شخصية القعقاع بن عمرو التميمي..جاءت كمسلسل فني عُرض مؤخراً وحاز على إعجاب الكثيرين....ولكن كعادة البحث عن أي شخصية تاريخية فلن نكتفي بالنص..حيث لا يمكن اعتماد التاريخ كرواية ينبني عليها حُكماً، بل يُعتمد على الرواية والرؤية معاً..هذه إشكالية كبيرة تلك التي لم يتم فيها الربط بين الرواية التاريخية ورؤيتها التي تستنتج حدثاً فارقاً أو مُدخلا صغيرا لقضية كبري..من هنا يأتي دور الفهم ببيان تلازم الرواية والرؤية ..حيث وجود المادة التاريخية ليس قاضيا علي وجودها ولو بصحة سندها أو نسخها..فمستوي الفهم هو الذي يُحدد بيان هذا التلازم بدلالة واضحة حتى وإن شككنا في بعض صحتها ..ولكن في النهاية لن نستطيع قراءة التاريخ إلا بالرؤية عبر الرواية..
في البداية وكما البحث السابق حول قضية "بناء الرسول بصفية بنت حيي بن أخطب"..هذا البحث هو ثمرة من ثمرات مجهودي في أحد المواقع..ناقشنا فيها قضية القعقاع بالتفصيل، ولم نترك شاردةً ولا واردةً إلا وطُرحت، وكما عادة هذه النوعية من الحوارات فنتائجها غالباً ما تكون منطقية في حين توافر شروط الحوار الجيد بوجود أطراف تعقل وتحاور أكثر مما تنقل وتتعصب..وسنحاول إيجاز البحث بطريقة سلسة وجديدة لم يتطرق إليها من خاض في نفس المسألة من قبل.
قيل أن القعقاع صحابي وقيل أنه من كبار التابعين..
أو كما قال ابن عبدالبر عنه وعن أخيه عاصم بن عمرو.." " لا يَصِحّ لهما عند أهل الحديث صُحبة ، ولا لقاء ، ولا رواية ، وكان لهما بالقادسية مشاهد كريمة ، ومقامات محمودة ، وبلاء حسن ".. الاستيعاب(784/2)...
وكذا ابن الأثير حيث قال أنه روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : " لصوت القعقاع بن عمرو في الجيش خير من ألف رجل ".. أسد الغابة (4/390)..
وكذا أبو علي مسكويه.. قال أنه روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال أيضا :" لا يهزم جيش فيه مثل هذا "..يقصد القعقاع.. تجارب الأمم " (1/332)..
ومن الإصابة لابن حجر قال.." " كتب عمر إلى سعد : أيّ فارس كان أفرس في القادسيّة ؟ قال :فكتب إليه : إني لم أر مثل القعقاع بن عمرو ، حمل في يوم ثلاثين حملة ، يقتل في كل حملة بطلا ".. الإصابة (5/343)
أرى أن ابن حجر عده من الصحابة وكذلك مؤرخين معاصرين -ولكن إسلاميين -كالدكتور راغب السرجاني والدكتورعلي الصلابي وغيرهم حتى أن الصلابي أشرف علي المسلسل المذكور بنفسه وقام علي تجريد الشخصية وإعطائها دوراً في القادسية فاق –إلى حدٍ كبير -دور سيدنا خالد بن الوليد في نفس المعركة..ولكن هل ما حدث هو جهل بالتاريخ أم علمٌ تامٌ به؟..سنرى ذلك من خلال البحث –بإذن الله-..وهل كان ذلك أيضاً هو بمثابة وقوع في مصيدة تاريخية ملأت كتب التاريخ والتعريفات بالصحابة أم لا؟!...سنرى ذلك أيضاً...على جانبٍ آخر سمعت أن الشيخين السلفيين أبي إسحاق الحويني و سلمان العلون أنهما أنكرا حقيقة وجود هذه الشخصية أو كونه صحابي ورجح الحويني أن يكون تابعياً عاش في زمن بعد وفاة الرسول..وهذا غريب إذ ليس من المعهود عن محدثي وشيوخ السلفية إنكار شخصيات تاريخية أو معدودة ضمن الصحابة-إجمالاً-بل المعهود غير ذلك..ولكن بمتابعة هذا الرأي وقفت على أن سبب إنكارهم عائد علي مكذوبية الراوي لكافة روايات القعقاع .
