ، فأصبح رسول الله غادياً والمسلمون معه ، ولم اقضِ من جهازي شيئاً ، فقلت : أتجهز بعده بيوم أو يومين ، ثم ألحق بهم ، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز ، فرجعت ولم أقضِ شيئاً ، ثم غدوت فرجعت ولم أقضِ شيئاً ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا ، وتفََرط الغزو ، فهممتُ أن أرتحل ، فأدركهم ، وليتني فعلت ، فلم أفعل ، وجعلتُ إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أطوف فيهم ، يَحُزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق ، او رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء ، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك ، فقال وهو جالس في القوم بتبوك : ما فعل كعب بن مالك ؟ فقال رجل من بني سلمة : يارسول الله ، حبسه بُرْداهُ ، والنظر في عِطْفيه ، فقال معاذ بن جبل : بئس ما قلت ! والله يارسول الله ما علمنا منه إلا خيراً ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك ، حضرني بَثي ، فجعلت أتذكر الكَذِب وأقول : بماذا أخرج من سخط رسول الله صلى الله عليه وسلم غداً ، وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي ، فلما قِيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عني الباطل ، وعرفت أني لا أنجو منه إلا بالصدق ، فأجمعتُ أن أصدقه ، وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد ، فركع فيه ركعتين ، ثم جلس للناس ، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فجعلوا يحلفون له ويعتذرون ، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً ، فيقبل منهم رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وأيمانهم ، ويستغفر لهم ، ويَكل امرهم إلى الله تعالى ، حتى جئت فسلمتُ عليه ، فتبسم تبسم المُغْضَب ، ثم قال لي : تعال ، فجئت أمشي ، فجلست بين يديه ، فقال لي : ما خلَّفك ؟ ألم تكن أبتعت ظهرك ؟ قال : قلت : إني يا رسول الله ، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا ، لرأيتُ أني سأخرج من سخطه بعذر ، ولقد أُعطيت جَدلاً ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثاً كذَباً لترضين عني ، وليُوشكن الله أن يسخطك عليّ ولئن حدثتك حديثاً صَدقاً تجد عليّ فيه ، إني لأرجو عُقباي من الله فيه ، ولا والله ما كان لي عذر والله ما كنت قطُ أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما هذا فقد صدقت فيه ، فقم حتى يقضي الله فيك . فقمت ، وسار معي رجال من بني سلمة فاتَّبعوني فقالوا لي : والله ما علمناك كنتَ أذنبت ذنباً قبل هذا ، ولقد عجزت أن لا تكون أعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به إليه المخلفون ، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المخلفون فو الله مازالوا بي حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذّبَّ نفسي ، ثم قلت لهم : هل لقي هذا أحد غيري ؟ قالوا نعم ، رجلان قالا مثل مقالتك ، وقيل لهما مثل ما قيل لك ، قلتُ : من هما ؟ قالوا : مُرارة بن الربيع العَمْري ، من بني عمرو بن عوف ، وهلال بن أبي أُمية الواقفي ، فذكروا لي رجلين صالحين ، فيهما أُسوة فصَمتُّ حين ذكروهما لي ، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أُيها الثلاثة ، من بين من تخلف عنه ، فاجتنبنا الناس ، وتغيروا لنا ، حتى تنكَّرت لي نفسي والأرضُ ، فما هي بالارض التي كنتُ أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة ، فأما صاحباي فاستكانا ، وقعدا في بُيوتهما ، وأما أنا فكنتُ أشَبَّ القوم وأجلدهم ، فكنتُ أخرج ، وأشهد الصلوات مع المسلمين وأطوف بالاسواق ،
لا يكلمني أحد ، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة ، فأقول في نفسي ، هل حَرَّك شفتيه برد السلام عليّ أم لا ؟ ثم أصلي قريباً منه ، فأسارقه النظر ، فإذا أقبلتُ على صلاتي نظر إليَّ ، وإذا التفتُ نحوَه أعرض عني ، حتى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين ، مشيتُ حتى تسورت جدار حائط أبي قَتادة ، وهو ابن عمَّي ، وأحبُّ الناس إليَّ ، فسلمت عليه ، فو الله ما ردَّ على السلام ، فقلتُ : يا أبا قتادة ، أُنْشِدك بالله ، هل تعلم أني أحبُ الله ورسوله ؟ فسكت . فعُدتُ فناشدته فسكت عني ، فعدتُ فناشدته فسكت عني ، فعدت فناشدته ، فقال : الله ورسوله أعلم ، ففاضت عيناي ، ووثبت فتسورت الحائط ، ثم غدوت إلى السوق فبينما أنا امشي بالسوق ، إذا نَبَطيّ يسأل عني من نّبَط الشام ، ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة ، يقول : من يدل على كعب بن مالك ؟ قال فجعل الناس يُشيرون له إلىّ ، حتى جاءني ، فدفع إليّ كتاباً في سَرَقة من حرير ، فإذا فيه : (أما بعد ، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسيك) . قال : فقلت حين قرأتها : وهذا من البلاء أيضاً ، قد بلغ بي ما وقعت فيه أن طمع فيّ رجل من أهل الشرك . قال : فعَمدتُ بها تَنُّور فسجرته بها (أحرقته) ، فأقمنا على ذلك حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسولُ رَسولِ الله يأتيني ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك ان تعتزل امرأتك ، قال : قلت : أطلقها أم ماذا ؟ قال : لا ، بل اعتزلها ولا تَقْرَبها ، وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك ، فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك ، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الامر ما هو قاض . قال : وجاءت امرأةُ هلال بن أُمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن هلال بن أُمية شيخٌ كبير ضائع لا خادم له ، أفتكره أن أخدمه ؟ قال : لا ، ولكن لا يقربنك ، قالت : والله يارسول الله ما به من حَرَكة إليَّ والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا ، ولقد تخوفتُ على بصره ، قال : فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأتك ، قد أذن لامرأة هلال بن أُمية أن تخدمه، قال : فقلت : والله لا استأذنه فيها ، ما أدري ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك إذا استأذنته فيها ، وأنا رجل شاب . قال فلبثنا بعد ذلك عشر ليال ، فكمل لنا خمسون ليلية ، من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا ، ثم صليت الصبح ، صبح خمسين ليلة ، على ظهر بيت من بيوتنا على الحال التي ذكر الله منّا ، قد ضاقت علينا الأرض بما رَحُبت ، وضاقت عليّ نفسي ، وقد كنت ابتنيت خيمة في ظهر سَلْع ، فكنت اكون فيها ، إذ سمعت صوت صارخ يقول بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر ، قال فخررت ساجداً وعرفت أن قد جاء الفرج .
قال : واّذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلى الفجر ، فذهب الناس يبشروننا ، وذهب نحو صاحبيَّ مبشرون ، وركض رجل إليّ فرساً ، وسعى ساع من أسلم ، حتى أوفى على الجبل ، فكان الصوت أسرع من الفرس ، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني ، نزعت ثوبي ، فكسوتهما أياه بشارة ، والله ما أملك يومئذٍ غيرهما ، واستعرتُ ثوبين فلبستهما ، ثم انطلقت أتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتلقاني الناس يبشرونني بالتوبة ، يقولون لِيَهْنَكَ توبة الله عليك ، حتى دخلت المسجد ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله فحيّاني وهنَّأني ، والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيرُه . قال : فكان كعب بن مالك لا ينساها لطلحة .
قال كعب : فلما سلّمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي ووجهه يبرق من السرور : أبشر بخير يوم مر عليك منذُ ولدتك أُمك ، قال : قلت : أمن عندك يارسول الله أم من عند الله ؟ قال : بل من عند الله قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استبشر كأن وجهه قطعة من قمر . قال : وكنا نعرف ذلك منه . قال : فلما جلست بين يديه قلت : يا رسول الله ، إن من توبتي إلى الله عز وجل أن انخلع من مالي ، صدقة إلى الله ورسوله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمسك عليك بعض مالك ، فهو خير لك . قال : قلت : إني مُمْسك سهمي الذي بخيبر ، وقلت : يارسول الله ، إن الله قد نجاني بالصدق ، وإن من توبتي إلى الله أن لا أحدثَّ إلا صدقاً ما حييت ، والله ما أعلم أحداً من الناس أبلاه الله في صِدق الحديث منذ ذكرتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أفضل مما أبلاني الله ، والله ما تعمدت من كذبة منذ ذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا ، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي .
وأنزل الله تعالى (لقد تاب الله على النبي والمُهاجرينَ والأنصارِ الذين اتبعوه في ساعةِ العُسرةِ من بعدِ ما كاد يزيغُ قلوبُ فريقٍ منهم ، ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم ، وعلى الثلاثة الذين خُلفوا) ... إلى قوله : (وكونوا مع الصادقين) . التوبة :117-119 .
قال كعب : فو الله ما أنعم الله عليّ نعمة قط بعد أن هداني للإسلام كانت أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ ، وأن لا اكون كذبته ، فأهلك كما هلك الذين كذبوا ، فإن الله تبارك وتعالى قال في الذين كذبوه حين أُنزل الوحي شر ما قال لأحد، قال : (سيحلفون بالله لكم إذا أنقلبتم إليهم لتُعرضوا عنهم ، فأعرضوا عنهم ، إنهم رجس ومأواهُمْ جهنمُ بما كانوا يكسبون . يحلفون لكم لترضوا عنهم ، فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) التوبة 95-96.
قال : وكنا خُلِّفنا أيها الثلاثة عن أمر هؤلاء الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين حَلفوا له فعذرهم ، واستغفر لهم ، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا ، حتى قضى الله فيه ما قضى ، فبذلك قال الله تعالى ( وعلى الذين خُلِّفوا) . وليس الذي ذكر الله من تخليفنا لتخلفنا عن الغزوة ولكن لتخليفه إيانا ، وإرجائه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه .
نقلاًُ عن السيرة النبوية لإبن هِشَام المَعافِري
اللهم اعفوا عنا.. واغفر لنا .. وارحمنا وأنت خير الراحمين
التعليقات (0)