أمريكا والقوة الروحية والمادية . للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
إن أية قوة في التاريخ البشري تفتقد إلى الغطاء الأخلاقي الشَّرعي ، تؤسس منطقاً سياسياً جديداً وهو اللامنطق . إذ إن دخول السياسة المعبَّأة بالأيديولوجية ضمن إطار سياسي منفعي ، من شأنه دعم وجهة نظر المحافظين الجدد الذين يقودون الغرب إلى بؤرة الصدام مع نفسه . وهذا يتنافى مع قيمة حوار الحضارات، والأخوةِ البشرية بغض النظر عن الدين أو العِرق . فلا يجوز السماح للمتطرفين من أتباع الديانات أن يعيدوا تشكيل الدِّين من وجهة نظرهم ، ومصالحهم الشخصية .
إن التوظيف الأيديولوجي المسيَّس للعقائد الدينية يتنافى مع الأخوة البشرية ، والسلامِ العالمي الشامل. فالبعض يقوم بتوظيف منهجي لنصوص دينية ميثولوجية لتغذية الصراع العالمي ، وتحقيقِ مصالح ذاتية معادية لحوار الحضارات ، وإقصاءِ الآخر ضمن متواليات تكاثرية، هي بالأساس تيار ميكانيكي أيديولوجي نفعي قائم على الفلسفة المادية للأمر. فتظهر نصوص تؤسس لصدام الحضارات : (( لا تظنوا أني جئتُ لأرسيَ سلاماً على الأرض. ما جئتُ لأرسيَ سلاماً بل سيفاً . فإني جئتُ لأجعل الإنسان على خلافٍ مع أبيه والبنت مع أمها والكنَّة مع حماتها . وهكذا يصير أعداءَ الإنسان أهلُ بيته )) [ متَّى10: 34و35] . (( جئتُ لألقيَ على الأرض ناراً فكم أُريد أن تكون قد اشتعلت ؟ )) [ لوقا 12: 49]. ويظهر مبدأ تعزيز الانقسام بين بني البشر : (( أتظنون أني جئتُ لأرسيَ السلام على الأرض ؟ أقول لكم : لا ، بل بالأحرى الانقسام ))[ لوقا 12: 51] . ويتكرس تفكيك مؤسسة الأسرة: (( إنْ جاء إليَّ أحد ولم يُبغض أباه وأُمَّه وزوجتَه وأولادَه وإخوتَه وأخواتِه بل نفسَه أيضاً فلا يمكنه أن يكون تلميذاً لي)) [ لوقا 14: 26] .
فالانكماش الحضاري هو صورة المتوازِيات المتطرفة ، والعدميةُ المجازية الموغلة في هلامية اللاشيء التجريدي . فغيابُ الأخلاق عن المسار البشري العالمي من شأنه نفي قيم الحقيقة عن الكيانات السياسية ، فتصبح الحضارة كقيمة تاريخية لا تملك وجوداً حقيقياً على أرض الواقع، بسبب تحولها إلى كيان مصطنَع وقطارٍ منحرف عن السكة.
ومن هنا تظهر أهمية البناء العالمي وفق مبدأ الأخوة البشرية العالمية ، والتحالفِ الحضاري لإعمار الأرض ، وتأسيسِ منظومة الثقافة الكَوْنية المشتركة المبنية على توحيد الخالق تعالى ، والنظرِ إلى الإنسان باعتباره خليفة الله في الأرض من أجل إعمارها ، ونشرِ الخير في كل أنحائها .
إن الإسلام كرَّم السيد المسيح صلى الله عليه وسلم ، وأمَّه السيدة مريم العذراء _ عليها السلام _. فالله تعالى أنقذ المسيحَ من الصلب والأذى الجسدي على أيدي أعدائه ، فرُفِع إلى السماء تكريماً له . وأيضاً لا توجد في القرآن الكريم سورة باسم فاطمة ، أو خديجة ، أو عائشة . بل يوجد سورة كاملة باسم مريم التي طهَّرها الله تعالى من تهمة الزنا التي رماها اليهود بها . قال الله تعالى : (( وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً )) [ النِّساء:156] . وقال ابن كثير في تفسيره ( 1/ 762 ) : (( قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني أنهم رموها بالزنا ، وكذلك قال السدي وجبير ومحمد بن إسحاق وغير واحد، وهو ظاهر من الآية أنهم رموها وابنها بالعظائم وجعلوها زانية وقد حملت بولدها من ذلك، زاد بعضهم وهي حائض،فعليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة )) اهـ .
إن نفي الخديعة المرتدية قناع الحضارة هو أساس فكري إنساني مهم من أجل تفتيت المتمركِزات الوجودية لهالة الانبعاث الحضاري الوهمي المكرَّس .
ونحن إذ ندعو إلى خارطة جديدة للأرض متعددة الأقطاب ، فإننا نهدف إلى إعادة أنسنة الإنسان، وانتشاله من قاع التوحش والسادية الذي دخلت فيه الحواسُ البشرية بفعل حجم الاستهلاك الضاغط على حياة الكائن الحي المدجَّن الذي كرَّسته الأمركة ( العولمة ) كمرحلة وجودية مستمرة حتى نهاية التاريخ المحاصَر في قبضة القوة العمياء .