هذا الراوي الناقل لكافة روايات القعقاع هو .."سيف بن عمر التميمي".. وهو راوي متهم بالزندقة عند ابن حبان وبالكذب عند ابن معين... في حين نبحث عن أن يأتي خبر إلينا بذكر القعقاع بن عمرو قبل سيف بن عمر والذي توفي في أواخر القرن الثاني الهجري ولم نعثر على رواية واحدة- ولو منقطعة-تروي عن القعقاع قبل زمن سيف –أي في القرن الأول الهجري.. في حين نقل الإمام الطبري –في القرن الثالث -هذه الروايات في تاريخه بعد جمع ما يقارب من 735 رواية تاريخية مأخوذة من كُتب سيف بن عمر التميمي..لاحظوا أن القعقاع تميمي وكذلك الراوي "الكذاب" سيف بن عمر..وهذا يُزيد من قضية اختلاق هذه الشخصية من قِبَل هذا الراوي ودسها في التراث الإسلامي في عصر كان النقل فيه مقدم على العقل بشكلٍ كبير...سنرى حقيقة ذلك بإذن الله.
لتأكيد ضعف أو مكذوبية سيف بن عمر التميمي الناقل الوحيد لروايات القعقاع سنطرح رؤية حديثية تحمل أقوال أهل الجرح والتعديل في الرجل في أطروحة زميل فاضل طرحها أثناء النقاش:
أقوال أئمة الجرح والتعديل في سيف بن عمرو
1- يحيى بن معين :فلس خير منه- ضعيف
2-أبو زرعة الرازي: ضعيف الحديث
3- أبو داوود : ليس بشىء
4-أبو حاتم الرازي : متروك يشبه حديثه حديث الواقدي
5- يعقوب بن سفيان: حديثه وروايته ليس بشىء
6-النسائي : ضعيف
7- الطبرى : صرح بضعفه وانه يضاد الإجماع ( مع روايته عنه)
8-العقيلي : لا يتابع على كثير من حديثه
9- ابن ابى حاتم : متروك الحديث
10- ابن السكن: ضعيف
11- ابن حبان :يروي الموضوعات عن الإثبات وقالوا: انه كان يضع الحديث وكان قد اتهم بالزندقة.
12-ابن عدى :بعض أحاديث سيف مشهورة وعامتها منكرة
13-الدار قطني : متروك- ضعيف
14-الحاكم :متهم بالزندقة وهو في الرواية ساقط
15-البرقاني : متروك
16-الصيرفي : من الضعفاء والمتروكين
17-ابن نمير :سيف الضبي تميمي وكان جميع يقول: حدثني رجل من بني تميم وكان سيف يضع الحديث وكان قد اتهم بالزندقة.
18-ابن الجوزي: ذكره في الضعفاء
19-الذهبي في الكاشف : تركوه واتهم بالزندقة- قد نقل عنه بعض الروايات.
20- ابن حجر :ضعيف في الحديث عمدة في التاريخ
وهذا متمسك للذين يقولون أن ابن حجر وثقه في التاريخ وقد نقل عنه ابن حجر في التراجم والغريب انه لم يستشهد به ولا برواياته مرة واحدة في أحداث الفتنة التي نقلها ابن حجر في شرحه للبخاري في الجزء الثالث عشر .
