هذا المقال نشرته عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر ، وقبل احتلال أفغانستان، وأعيد نشره الآن بمناسبة ذكرى هذا اليوم الذي فتح علينا أبواب الجحيم.
في السينما المصرية كان هناك حلمان لأمريكا فشل كل منهما فشلا ذريعا، الأول مجموعة البائسين الحالمين في أمريكا شيكا بيكا لخيري بشارة الذين عادوا قبل منتصف الطريق بعدما اكتشفوا قبل فوات الأوان أن الحلم إذا أصبح حقيقة قد يهدم جذور الوطن كلها.
والثاني أرض الأحلام لداود عبد السيد فقد اكتشفت بطلة الفيلم قبل السفر بلحظات أن الوطن أيضا قد يمنح أحلاما كثيرة ولو لم يتحقق إلا قليل منها.
وخلال تصوير الفيلم طلب المخرج داود عبد السيد من فاتن حمامة أن تنهي آخر لقطة بكلمة: طز في أمريكا، لكنها رفضت رفضا قاطعا، على الرغم من أن هذه الكلمة يقولها في كل يوم عشرات الملايين من البشر بدءا من فيدل كاسترو ومرورا بالعقيد معمر القذافي والفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين وقيادات الأحزاب
اليسارية والمطحونين والسود والعبيد والثوار في أمريكا اللاتينية وأحفاد سكان هيروشيما وناجازاكي والفيتناميين والكوريين الشماليين.
طز في أمريكا هي الكلمة السحرية التي يستخدمها الغاضب والحزين والسياسي اليساري و الشيوعي والفنان البوهيمي ومعظم رسامي الكاريكاتير
في العالم.
طز في أمريكا قالها أحمد فؤاد أحمد نجم في قصيدته" قالوا الفانتوم حامل موت سقط الموت بعلم أمريكا"، وهيج بها مظفر النواب مستمعيه وهو يقول " وزير النفط له ذيل يخفيه بكيس أمريكي ويصوت ضد الإرهاب به" وكذلك نجيب سرور ونزار قباني، وأيضا محمد صبحي في " ماما أمريكا"!
إنها ليست كلمة جديدة أو قبيحة بل إنها أحيانا تختصر وتعتصر كل الآلام والأوجاع للشعوب التي سقط فوقها حذاء اليانكي أو هراوة العم سام حتى لو كانت نجمة سداسية أو مزامير داود أو كل أسفار التوراة.
وأمريكا هي الحلم والكابوس.. وهي السماء والأرض.. وهي تمثال الحرية وقيود في أيدي نسل كونتاكنتي، وهي كانت مع تحرير الكويت والإبقاء على صدام حسين، وهي حقوق الإنسان في أرفع صورها والتمييز العنصري في أحط مشاهده.
وأمريكا صنعت الإرهاب وبكت على ضحاياه وساعدت شاه إيران في بناء المعتقلات وتقوية قبضة السافاك، ثم تخلت عنه بعد استهلاكه ووقفت مع صدام في حربه ضد إيران، ثم ابتسمت له بعد أن استخدم المواد الكيماوية في قتل آلاف من أكراد شعبه.
وأمريكا هي التي شجعت صدام حسين على غزو الكويت ثم ساعدت في تحرير الكويت بثمن لم تكن تحلم به، مالا ونفطا وقواعد في الخليج كله.
وأمريكا هي السينما التي عشقناها ونحن صغار، ونعرف نجوم الفن السابع فيها أكثر مما نعرف أسماء المثقفين العرب والكتاب والعلماء والشيوخ والسياسيين باستثناء عمرو دياب وعمرو موسى وعمرو خالد وعمرو شعبان عبد الرحيم!
أكثر من نصف سكان النرويج حتى أوائل القرن الماضي هاجروا إلى أمريكا وثلث سكان السويد وبها أربعون مليونا من الأيرلنديين وفيها العالم كله يبني حضارة جديدة وقوة عظمى فوق عظام الهنود الحمر كما فعل الأسبان عندما احتلوا دول أمريكا الجنوبية وأبادوا السكان الأصليين.
