قبل أن نتعمق في موضعنا الذي نحن بصدده الأن ، أحب أن أقول : أن التجربة الأمريكية بحق هي تجربة فريدة من نوعها فكلنا يعلم أن أمريكا دولة الحاضر والمستقبل ولكن بلا ماضي ، فهي دولة حديثة الولاده (النشأة) أستطاعت خلال مائتي عام فقط أن تكون أقوي دولة في العالم وأكثرها تقدما في كل العلوم ومخترعات العصر الحديث ، و أن تحقق لنفسها مكانتها وسط العالم لدرجه أنها من وجه نظري ( رجل الأمن والمخابرات والبوليس الأوحد في العالم ) كما أنها تري في قوتها الحق الشرعي في أن تتدخل في الحياة الداخلية لأي بلد في الكون .
وكل هذه المكانة التي أستطاعت أمريكا أن تحققها ليست من فراغ ولكن من خلال بعض الأعتبارات والتي أحاول جاهدا أن أعرضها كالتالي :-
1- أنها بلد ضخم من حيث المساحة ، الموارد ، والثروات ، والأنتاج .
2- أنها مزيج من أصول متعدده ولكن أهمها : - (الهنود الحمر – الأيرلنديين – الأنجليز – الأسكندنافيون – الزنوج ) .
3- أستيعابها للهجرات من البحر الأبيض ، وشق أوربا ، وأمريكا الجنوبية ، وآسيا ، ومن كل مكان في العالم ، كما ظهر بها عدد من الأقليات أهمهم أو أبرزهم (اليهود) .
4- كل هذا أنصهر في بوتقة واحده وأنتج فكر جديد قادر علي الأستيعاب لكل تغير يصدر في العالم .
فكان لأمريكا السبق والمبادرة في الأبتكارات في كافة المجالات وعلي سبيل المثال وليس الحصر : -
أ- 1785 أنشيء أول مصنع ميكانيكي لطحن القمح (أقامة أورليفر إيفانز) .
ب- 1844 أستعمل التلغراف الكهربائي بنجاح (صمويل موريس) .
ت- 1876 ظهر التليفون لأول مرة (جراهام بل) .
ث- 1879 المصباح الكهربي (توماس أديسون) .
وعليه أحب أن أقول : أن هذه التجربة نستطيع (العرب) أن نستفيد كثيرا من تجربة هذه الدولة التي أستطاعت أن تتحدي العوائق وان تضرب بها عرض الحائط ، وليس هذا معناه أن نأخذ منها كل شيء كما هو بدون تدقيق أو تمحيص فهل هو مناسب لنا ؟ هل هو يسير وفق ديننا الإسلامي ؟ هل هو يراعي أخلاقنا ومبادئنا ؟ .
فكثير من الشباب العرب الأن يحاول أن يقلد تقليد أعمي لكل ما هو أمريكي . بدون أن يسأل نفسة بعض الأسئلة هل هذا التقليد مناسب ؟ هل بالفعل أن هذه الأفكار التي أقلدها تستحق مني ذلك ؟ هل الأمريكان يفعلون كما يقولون ؟ هل هم يطبقون ما يحاولون أن ينشروه ؟ كل هذه التساؤلات أحاول معكم أن نكشف عنها الستار .
قبل أن نتعمق في موضوعنا أحب أن أذكر أن حديثي هذا ليس أكاديمي خالصاً مستندا علي الكتب والمراجع وغيرها من مصادر البحث التي يجب أن نعتمد عليها ويستند عليها كل باحث أكاديمي ، فقط بل هو أيضا مستمدا من ملاحظات معيشية ، نراها ونلاحظها في حياتنا اليومية ، وبناء عليها أخذت أناقشها وأحللها ، كما أيضا أبحث وأطلع علي كل ما يرد فيه أجابه علي كل هذه التساؤلات التي واجهتني .
وأول هذه المتناقطات التي تعيشها الولايات المتحدة الأمريكية تتمثل في :-
1- الحرية .
فالحرية هي أكثر الكلمات تداولاً علي ألسنة الأمريكيين ، وكما نراها في حياتهم (المجتمع الحر) وإلي إقتصادهم (أيضا الأقتصاد الحر) وإلي أيديولوجيتهم (العالم الحر) ، وكما يدل علي ذلك رمزهم الذي يدل عليهم وهو (تمثال الحرية) ، وهذا كله بدون أدني شك حقيقة لانستطيع أنكارها ، فالمواطن الأمريكي يمارس الحرية في مجتمعه كما لم يمارسها مجتمع أخر .
فهو (المواطن الأمريكي) لا ينظر للحرية بنظره جماعية يكتسبها المجتمع بطريقة جماعية ولكن هي صفة يكتسبها كل فرد بنفسة وتؤدي إلي تعدد الأتجاهات وتباينها واستقلالها .