21- أعرض عنه أصحاب الكتب الستة عدا الترمذي فقد روى عنه رواية واحدة - حسب على-وها هو نقل لتلك الرواية مع تعليق الترمذي والألباني عليها من موقع الشيخ ناصر الدين الألباني(لحديث: حدثنا أبو بكر محمد بن نافع حدثنا النضر بن حماد حدثنا سيف بن عمر عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا رأيتم الذين يسبون أصحابي فقولوا لعنة الله على شركم قال أبو عيسى هذا حديث منكر لا نعرفه من حديث عبيد الله بن عمر إلا من هذا الوجه والنضر مجهول وسيف مجهول قال الترمذي : حديث منكرقال الشيخ الألباني : ضعيف جدا)
22- نقل الشيخ عن ابن كثير هذا النقل - في معرض تصحيح اثر يا سارية الجبل- (ثم قال ابن كثير : “ و هذا إسناد جيد حسن “ . و هو كما قال , ثم ذكر له طرقا أخرى و قال : “ فهذه طرق يشد بعضها بعضا “ . قلت : و في هذا نظر , فإن أكثر الطرق المشار إليها مدارها على سيف بن عمر و الواقدي و هما كذابان) ولم أر الشيخ يعقب على نقل ابن كثير.
23-قول الشيخ فى حديث الحق مع عمار- ضعيف جدا - يقول الشيخ (بشر بن الفضيل مجهول بالنقل " .قلت : وسيف بن عمر متهم ، فالحديث ضعيف جدا . )
24- وهذا نقل آخر عن الألباني من السلسلة الضعيفة (وهذا موضوع ؛ آفته خالد هذا ؛ قال في "التقريب" :"رماه ابن معين بالكذب ، ونسبه صالح جزرة وغيره إلى الوضع" .ومن فوقه مجاهيل . وقال ابن عبدالبر في ترجمة سهل بن مالك من "الاستيعاب" :"حديث منكر موضوع ، وفي إسناده مجهولون ضعفاء ، يدور على خالد بن عمرو القرشي ، وهو منكر الحديث ، متروك الحديث" .ثم أخرجه أبو نعيم من طريق سيف بن عمر : حدثنا أبو همام سهل بن يوسف به .قلت : وسيف هذا صاحب كتاب "الردة" ؛ حاله قريب من خالد بن عمرو ؛ قال الحافظ في "التقريب" :"ضعيف في الحديث عمدة في التاريخ ، أفحش ابن حبان القول فيه" .قال ابن حبان في "الضعفاء" (1/ 245) :"اتهم بالزندقة ، كان يروي الموضوعات عن الأثبات" .وقال الحاكم :"اتهم بالزندقة ، وهو في الرواية ساقط" .)....أرأيت كيف جعل الشيخ سيف بن عمرو قريب من خالد الذي قيل فيه منكر الحديث ومتروكه.
25- يقول الشيخ الألبانى (وأما (سيف بن عمر) ؛ فمعروف ؛ لكنه متهم بالوضع ؛ قال الذهبي في "المغني" :"له تواليف متروك باتفاق..انتهى الاقتباس.
قلت"سامح عسكر": وهكذا يظهر دفاع ابن حجر عن سيف وقوله"عمدة في التاريخ" .. بل دافع عن الراوي في رده على من اتهموه بالزندقة، ومذهب ابن حجر في تعيين الصُحبة هو مذهب الرؤية- كما هو مشهور، لذلك نراه وقد جمع في الإصابة جمعاً غفيراً من الرجال ينسبهم للصُحبة ،وكأن ابن حجر بهذا الجمع قد استفاد من كُتب سابقيه وعلى ما يبدو أن إضافاته كانت أكثر... لذلك أرى أن من يريد معرفة الصحابة عليه بعدم حصر معلوماته في سلك ابن حجر والذهبي فكليهما مدرسة واحدة-تقريباً-والبديل ورغم أسبقيته إلا أنه كتاب جيد لمعرفة الصحابة وهو كتاب ابن عبدالبر المسمى"بالاستيعاب في معرفة الأصحاب"..وهو أفضل الموجود من كُتب التراث عن الصحابة...بينما الشائع هو انتشار رؤية الإمامين ابن حجر العسقلاني والذهبي وكلاهما من مُعظّمي السند دون الدراية ، لذلك فهم يُثبتونه كحقيقة تاريخية ولكن برواية دون رؤية..مسألة سهلة التصور..نعم يصعب علينا تصور التاريخ أو القطع بأحداثه ثبوتاً ونفياً..ولكن في قضايا الوجود لا محيص من القطع..والشُبهة هنا داحضة الوجود إن لم يُثبت الآخر بدليل صحيح عن عقل صريح هذا الوجود..