وهذا الوهم المتراكِب الذي يفترض استمرارية الفوضى الرأسمالية الديمقراطية التوسعية حتى نهاية التاريخ ، ما هو إلا حِراك انتكاسي لصيغ متوازيات انكسار الوعي العلمي ، وانتحارِ المنهجية المعرفية الشاملة ، وفقدان الإنسان لإنسانيته .
وبالقطع فمثل هذا الوهم قد نتج بفعل غياب القراءة الواعية لأنساق الحِراك التاريخي ، وطبيعةِ التحرك الأفقي والعمودي للحضارات ( الولادة ، الشباب ، الشيخوخة ، الموت ) .
والإشكالية الحقيقية في عقول المفكرين الداعمين لمشاريع المحافظين الجدد الأيديولوجية الفكرية ذات الخلفية النفطية هي التموضع في ذروة النشوة الإمبراطورية الوقتية ، والتخندقِ في بؤرة اللذة الآنية ، ونسيانِ النار الكامنة تحت الرماد نتيجة عدم إيجاد حلول جذرية للقضايا الإنسانية، وعدمِ التفكير في تموضعات المسؤولية المترتبة على إشكالية اللذة .
فغياب تشريح نسقية " الهدوء الذي يسبق العاصفة " ، والاكتفاء بالتموضع في ذاتية الهدوء المرحلي المؤقَّت قاد الإمبراطورية الأمريكية إلى أزمات وجودية حرجة . وهذا يظهر جلياً في انعدام الاستعداد للأزمات الشرسة بمختلف مستوياتها، فصارت ثنائية الروح _ المادة هي إشكالية الأضداد والتمزق والفراغ الموحش .
فالكيان الأمريكي الإمبراطوري تنعدم فيه المرونة شيئاً فشيئاً من خلال أبعاده السوسيولوجية المتضاربة ، لذا تتوالى الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بشكل صادم ذي تأثير قاتل للروح والمادة ، لكن النسق الاجتماعي قد يحيا _ بعد الأزمات _ في فترة حلاوة الروح، لكن هذه الحياة تكون مضطربة ، وسائرة نحو الطريق المسدود .
ونحن نعلم أن النظام السياسي الأمريكي _ رغم كل السلبيات_ نظام مفتوح قادر على إعادة تصحيح مساره _ نظرياً على الورق_ ، لكن الواقع ضاغط في مركزية الصميم ، لذلك فإن القطار انحرف عن السكة ، مما أدى إلى ضعف قبضة أمريكا بدليل وجود دول متمردة على الإرادة الأمريكية مثل إيران وكوريا الشمالية وكوبا . وهذا تهديد مباشر للفكر الأمريكي الرامي إلى بسط نفوذه على العالم .
ومن خلال التنظير الفلسفي للسياق التاريخي ، نجد أن غياب الأنسنة المؤْمنة حصر مشاريعَ الاحتلال الأمريكي في خانة ردة الفعل لا الفعل . وبما أن تأسيس متواليات المعرفة الجزئية في بنائية التجريد الانسحابي يتماهى مع الفوضى الخلاقة التي صنعتها الآلةُ العسكرية الأمريكية، فإن نتائج السياسة التوسعية تتماهى مع تكثيف ميثولوجيا التسييس .
وبالتالي فإن التجسيد الدلالي لمدى تطابق معارف السياسة الإمبراطورية مع أنسنة المعاني المجتمعية قد أُصيب بانتكاسة شرسة تتمثل في تعرية أمريكا أمام نفسها والآخرين . وهكذا فقدت الغطاءَ الذي كانت تتخذه لشَرْعنة أفعالها غير القانونية .
فمع تزايد الأزمات العاصفة بالكيان الأمريكي، تكرس مأزق الوجود التأسيسي المقنَّع . فالعم سام تشظى إلى أعمام، فلم يعد النظام الحياتي الأمريكي سوى مركزية استهلاكية ، لأنه قائم على استنزاف الموارد ، ومصادرِ الطاقة ، وتأطيرِ الآلة الإعلامية القوية في دغدغة مشاعر الناس .
فالإعلام _ كأيديولوجية_ يعمل على إحالة المعنى التأصيلي إلى مستويات معيشة هلامية في عوالم الأحلام والخيال والحب والثراء والمجد . وهذا التأطير الوهمي نتاج طبيعي لتكثيف جدلية التطابقات المعرفية في خانة التوازي الاستقطابي بشكل غير منطقي .
ومن خلال مفاهيم انكسار الحاجات المرحلية لوجودية التمركز العاطفي حول المعنى ، صارت الأنساق المجتمعية في الأطر الجغرافية السياسية تنتج كائناً مسخاً، وهو المجتمع المتشكل على صورة إقطاعيات، ولا يستند إلى النماء والانتماء .
لكن المسألة لم تقف عند حدود تجذير الإقطاعيات في المجتمع المسيَّس على متواليات الفراغ العدمي وفق أشكال المستوى المادي الرأسمالي فحسب ، بل تكرَّست الإقطاعيات في عوالم الأنسنة المعرفية . فصار هناك بشر درجة ثانية وثالثة وعاشرة ضمن إطار كياناتٍ جسدية منبوذة لا تاريخ لها . فلم يعد الأمر مسألة من يملك ومن لا يملك . بل وصل الأمر إلى مقاومة أنسنة الإنسان بصورة تعكس اضمحلال التفكير الإنساني الراشد . وهذا زرع في قلب المجتمع تاريخاً من الانكسار والتمييز العنصري الدلالي .
http://www.facebook.com/abuawwad1982
التعليقات (0)