أمام هيكل عشتروت... انا و حفار القبور

في يوم لم أعد أتذكره...
... يوم لم أعشه قط...
انسكبت الأشواق في كأس لوعتي و انتظاري بروية، مخافة أن تنسكب...
... حملت قلبي المحتضر، و قصدت هيكل عشتروت القائم بين الأبدية و الأبدية...
وضعته أمام عرشها الرهيب، و رحت أندبه و أرثيه...
قد أثقلت منكبيك سموم الحب يا قلبي...
... لماذا تستمع إلى هذه الحكايا...
... مجرد ترهات...
...أقاويل لا غير...
... أسطورة لا أكثر...
قصة من ألف ليلة و ليلة، فشهرزاد لا زالت جارية، و حذاء سندريلا لم يسقط قط، طروادة لم تحترق بعد، و امرؤ القيس لم يجن لعيون ليلى الذابلتين... ما زال شعر الملك على رأسه و السيدة سامبسون مجرد حلم، لم يتخلى روميو عن حبيبته روزالين، بل إنها مسرحية شكسبيرية بين اليقظة و الحلم...
رحماك يا قلبي، رحماك... أنت و الحب في نور الفردوس، و أنا و الجهل في ظلمات الجحيم...
رحماك يا إلهة الحب... رحماك يا عشتروت...
اسمعي عبدتك الواهنة بين يديك الكريمتين، قد طفحت كأسي من هذه الأكاذيب...
و قلبي لازال يترنم بها و الموت نديمه في هاته الساعة...
صمتا يا قلبي ... فالفضاء لا يريد أن يسمعك...
صمتا يا قلبي... فالأثير المعطر بأنفس الكراهية و الموت لن يحمل أغانيك و أناشيدك...
صمتا يا قلبي... فتلك مجرد ترهات... قصة... ضرب من الخيال... سراب في صحراء مقفرة...
صمتا يا قلبي... فأخيلة الليل لن تحفل بهمس أسرارك و أشباح الدجى لن تقف متأملة أحلامك...
صمتا يا قلبي... صمتا... فالصباح قريب... و نور الفجر آت...
اسكت يا قلبي و اسمعني متحدثة:
بين ثناياك يا قلب، قد كتبت الآلهة أنشودة الحب العلوية، كنت يا قلب تترنم بأغاني الحب و الهوى قبل أن تعرفه، صدقتك يا قلب، و قنعت بكلامك فرحت أحدث الناس عن غرائب الحب و عجائبه...
أما الآن، و قد حام الحب حولي بأجنحته اللطيفة و فتح عيني بأشعته السحرية و لمس نفسي بأصابعه النارية، فجئت بدوري أسألكم عن دروبه و مزاياه، فهل بينكم من يريح قلبي ليرقد مطمئنا في كفن الحب، هل بين الأنام من يخبرني يا عشتروت العظيمة؟ جئت أسألكم عما يحل بي و أستخبركم عن نفسي، رحماكم يا ناس... هل بينكم من يجيبني؟ هل بينكم من يستطيع أن يوضح روحي لروحي و أن يبين قلبي لقلبي؟
... لا مجيب سوى الصدى المتأوه...
إذن...
صمتا يا قلبي... فالحب أسطورة من أساطير البشر
صمتا يا قلبي... فالحب حكاية من حكايا الزمن يتلهى بها شبان الجبال حول مواقد النار
يجيبني صوته المتقطع من خلف ستار الموت...
الحب يا صغيرتي كوثر تسكبه حوريات السماء في الأرواح النقية، فتطير مترنمة في جنات العواطف العلوية... الحب معرفة علوية طاهرة تلازم كياننا، و تنير دروبنا و أبصارنا بسهام نورها فتغتصب هزيع الليل... لترينا كل شيء حلوا عذبا، كما تراه الآلهة، فتقلب الحياة حلما جميلا منتصبا بين اليقظة و اليقظة...
اسكت يا قلب حتى الصباح...
بالأمس رحت أسأل البشر...
ألا فاخبروني ما هذه النار المتقدة بداخلي، ما هذه الشعلة المقدسة التي تذيب عواطفي و كياني؟ و ماهذه الأجنحة التي ترفرف بين أضلعي الملتهبة في سكينة الدجى، فتبعد الكرى عن مضجعي، فأسهر مترقبة ما لا أعرفه، محدقة إلى ما لا أراه، مصغية إلى ما لا أسمعه، مفكرة بما لا أدركه، شاعرة بما لا أفهمه، متأوهة، فتأوهات روحي أحب إلي من رنات الضحك و الجذل...
ليت شعري ...
ما هذا الذي ندعوه حبا؟
أخبروني بالله عليكم ما هذه الخمرة البابلية الحلوة المذاق المعطرة بأنفاس الياسمين؟ بل ما هذا السر الخفي الكامن خلف الزمن الساكن بأعماق أعماق الوجود؟
أصغ يا قلبي، إني أسمع وقع أقدام الموت ...
اسمع الناس ماذا تقول:
الحب سم قاتل تتجرعه الشياطين في كهوف الجحيم
الحب مدام فاسد ترتشفه الأرواح الظامئة فتسكر سويعة من الزمن، ثم تصحو عاما، فتموت دهرا
الحب جهالة عمياء و عبودية عوجاء، تبتدئ في أول سطر من أقصوصة الشباب، و تنتهي بنهاية آخر سطر
الحب ضباب كثيف يعمي الأبصار و يكتنف الأرواح من كل ناحية، فيحجب عنها حقائق الوجود و يوقفها حيرى أمام أشباح ميولها فلا تسمع غير صدى عويلها آتيا من أعالي الجبال...
يا ليتني ما سألتهم قط
يا ليتني سمعت كلامك يا قلبي...
الحق... كل الحق معك
ها قد انقضى غسق الليل يا قلب، فترنم بأنشودة الحب إن كنت تستطيع الغناء
كفاك صمتا يا قلبي، فالكون قد ارتدى وردي الثياب، و موكب الصباح قد حل و نور الفجر المرصع بأشعة الشمس قد بان من وراء الحجب.
كفاك صمتا يا قلبي، لست أصدق أحدا سواك.
كفاك صمتا يا قلبي، فهل أنساك سكون الليل الطويل أنشودة الحب.
هي ذي الشحارير و طيور الحسون تحوم مترنمة بين وادي قاديشا، فهل أبقى هول الدجى على جناحيك لتطير معها؟
هي ذي مواكب العشاق تمشي الهوينى نحو المروج الخضراء، فهلا انتفضت من سباتك و مشيت معها؟
قم يا قلبي، قم و لاحق هبوب نسمات الفجر المعطرة برائحة الورد و الكادي، إن الليل قد انقضى، و مخاوف الدجى قد اضمحلت مع وشاحه الأسود.
قم يا قلبي، و ارتشف كأس الحياة صافيا فأشواك الظلام قد اختفت مع أحلامه السوداء.
قم يا قلبي، قم و ارفع صوتك مترنما بأنشودة الحب، فمن لم يشارك الصبح بأغانيه كان من عشيرة الظلام.
قم يا قلب...
كفاك صمتا...
اتل على مسامع البشر أنشودة الحب و الهوى...
و لكن...
وا أسفاه...
رقد قلبي، رحل إلى الآبد...
تركني في ظلمات لا بداية لها و لا نهاية...
مات قلبي...
فما أقوى ساعديك يا حفار القبور، دفنت قلبي، و مضيت غير مبال بحالي من بعدك...
إذن فاكتب على لوح لحدي:" هنا رفات من كتبت اسمها بماء" .
دعني أرقد بسلام...
و لتجزك السماء عني.