بتفصيل أكثر حول التساهل مع سيف بن عمر في الروايات التاريخية وعدم قبوله كراوي حديث...قرأت اعتماد سيف بن عمر كمؤرخ لدي الذهبي وابن حجر وغيرهم ..في حين أصل شهادة المحدثين له بالضعف..ووثاقة الإنسان منا في "عِلمه-وقدرته-وأخلاقه-وأمانته"..هذه شروط رئيسة خارج إطار التفكير داخل المذاهب والأديان بدلالة توثيق الشيعي لدي البخاري في وصل روايات السُنّة..هنا تُثار عِدة إشكالات..
1- أيهم أدق رواية وأقل عدد من الكلمات..التاريخ أم الحديث...الجواب هو الحديث..وهو دافع من الدوافع التي جعلت من علماء أهل السنة يتشددون في رواية الحديث....هذا منطقي.
2-وعليه فمن يُحكم عليه بالكذب والفبركة في الحديث -وهو أدق رواية وأقل عدد من الكلمات..فمن المنطقي أن يُحكم عليه بالكذب والفبركة فيما هو أعلي منه من حيث عدد الكلمات –حتى إن لم يكن للدقة حساب..
3- أعتقد أن سبب توثيقه كمؤرخ لدي الذهبي وغيره هو اعتماده كراوي
أصيل لروايات الفتنة-كما شددت في أكثر من موضع..ولو أسقطه الذهبي كمؤرخ فهذا إسقاط من الذهبي لتاريخ الفتنة بأكمله..أما في الجانب الحديثي فسهل تكذيبه دون ضرر..وقد أثبتنا ضعف هذا القول –منطقيا..
4-هناك إِشكالية عقلية كيف لراوي متهم بالزندقة لدي ابن حبان والحاكم والنيسابوري..أن يُوثق كمؤرخ لدي الذهبي..حتى لو اعتددنا بحُجة "التاريخ والحديث" الملقاة..فلماذا لم يبحث الذهبي في أسباب الحُكم وتفصيلها دون رد قول ابن حبان باختزالية..ولم لم يرد علي ابن معين وهو من هو في الحديث ورجاله..
5-الحديث هو بالأصل تاريخ -من حيث المضمون..والكذب في المضمون هو كذب كلي وليس جزئي كي نثبته هنا وننفيه هناك.
6-البعض يجيز الراوية التاريخية عن الضعفاء والمتروكين بحُجة تساهل جمهور أهل العلم في التفرقة بين ما يشترط للروايات الحديثية وما يشترط للروايات التاريخية فيتشددون في الأولى لأنه ينبني عليها العمل ويتساهلون في الثانية متبعون لمنهج النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه الذي أجاز لنا الرواية عن بني اسرائيل "ولا حرج"!!..والرد على ذلك سهل وبسيط أن الاحتجاج بجواز الرواية عن بني إسرائيل مصحوب بأمر واضح خُلاصته في .."لا تصدقوهم ولا تكذّبوهم"..والاعتداد بجواز الرواية عن بني إسرائيل واستخدامه كذريعة للتساهل في نقل روايات التاريخ مخالفة لأمر رسول الله بعدم التصديق أو التكذيب ..وعليه -وحسب أمر رسول الله- جاز لنا الطعن في أهلية سيف بن عمر كمؤرخ صادق وليس عمدة في التاريخ!