والأمريكي يجلس أمام التلفزيون ويأكل وجبة همبورجر لو رأتها مريم نور لماتت بالسكتة المعوية ثم يفتح زجاجة كوكاكولا ويشاهد الجنود الإسرائيليين وهم يقصفون النساء والأطفال في فلسطين بكل ما أنتجته ترسانة الأسلحة الأمريكية ثم يصيح غضبا ويطالب بمعاقبة الطفل الذي ألقى حجرا على حضرات الجنود الإسرائيليين المسالمين.
وأميركا كانت تشاهد بنصف عين جنود صدام حسين المهزومين وهم يلقون من فوق المساجد بالنجف الأشرف في ثورة مارس عام واحد وتسعين بجثث الأطفال الغضة الطرية ثم تذبح الضحية ويتقاذف جنود المجرم صدام حسين رؤوس الأطفال أمام أمهاتهم وآبائهم، وأعطى الرئيس الأمريكي أوامر لجنوده داخل حدود العراق بأن لا يقتربوا.
كلنا ننام ونضم الحلم الأمريكي في أحضاننا وتحت الوسادة ونصفق لرامبو ونشارك في الحوار مع ودي آلان في مانهاتن وكأننا جزء من المثقفين اليهود في نيويورك وعندما حصل فيلم الجمال الأمريكي على الأوسكار أدرنا ظهورنا فهو ليس منا ولسنا منه!
وأمريكا تلهب ظهورنا وتحتقر قادتنا ويستقبل الرئيس الأمريكي الزعيم العربي بعد وصوله بيومين أو ثلاثة لمدة لا تزيد عن عشرين دقيقة ثم يصطحبه إلى البيت الأبيض ويدير له ظهره قبل أن يرحل الضيف.
وعندما ينهزم رئيس أمريكي في الانتخابات يفكر في زيارة لبلد عربي فيستقبلونه استقبال الأبطال الفاتحين كما حدث مع ريتشارد نيكسون الذي فضحه شعبه في ووتر جيت فأعاد إليه السادات اعتباره في استقبال لم تشهد له مصر مثيلا منذ وصول خروتشوف إلى الإسكندرية عام أربعة وستين.
أمريكا صنعت الأفغان العرب وقالت لهم بأن الأسلحة التي يحاربون بها الإلحاد الشيوعي هي أسلحة تعود لأهل الكتاب وتطلق نيرانا مؤمنة وتقتل بأمر الله وأن الكتاب المقدس في جيب كل عميل للــ سي آي إيه فصدقها المجاهدون، فلما انهزم السوفييت قرر المجاهدون استخدام الأسلحة المؤمنة في تدمير المساجد والمدارس وقتل الأبرياء وجعل من بقى حيا من الأفغان معوقا.
ثم انشقت الأرض وخرج منها أهل الكهف للمرة الثانية ولم يكن كلبهم باسطا ذراعيه بالوصيد هذه المرة.
وطالبان حركة تنتمي إلى كوكب آخر ولا علاقة لها من قريب أو من بعيد بالعقل البشري أو التسامح أو الإسلام أو الجمال أو الخير ولكنها وجدت الأفغان يتقاتلون ويدمرون بلدهم فلماذا لا يشترك الطالبانيون في تدمير ما تبقى من أطلال أفغانستان.
معادلة غريبة لم يجد تاريخ العالم لها مثيلا، فأمريكا تبحث منذ دفن الشيوعية في سروال جورباتشوف عن عدو أحمر أو أصفر أو أبيض فقد مات الأحمر وهزمها الأصفر من قبل وتحالف معها الأبيض فوجدت ضالتها في الأخضر لتحيل حياته إلى الأسود.
في كتابه" أمريكا طليعة الانحطاط" يقول مؤلفه روجيه جارودي: إن أمريكا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي عينت العدو البديل وهو الإسلام أو الشيطان الذي ستحاربه.