ومع كل هذه الحرية التي يمارسها هذا الأمريكي أجده من وجهه نظري (أنسان مسير وليس مخير) فهو يفعل ، ويمارس ويفكر ، ويبتكر ، وينظم حياته ولكن وفق ما تريده أجهزة الإعلام الجبارة والمهيمنين عليها ، فهم يسيطرون علي حرية الشعوبهم ، لا عن طريق الرقابة بأنواعها المختلفة أو ببأسلوب القهر التعسفي المباشر ، بل بطرق خفية في التحكم والسيطرة والأقناع .
وهذا هو أختر أنواع القهر والسيطرة حيث لا يشعر ذلك الخاضع لهذا النظام شعورا واعيا بأنه مسيراً ، وخاضعاً حتي في أبسط تفصيلاته وقراراته الحياتية .
وبناء عليه فأن هذه الحرية التي تتشدق بها الولايات المتحدة الأمريكية ما هي إلا حرية مزيفة ، في ظاهرها تجد حرية لا مثيل لها في شعوب العالم الأخري ولكن في مضمونها ومحتواها ماهي إلا (سوفسطائية) قادرة علي الأقناع وتزييف الأمور .
(والسوفسطائي) : تعني (المعلم أو معلم الخطابة) ثم أصبحت تعني (المغالطة) وأصبحت وصمة عار تلصق بصاحبها ويرجع ذلك لما كان يفعلة السوفسطائيون من هدم كيان المجتمع اليوناني فكانوا : يستخدمون الألاعيب والمغالطات المنطقية ليجعلوا الحق باطلاً .
وهكذا تجتمع في أمريكا ممارسات فيها من الحرية صور باهرة (ويؤكد علي ذلك سر نجاح كارتر في انتخاباته وكذلك في عهدنا كيف أستطاع بوش من أن ينتصر علي كلينتون في معاركة الأنتخابية وأيضا كيف أستطاع باراك أوباما من أن يصل إلي البيت الأبيض رئيسا وهو من عرق زنجي ) ، وكما فيها أيضا من صور الخضوع اللاشعوري التي تمارسه وسائل الأعلام كل هذا يجعلها حقلاً ممتازا لتجارب التحكم في العقل البشري وتشكيلة ببراعة ودهاء وحنكة .
2- مبدأ سيادة القانون .
وهذا هو تناقضا أخر تتسم به الحياة الأمريكية فالكثير مننا يعلم أن تاريخ أمريكا الحافل منذ تولي (جورج واشنطون) أول رئيس أمريكي بعد حروب التحرير ، كان متسم بالنظام والقوانين كما ظل الدستور ، والقوانين المنبثقة عنه تلقي أحتراما هائلا لا مثيل له ، وأيضا ظل مبدأ سيادة القانون يعد نموذج لما ينبغي أن تكون عليه السلوك العام في المجتمع وهو ما تحاول السينما الأمريكية أن تبثة لنا من خلال أفلامها التي نرا فيها كيف ساد القانون وكيف سيطروا علي رعاه البقر وخضعوا جميعا لسيادة القانون .
إلا أنه ومع كل ذلك فإن هذه البلاد التي تحترم الدستور وتقدس قوانينه يقدم لنا وللعالم أعجب أمثلة السخرية والتهكم من تلك القوانين وذلك النظام .
فقد سمعنا كثير عن المنظمات السوداء والتي يطلق عليها (المافيا) والتي تطبق شريعة الغابة وهي البقاء للأقوي والأكثر ثروة وسلطة وغيرها من أشكل القوي المختلفة ، فقد كانت نبتتها الأولي في أمريكا ولاتزال حتي الأن من وجهه نظري مستمرة تسيطر علي كثير من مجريات الأمور هناك وأيضا هنا (في الشرق الأوسط) ، ولا يستطيع أحد أن يدرك مدي نفوذ هذه (المافيا) إلا من عاش البلاد وتعايش معها سوف يدرك مدي سيطرة هذا المافيا علي النقابات ، والأقتصاد وأيضا علي عمليات الأنتخاب السياسية الكبري ، وكما يدرك أيضا مدي الحماية التي تتلقاها فقد تصل أحيانا إلي منصب نائب الرئيس وغيرها من المناصب القيادية .