وهنا أو أن أقف وقفة.. أولاً: سيف بن عمر ساقط الرواية وسلوك الاختلاق مُحتمل منه "عقليا" ..ثانياً:أن شخصية القعقاع ليست شخصية مجهولة كي تندثر لدي الرواة المعاصرين لزمن الفتنة بهذا الشكل..أكيد لو كانت موجودة لجاء إلينا خبرها بأكثر من طريق غير سيف بن عمر التميمي..هذه شخصية صُنع عنها مسلسل درامي كامل ..يعني -وحسب العُرف الإنساني -أن الروايات الناقلة لها ولأخبارها كثيرة وكثيرة جدا..لدرجة أنها قد تتجاوز عدد الروايات الناقلة لبعض الصحابة الثابت وجودهم ولا نزاع فيهم...حتى أن ملامح الشخصية نفسها وبواسطة الرؤية التاريخية تستشف منها بطولة غير عادية..وأنها تعدّت كونها شخصية هامشية أو صحابي غير معروف أو حتى تابعي مجهول...أنت أمام قائد معركة تنافس في البطولة مع صحابة أفذاذ كخالد بن الوليد..بل وتعدي بطولته في كثير الروايات الناقلة لآثاره..
منطقيا.. شخصية بهذا المستوي من الشُهرة فلابد من ذكرها أو حتى تواتر أخبارها..وعدم الاكتفاء بذكرها تاريخيا..بل ستُذكر أيضا حديثياً..إذاً هناك منطقة مُظلمة تجعل الفرد منا وهو يقرأ عنها يقعد في حيرة..من هذا المُدخل أري أهمية سلوك الرؤية التاريخية كبديل ولو مؤقت عن الرواية والتي وحتى الآن عجزنا عن وصلها بزمن المتقدمين..
عرضنا هذه الرؤية على المخالف مستشكلاً انفراد سيف بن عمر"الكذاب" في الرواية عن القعقاع.. فقال.." ما كتبه علماء المسلمين قبل سيف بن عمر مما يخص السيرة وأحداث التاريخ الإسلامي الأولى في حكم المفقود والنادر"..وحسب هذا الكلام فالمخالف يقر بأنه لا يوجد دليل يوثق أحداث القعقاع من غير طريق سيف بن عمر، ولكن عزا عدم التوثيق لاندثار وفقدان الأصول التاريخية التي توثق تلك الحقبة..والرد على هذا الادعاء أنه لو كان ذلك يصلح تبريراً فلماذا لم نحمله على كافة الصحابة وأن اندثار وفقدان الأدلة لن يصيب القعقاع بمفرده بل سيطال شخصيات أخرى مؤثرة..
ولكن بعد البحث أكثر تبين أن هناك طريقاً آخر يوثق القعقاع من غير طريق سيف وهو رواية ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق ص 109 وقصر الأمل ص 182 إذ يقول فيها "حدثنا سوار بن عبد الله نا مرحوم بن عبد العزيز نا القعقاع بن عمرو قال : صعد الأحنف بن قيس فوق بيته فأشرف على جاره فقال سوءة سوءة دخلت على جاري بغير إذن لا صعدت فوق هذا البيت أبدا " انتهى...وهذا سند صحيح متصل يثبت وجود القعقاع وصحة روايته-حسب كلام المخالف.
وسنرد على ذلك من وجهين..
الأول: هذا الطريق يُثبت وجود القعقاع بن عمرو من طريق ابن أبي الدنيا عن عبدالله بن سوار عن مرحوم..وهذا طريق عن غير سيف بن عمر ولكنه لم يكن قبل سيف بن عمر بل بعده..وفاة سيف بن عمر التميمي 180 هـ..ووفاة ابن أبي الدنيا 281 هـ..أي بعد وفاة سيف بن عمر بحوالي 100 عام..والسؤال الأبرز كان عن إمكانية الكشف عن ذكر القعقاع قبل زمن سيف وهذا غير موجود.