كيف يمكن لمصانع الأسلحة الأمريكية أن تستمر دون أن يكون هناك عدو تجرب فيه كل منتجات الدمار؟ وما فائدة تمثال الحرية إذن إنْ لم تكن حرية أمريكا في ضرب من تشاء متى تشاء؟
تعيين الشيطان الجديد لم يكن مهمة أمريكية فقط، فالإعلام الأوروبي الكسيح قادر على لعب دور الخادم الأمين للقوة العظمى، ولا يزال الأوربيون يشعرون منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أنهم مدينون لأمريكا بحريتهم ويعتذرون للكيان الصهيوني بتقريع الضمير للهلوكوست، وهنا ساند الإعلام الغربي التهم الأمريكية قبل أن يَطّلع عليها، وبللت دموع توني بلير وجنتيه وهي التي لم تذرفها عيناه على مئات الأطفال الفلسطينيين الذين سقطوا برصاص كان يعلم به منذ ثمانين عاما اللورد بلفور.
وراحت ألمانيا تخلط بين بكائها على الضحايا واعتذارها لإسرائيل للمرة الخامسة بعد الألف وذلك عن ضحايا النازية.
ولطمت أوروبا خدها الناعم على الدولار، وبصقت أمريكا على اليورو كما يفعل الكاوبوي كلينت ستود في فيلم" من أجل حفنة دولارات"!
لا يهم فأمريكا لا تحتاج لتبرير، وحركة طالبان بكل تخلفها وبدائيتها وقسوة رجالها وعدائهم لقيم التسامح وعدالة الإسلام يبحثون أيضا عمن يجعل منهم شهداء أو معوقين أو شحاذين في شوارع بيشاور وكابول.
ماذا حدث في أمريكا؟
الهجوم على مركز التجارة العالمي جريمة إرهابية بأي مقاييس إنسانية، دينية أو علمانية أو فلسفية أو سياسية أو أخلاقية. .
وأمريكا هي الخصم والحكم والقاضي والمحامي والجلاد والسجان وهي أيضا الحاجب في المحكمة فتقرأ أسماء المتهمين لكنها لا تسأل عنهم فهي قادرة على أن تعلن الحرب على أشخاص ومؤسسات ودول وتجار مخدرات وتعتقل من تشاء وتستدرج الشيخ عمر عبد الرحمن عن طريق الحكومة السودانية التي سلمت من قبل كارلوس لفرنسا، أو تخطف رئيس بنما من بيته وتضع في يديه القيد كما تفعل الشرطة مع المجرمين في حي هارلم.
وأمريكا لا تعرف أننا تأسفنا وتألمنا لموت آلاف الضحايا الأبرياء في مركز التجارة العالمي وكان حزننا في الواقع أقل على الضحايا في وزارة الدفاع التي حجب الإعلام الأمريكي أخبارها حتى لا تفقد التعاطف الدولي معها، وأيضا لأن تدمير مبنى الدفاع كان صفعة على قفا القوة الكونية العظمى.
على المستوى الشخصي فأعترف بأن حزني كان شديدا وعميقا على رجال الإطفاء، فأنا أراهم في كل مكان ملائكة الرحمة وجنودا من السماء وشهداء بغض النظر عن دياناتهم وجنسياتهم.
نحن نحزن لأن في صدورنا قلوبا مفعمة بالرحمة وليس لأننا نقدم كشف حساب لأمريكا أو نبكي لأن دماء الضحايا الأبرياء زرقاء حتى لو تبرع لها الرئيس الفلسطيني.
المشكلة أن أمريكا أجبرت العالم كله على شق الجيوب ولطم الخدود، وأعلن الرئيس الأمريكي أن من ليس معه فهو ضده وهو منطق صبياني كنا نستخدمه ونحن أطفال، ولكن من قال بأن الرئيس الأمريكي ليس طفلا؟
لأمريكا بالعالم كله علاقات غير صحية قائمة على التهديد والوعيد والتصرف الأحمق مثلما حدث في دوربان بجنوب أفريقيا، فواشنطون على استعداد للتضحية بكل أصدقائها من أجل الإبقاء على الكيان الصهيوني العنصري في فلسطين المحتلة.
