الإعصار القادم الذي يتهدد أمريكا هو من النوع المحيُّر والمدمّر:
-محيّر، لأنه مخالف للنواميس والأعراف والمعايير المتداولة.
-مدمّر،لأنه ينسف ما نراه جذّابا ومُبهرا في بلاد "العم سام"
الإعصار الذي أعنيه ليس بفعل الطبيعة الهوجاء إنما هو بفعل الإنسان في الطبيعة-أقصد بفعله في طبيعته البشرية التي إن لم يكبح جماحها،جنحت إلى التشدد والمغالاة والشذوذ والتطرف ،ففقدت توازنها ...فانحرفت...فأفسدت في الكون.
ليس إعصارا يجتاحها وقد فاجأها بهجومه عليها من خارج حدودها انجرّ عن كراهية الآخر لها،إنما هو إعصار من النوع الذي يبدأ بزوبعة في رقعة محدّدة داخل الحدود سرعان ما تفاجئ بانتشارها المذهل وتحوّلها إلى طاقة تدمير مروّعة...
قد يكون فيما أدّعيه تخمين في غير محلّه لظاهرة أقرب ما تكون إلى التقليعة العابرة في الزمن الأمريكي الراهن المرتبك،لكنها ظاهرة استعصى عليّ أن أُهوّن من خطرها الآتي على عجل ولا من الشرّ الذي أراها تُضمره،أو هكذا أفترض لفرط الدّهشة التي تتملّكني من الفوضى التي تتسبب فيها أمريكا في العالم والخوف الذي يسكنني من عالم تقوده قوّة مُتجبّرة بفكر واحد يحتكر الحقيقة…
ربما أكون مصابا ب"الأمركتوفوبيا" (استعارة من مصطلح الإسلاموفوبيا) لتبدو لي "حركة حزب الشاي" الأمريكية الناشئة إعصارا قادما يخلط الأوراق ويُجهز على ما تبقّى من أمل قائم في التّمسك بتلابيب القيم الإنسانية الخالدة التي استطاعت الحضارة الغربية المُتفوقة أن تحتفظ بجوهرها باعتمادها الديمقراطية واهتدائها لآلياتها الناجعة في إشاعة حقوق الإنسان ودولة القانون والمؤسسات ونبذ الميز العنصري…
لنُذكّر،أوّلا،بأنّ "حركة حزب الشاي" ليست حزبا سياسيا،كما قد يُستوحى من تسميتها،وليست شركة تبيع الشاي تُسوّق لاحتساء كأس منه لمنافع جديدة اكتشفتها في هذه النبتة(الحشيشة) تضمن سلامة الجسم ولياقته أو رجاحة الفكر وتوقّده،فحكاية "الشاي" تعود إلى ذكريات الضرائب و"ثورة الشاي ب"بوسطن" في عهد الهيمنة البريطانية على أمريكا(النصف الثاني من القرن الثامن عشر)...
حركة القرن الثامن عشر هي "حركة ثورة الشاي"في أمريكا،في حين أن حركة القرن الواحد والعشرين هي
" حركة حزب الشاي"، وحركة الثورة ليست حزبا كما أنّ حركة الحزب ليست حزبا...القاسم المشترك بينهما هو الرفض والاحتجاج، فالأولى خصمها الاستعمار البريطاني والثانية خصمها الحكومة الفدرالية الوطنية لغاية تقزيم صلاحيات الدولة إلى أدنى الحدود الممكنة والتبشير بانعتاق المواطن من هيمنتها...
ولأنّ حركة حزب الشاي تدّعي استقلاليتها عن الأحزاب السياسية،فهي تجتذب إليها جمهورا واسعا من المستقلين أو من الأغلبية الصامتة غير المنخرطة في صراعات الأحزاب السياسية والتزاماتها الإيديولوجية،لكنها،مع ادّعائها بالدفاع عن الحرية الفردية وتقليص دور تدخّل الدولة تُمرّر رسائل واضحة لتشكّل تيارا شعبويا يمينيا،محافظا،متشددا،عنصريا،دينيا مسيحيا،يُكرّس الهيمنة المطلقة للرأسمالية المتوحّشة،ويتجاهل التحوّلات العالمية السريعة التي وضعت السياسات الأمريكية المتعاقبة عارية أمام عيوبها وأخطائها نتيجة تعامل حكمته الأنانية والجشع والاستكبار إزاء قضايا شعبها الآجلة (التي تدرّجت بها إلى مأزق خانق) وقضايا العالم العاجلة(التي أشعلت حرائقه وعقّدت أوضاعه)،وما نتج عن ذلك من كوارث اقتصادية واجتماعية وسياسية وأخلاقية...