الثاني: أن سند ابن أبي الدنيا مقطوع لأن مرحوم بن عبدالعزيز والذي من المفترض أنه نقل عن القعقاع عاش في القرن الثاني الهجري بينما -وحسب ترجمة القعقاع- فقد توفي في العام 40 هجرية..وهذا يعني أن السند مقطوع..علاوة علي كون أبي الدنيا جاء بعد زمن سيف..وما دام ذكر مغازي القرنين الأول والثاني ليس متاحا إلا من سيف فهذا يُعزز من توقعي بأن توثيق الذهبي وابن حجر لسيف بن عمر "كمؤرخ" كان لهذا السبب ألا وهو انعدام آثار تلك الحقبة إلا من طريق سيف..وإلا ذكر الحافظين ذكرا في سيف والقعقاع من غير سيف ولو عزواً أو بلاغا.
حتى الآن تبقي الإشكالية كبيرة..أنه لو فرضنا صحة ما ذهب الكثير بعض المحدثين –كالشيخ أبي إسحاق الحويني السلفي الذي قال بأنه لا يوجد صحابي بهذا الإسم-..فهذا يعني أن تاريخ الوفاة الوارد في الترجمة غير صحيح وإلا كان صحابياً..وحتى الآن لم يُثبت له صُحبة أو حياة في زمن الخلفاء الراشدين والفتنة..وعليه فاختلاق الشخصية وارد من جِهة كون وجوده محتملاً في زمن متأخر كتابعي ثم وبحكم كذب سيف بن عمر نسب سيف للرجل بطولات وهمية قد يكون قد وضعه محل بطولات خالد ابن الوليد كما ذكر المؤرخ المدائني خالد في موضع.. ذكر محله الطبري عن سيف القعقاع..
مسألة اختلاق الشخصيات مقبولة عقليا وعلميا..فالتاريخ في الماضي كتُب علي هوى السلطان..ودول مستبدة كالأموية والعبيدية والصفوية..فاق استبدادها السياسة بل تعدي إلي الدين..هذا مؤثر عظيم علي المؤرخ والراوي..حتى اختلاق المكان أيضا جائز عقليا وعلميا..قصة أصحاب الكهف وما روي في تفاسير المسلمين وما توافق بين التفاسير الإسلامية وعقائد المسيحيين حول أسطورة النُوّام السبعة خير مثال..حيث اختلقوا كهفا في أوروبا الشرقية علي أنه الصحيح وهو مكان الحدث..ثم اتضح علمياً أنها كانت أسطورة متداولة من أيام أرسطو أي قبل زمن المسيح..وقد كانت مُدخلا كبيرا للطعن في القرآن لولا سلوك الباحثين بإعادة النظر في القصة بمنظور غير منظور المفسرين واتضح أن الكهف ليس في أوروبا بل في الأردن..وأن القرية التي كان فيها أصحاب الكهف المؤمنين كانت يهودية وليست رومانية وأصحاب الكهف أنفسهم كانوا مسيحيين موحدين..وهذا يُثبت المنهجية التاريخية الضعيفة التي تعاملنا بها مع التاريخ....
الشاهد أن التاريخ يلزمه وصل ثقة -علي الأقل لإثبات الوجود وإلا وقعنا ضحية للتصيد الغير النزيه..مؤرخ متهم بالزندقة يروي تاريخ المسلمين ويُتهم باختلاق شخصيات عجزنا عن إثباتها..هذا تاريخ مسلمين ويجب تحري البحث فيه بدقة..ولو أعملنا قواعد الحديث في التاريخ لكان لدينا رصيد تاريخي أكثر دقة..ولكن التساهل فيه هو ما جلب علينا هذه النكسات..لذلك اعترضت علي منهجية توثيق بعض المؤرخين وإن كانوا ضعفاء وكذابين في الحديث ومن أمثالهم الراوي الذي نحن بصدده المسمى "بسيف بن عمر التميمي" فقد وثقه بعض الفقهاء والمحدثين "فقط كمؤرخ" والسبب كما أسلفت أنه يعد هو الراوي الوحيد صاحب النصيب الأكبر من روايات الفتنة وما عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم..