يقوم الإعلام الأمريكي في الحقيقة بخدمة الأهداف الاستعمارية للدولة ولكن بطريقة تختلف تماما عن الاستعمار الأوروبي، فهنا ضغوط ومعاهدات دولية وصندوق النقد الدولي ومجلس الأمن وتخريب اقتصاد الآخرين، وقد نجحت أمريكا في صناعة الإعلام وتمكنت من قتل ملكة التفكير لدى المتأثرين بالإعلام خاصة التلفزيون.
إذا كان الإنسان حيوانا اجتماعيا فالأمريكي حيوان تلفزيوني تحركه مشاهد العنف والإثارة والجنس، ويبكي بحرقة على الطفل الكوبي حتى لا يعود لأبيه، لكنه لا يتأسف لحظة واحدة على مقاطعة أمريكا لكوبا لأكثر من أربعين عاما!
إذا لقيت إسرائيلية مصرعها فهي يهودية قتلها العرب، وإذا سقط الفلسطيني فهو عربي ضحية العنف المتبادل.
وأمريكا ليس لديها وقت لمناقشة جرائمها ضد البشرية، ويخطئ الذين يظنون أن واشنطون ستراجع حساباتها بعد العمليات التي استهدفت كرامتها وقوتها ودفاعها ومخابراتها، فهي لم تفعل ذلك بعد انسحابها من فيتنام، وهزيمتها في الصومال، وضحاياها في ميناء بيروت، وطردها من لجان حقوق الإنسان وهي لن تفعل بعد جريمة تدمير مركز التجارة العالمي والهجوم على وزارة الدفاع.
الشيء الذي لا يعرفه الأمريكيون ولا يفصح عنه الملايين من الذين ذرفوا دموع الحزن على الحوادث الأخيرة، أن في قلب كل شخص، ولو كان قد سقط مغشيا عليه من الحزن جزء سعيد مبتسم أو شامت أو غير مكترث أو تحقق له حلم الانتقام من أمريكا وهذا لا ينتقص قيد شعرة من صدق مشاعر الحزن والألم على
الضحايا الأبرياء.
إنها توأمة النقيضين في المشاعر تجاه أمريكا، حزن ظاهر يطالب به المجتمع والأخلاق والعادات والمصالح، وفرح خفي لا يطل برأسه إلا قليلا.
دمعتان دافئتان على الضحايا، ودمعة أخرى لا يعرف أحد أنها من دموع الفرح. حزن صادق يخيم على كل لسان يحمل بين جنبيه قلبا فيه رأفة ورحمة، ويسير معه جنبا إلى جنب شعور بالشماتة في أن أنف الكِبر الأمريكي لمس الوحل لأول مرة بعد تمرغه في أوحال فيتنام.
ثلاث دول كانت تعترف بحركة طالبان الإجرامية وهي المؤسسة المتخلفة والقاسية والإرهابية وتجار المخدرات وقتلة الشعب الأفغاني، أما الأولى فهي باكستان التي خرجت منها حركات التطرف واستقبلت أفغان العرب في بيشاور، حتى دعوة الإخوان المسلمين ،التي كان المرحوم حسن البنا يسعى لكبت العنف والتعصب فيها تلقفها أبو الأعلى المودودي فجعلها باكستانية متعصبة ثم أعادها إلى الإخوان المسلمين ليعربها سيد قطب وتتفرع منها بعد عشرين عاما كل حركات التطرف الديني.
ودولة الإمارات اعترفت بها لأسباب إنسانية ولدعم فقراء أفغانستان، أما السعودية فكانت السلطة الدينية هي التي ضغطت للاعتراف بها فلما اكتشف آل سعود أن مصلحة الوطن قبل أي شيء بادرت الرياض بقطع العلاقات.
تضرب أمريكا أو لا تضرب فوجهها القبيح يطل علينا من فوهة بنادق الجيش الصهيوني في كل يوم، وجرائمها لا تمنعنا من منطلق أخلاقي وديني وإنساني أن ندين جريمة الإرهاب ضد الأبرياء في نيويورك وواشنطون.
التعليقات (0)