والحقيقة أنه،رغما عن الصورة المُشوّهة التي تُرسم،غالبا،لمسار السياسة الأمريكية،فإنه لا يُمكن إنكار التفوق المعرفي والتكنولوجي المذهل الذي ازدهر وما يزال في البيئة الأمريكية وداخل حدودها والذي استفادت منه الإنسانية قاطبة...فضلا عن فائض الحرية والحيوية والرفاه التي ينعم بها المواطن الأمريكي،عموما...ولعلّه،بسبب هذا الاعتراف بالتفوّق الأمريكي الكاسح والإعجاب بما أضافه من رصيد ثري وهائل لتراث الحضارة الإنسانية،بقي الأمل قائما في أنّ الإنسان الأمريكي الذي اجتهد وثابر وأبدع فتفوّق قادر على أن "يثوب إلى رشده"،فيفرض على ساسته "التكفير عن الذنوب" التي اقترفوها في حقّه وحقّ شعوب كثيرة في العالم وتصحيح المسار...وأحسب أنّ الكثيرين في الداخل،كما في الخارج،اعتبروا انتخاب "باراك حسين أوباما" للرئاسة هو مؤشّر بليغ في رسالته لهذا الأمل القائم...
إلا أنّ حركة حزب الشاي تتزامن مع صعود نجم أوباما لترفضه نموذجا لرئيس أمريكا ولتُعارض في مشروعه الجوانب التي تبدو إصلاحية ومعتدلة ومتوازنة وتلتقي معه فيما يُعتبر،ضمن المعايير الأخلاقية،تشددا وانغلاقا.ا..وهذا لعمري دافع إلى الحيرة ومثير للمخاوف القائمة من المآل الذي ستؤول إليه أميركا وهي القوّة العظمى التي أحببنا أم كرهنا،نتضرر من أزماتها،عاجلا،أكثر مما يتضرر منها الشعب الأمريكي.
واللافت أنّ هذه الحركة التي هي،بالأساس، ثمار عمل افتراضي على المواقع الاجتماعية مُوظفة الثورة الإعلامية الرقمية،تحوّلت سريعا إلى قوّة شعبية على أرض الواقع محدّدة للملامح المستقبلية لرجل السياسة الأمريكية الذي لا تُريده من الوجوه التي تصنعها الآلة الانتخابية التقليدية لحزبي الجمهوريين ولا الديمقراطيين.
ولئن تُُصنّف حركة حزب الشاي بأنها أقرب،فكريا،للجمهوريين إلى حدّ فوز مرشحيها على رموزهم في الانتخابات التمهيدية(الأولية) ،فإنّ حسابات الربح والخسارة التي قد يستفيد منها الديمقراطيون في المنظور القريب ليست بهذا التسطيح الضيق الذي يحتكم للحظة الراهنة،ذلك أنّ هذه الحركة الملتبسة بطبيعة تفكيرها وتناقض شعاراتها،تُعلن،ضمنيا،بانتهاء عصر الأحزاب وولادة عصر الجماهير،وأيّ عصر لجماهير يقودها سلوك متوتر يرفض التضحيات ويتشبث بالتفوق الأمريكي حتى إن كان يتآكل،و يُخاطب الآخر من عليائه باستهانة واستكبار،ويُعطي حظوة خاصة للإنسان الأبيض على حساب الإنسان الأسود...
الإعصار القادم الذي سيُواجهه الشعب الأمريكي،في المقام الأول،هو أن يتنامى الفكر المتطرّف في فضاء تنظيمي زئبقي لا تستطيع أن تقبض فيه على من يُمكن أن تُسائله،وهو في هذه الحالة شبيه بالتنظيمات الإرهابية السرية التي تتأذّى من فعلها دون سبب مُقنع،ودون أن تجد مؤسسة تُواجهها أو تحاسبها.
هذه أمريكا من هيمنة "تشدّد "المحافظين الجدد" اليمينيين إلى تشكّل يمين متطرّف ترسم صورته "حركة حزب الشاي"
وعلى أمل أن تنمو "حركة حفلات القهوة" (أو حزب القهوة) في مواجهة "الشاي" فإنّ على "الفيل" و"الحمار" أن يتّحدا،على الأقل في وجه إعصار حزب عصر الجماهير الذي يُحرّض على فوضى وُصفت ب "الخلاقة" في عهد المحافظين الجدد،وقد تكون خناقة مع كؤوس الشاي،بلا ضرائب،في تخميني،لا تستفيد منها إلا الشركات الأمريكية العملاقة العابرة للقارات،لأنّها لم تعد تثق،بما فيه الكفاية،في قدرة الأحزاب التقليدية على مسايرة نهمها المتزايد وجشعها الذي لا يعرف حدودا...
التعليقات (0)