أيضاً لدحض أي شبهات تعتري ما وصل إليه البحث وجب علينا للتقريب أن نضرب الأمثلة من الواقع كي تكون الرؤية أكثر وضوحاً بسؤال أو أكثر قاضٍ حاكم..سنسأل سؤال وعلى أي مخالف الإجابة عليه بوضوح.." هناك رجلين الأول عاش في القرن التاسع عشر..والثاني عاش في القرن الحادي والعشرين...ادعى الثاني–كأول شخص يدعي ذلك- أن هناك شخصا يسمي القعقاع بن عمرو معاصرا للأول في القرن التاسع عشر..وكان صاحب بطولات وسجايا قويمة..وزعم له مواقف مع أصحاب الأول...بينما عُرف عن الثاني وثاقته كمؤرخ..ولم يُوثّق كراوي للحديث...سمع الناس من الثاني بطولات عن القعقاع..فهل للناس أن يصدقوه بدون الرجوع لمعاصري الأول بطُرق نقل صحيحة..أم يكتفوا بحكايات الرجل ويصدقونها لأنهم يُحسنون الظن بالثاني أو أنهم يوثقونه كمؤرخ"...انتهى..
إن الإجابة على هذا السؤال ستضع المشرط في الجرح قولاً إما لعلاجه أو لإيذائه ، فالباحث في التاريخ يجب أن يتجرد من أي مرجعية مذهبية أو خلفية أيدلوجية تمنعه من الحياد..وأصل السلوك الإنساني حين البحث في التاريخ هو الحياد والموضوعية وعدم مهابة الأفراد..فنحن لا نعلم وإلي الآن ظروف من أثبتوا حقيقة وجود هذه الشخصية...أو حتى من وثقوا ناقلها تاريخيا..وبينما كذبوه حديثياً وثقوه تاريخياً ومن هنا يأتي التناقض بانتفاء الصدق عن المضمون..
أيضاً فهناك من خاض في قضية "القعقاع بن عمرو التميمي" ومنهم الشيخ حسن بن فرحان المالكي وقد فصل القضية بمقالات مترابطة ضمن أجزاء أطلق عليها.."القعقاع بن عمرو حقيقة أم أسطورة"..وقد اطلعت علي الكتاب وقرأته من بدايته لنهايته والحُجج فيه قوية وجميعها أدلة من التراث السني دون غيره..هناك من رد علي المالكي وأشهرهم د . سليمان بن حمد العودة في كتابه .." الإنقاذ من دعاوى الإنقاذ من التاريخ الإسلامي ".. وقرأت مساجلات ثنائية وردت ضمن سياق صحفي وثقته الصحف السعودية تحت عنوان.." آراء وأصداء حول عبد الله بن سبأ و روايات سيف في الصحف السعودية "....كان حوارا ممتعا، تارة يهدأ وتارة أخري يشتد،ولكن في النهاية كان حوارا ماتعا فصّل المسألة بشكل أكثر حِرفية..