وأضافه إلي كل هذا أيضا نجد هناك أنعدام الأحساس بالأمن والأمان في تلك البلاد التي تحتوي علي أقوي أجهزة أمن وأجهزة مخابرات في العالم بالرغم من ذلك يخاف الرجل – ولا أقول النساء- حتي لا يقول أحد أن هذه أمر طبيعي – أن يسيروا بمفردهم ليلا في قلب المدن الكبري ، فأمريكا التي تمنع أنتشار الأسلحة وتعمل علي حذرها في الشرق الأوسط علي أنها تأتي بالدمار وعدم الأستقرار للمنطقة هي نفسها تبيح لمواطنيها حق حمل السلاح فكل مواطن في أمريكا يحمل سلاحا مرخصا ، وله الحق في أن يستخدمه كي يدافع عن نفسه ، وبالتالي فهو يحمل في يده قانونه الخاص وهو قانون (العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم) . وعليه أقول : كيف يجتمع الأحترام الزائد للقانون مع أنتشار الجريمة وإنعدام الشعور بالأمان ؟! وكيف تنتشر الأسلحة والبنادق وكل فرد يستطيع أن يأخذ حقه بيده مع وجود القانون ومبدأ سيادة القانون ؟!
3- تناقض بين العقل والخرافات .
فأن هذا المجتمع الأمريكي الذي يخضع كل شيء لقوانين العقل والمنطق بحساباته الدقيقة ، والتي تدعونا إلي أن نتصور أن الأنسان الأمريكي ما هو إلا عباره عن مكينة مصطبغ بالصبغة الآليه ضماناً لزيادة كفاءته الإنتاجية – فهذا المجتمع هو نفسه الذي يسعا علي أوسع النطاقات في نشر أتجاهات السحر والخرافات واللامعقول .
وكل هذا يظهر بوضوح فهو يحاول أن يروج لها في كثير من نواتجه الثقافية والفنية ، فنري كثيرا مدي الخيال العلمي ومدي الخيال اللامعقول ومدي تحدي الظوار الطبيعية ومدي المحاولة في تحدي القدرات الألهيه في كثير من الأفلام السينمائية في السينما الأمريكية .
كما أن هذه الصبغة الآليه التي يصطبغ بها المواطن الأمريكي لا تسود فقط في مجالها الأصلي وهو مجال العمل والتصنيع كي يرفع من أنتاجه وقدراته الأنتاجية ، بل أصبحت الأن تسود تصرفات الناس وسلوكهم اليومي وأساليب تعاملهم بعضهم مع البعض . فالعلاقات الشخصية ضئيلة ، والعمل هو كل شيء ، (والبهرات والتوابل الأنسانية) : كالسلام باليد والتحية في الصباح والمساء ، والمجاملات ، وتبادل الأخبار عن بعضهم البعض ، والسؤال عن الحال والأحوال . كل هذه الأمور التي تعد من ملامح المجتمع السوي علي ما أعتقد في طريقها إلي الأنقراض وعليه أصبح الأنسان الأمريكي في حاجه ماسه إلي التعاطف الشديد وإلي نوعً من الدفء وإلي نوع من العلاقات الأنسانية بعيوبها وبمميزاتها ، وأيضا في حاجه ماسه إلي الأذن المنصته التي تسمع أحاسيسه ومشاعره ، وإلي الصدر المتسع الذي يتسع للشكواه ومشكلاته .
كل هذا يبحث عنه المواطن الأمريكي فلا يجده ولهذا لايجد أمامه سوي (الطبيب النفسي) يدفع له أجراً باهظاً لا لكي يتلقي علاجاً ، بل في أغلب الأحيان لكي يجد من يستمع إليه ، أو علي الأصح لكي يعطي لنفسه الفرصه لأخراج ما في صدره من هموم ، وأن لم يستطيع تحقيق مأربه ينتهي به المطاف في أغلب الأحيان إلي (الأنتحار) والأنتحار في شريعة ديننا الإسلامي كفر والعياذ بالله .
كل هذه التناقضات التي نحاول أن نعرضها أمامكم ليس معني ذلك أننا نريد أن ننكر علي هذه التجربة الأمريكية حقها فهي تستحق منا الكثير والكثير من الدراسة والتحليل رغبةً في أن نكون تصوراً عام لأبعادها ومضمونها ، وأملاً في أن نحدث تجربة عربية فريده تغير من مسار مجتمعناً العربي الذي يهوي نحو الأنحدار .
ولكننا سنلحق بأنفسنا أبلغ الأضرار لو تصورنا إننا نستطيع أن ننهض عن طريق المحاكاة الكاملة لنموذج كهذا : فنحن كل ما نحتاجه هو تحقيق توازن بين ماضينا ومستقبلنا فجذورنا وماضينا أعمق بكثير من جذورهم وماضيهم وهذه ميزة تستطيع أن تهدينا إلي قيم كثيرة تخفف وتقلل من أثر تلك العيوب في الأسلوب الأمريكي في الحياة : مثل قيم التضامن والدفء الإنسان وإعلاء الروح بمعناها العميق – علي أتباع اللاليه الأمريكية .
التعليقات (0)