هناك من صنع بحوثاً حول الراوي"سيف بن عمر التميمي" وحاول توثيقه كمؤرخ ثم بدا للقارئ أن هناك بحثاً لم يقف فقط عند توثيق سيف مؤرخاً بل تعداه البحث إلى توثيقه كراوي حديث، وهذا يخالف "إجماع" أئمة الجرح والتعديل. ...كمثال ما صنعه الباحث الكريم الدكتور أحمد معبد في العمل على توثيق سيف تاريخياً فإذا به الحال يصل لتوثيقه حديثياً!!!..ووصل إلى نتيجة مفادها ما يلي.." ما يرويه سيف من الأحاديث النبوية يعتبر ضعيفا بسبب ضعف ضبطه للروايات الحديثية، لانشغاله بالتاريخ، لكنه ضعف قابل للانجبار بما يعضده من متابع أو شاهد كما هو معروف، وذلك إذا لم يكن في الحديث علة أخرى من جهة غيره، كحديث معلموا صبيانكم.. أما رواياته التاريخية فإنه يحتج بها فيما ينفرد به لاعتنائه بضبطها ومعرفتها كما تقدم، وذلك إذا لم يخالف أرجح منه، أو توجد علة أخرى من جهة غيره."انتهى
قلت: أستغرب تبرير الباحث للضعف الحديثي لسيف بعلة انشغاله بالتاريخ..نتيجة دون مقدمات منطقية وإلا جاز لنا -هو راوي ضعيف قابل للانجبار كما يقول..أن لا يحتج بروايته التاريخية لانشغاله بالحديث-منطق معكوس...فالحديث في مضمونه تاريخ ..صحيح البخاري نفسه تاريخ..والرواية إن لم تُنقل بحِرفية وأمانة تساوى مقدار الأمانة والصدق بمعيار الذات وصلاحها أو أهليتها فلا حجة لها..فهذا التبرير السَمِج-وسامحوني على اللفظ فلم أجد غيره لوصف هذا الفعل-يُوجه إليه سؤالاً حاسماً..والسؤال هو كيف عرف ذلك؟!!..ولماذا لا نفترض العكس؟؟!..بكل بساطة إن ما فعله الباحث هو تحكمٌ بلا دليل..حتى طريقة توثيقه لسيف بن عمر ستصل بالرجل حتما لمرتبة لم يصل إليها عند الحُفاظ...وهذا دفاع غير منضبط عن شئ مجهول..وما كان رصدنا لدافعه إلا توثيق لخلفيته التي يتحدث من خلالها.
لكن الباحث نفسه يجيب علي هذا الغبش بقوله في مقدمة بحثه.." "وقد ألف سيف في التاريخ الإسلامي كتابين اشتهرت نسبتهما إليه وهما: كتاب الردة وكتاب الفتوح وموضوع الكتابين كما ترى حساس للغاية، لتعلقه بمرحلتين من أدق وأصعب مراحل تاريخ المسلمين"..انتهى
قلت: هذه هي مرجعية الباحث في بحثه..حساسية المرحلة ودقتها وصعوبتها..إذاً أستنتج أن ذلك هو دافعه من وراء البحث..وبالتالي ليس غريبا أن يقع في الخطأ المنطقي السابق هكذا دون وعي..أيضاً فالباحث يُقر بحِجّية سيف التاريخية ولكنه يربطها بعدم مخالفة الأرجح أو وجود علة أخري من جهة غيره..وهذا يبطل الاستدلال به في قضية "وجود" القعقاع..لأن الأرجح ثابت وهو عدمية ذكر هذه الشخصية من أي مصدر خلافاً لذلك الراوي..والعلة الأخرى المذكورة هي ذاتها ما ثَبُتَ رُجحانه..
أخيراً فالبحث في القضية لن يتجاوز حدود البحث عن شئ مجهول، هذا لأننا نتعامل –في الأصل- مع نصوص ميتة بحاجة للدفاع عنها من أصحابها –وهذا مُحال-لذلك وَجب تحكيم العقل لتجريد المسألة وإعطائها لبوساً منطقياً يصلح لكي يكون دليلاً شرعياً أو تاريخياً، فالمسألة تاريخية بحتة ولكن لها أفرع وذيول تتعداها لأحكام وفقه المذاهب..نعم هذا صحيح..فسقوط رواية"سيف بن عمر" تاريخياً يعني أن الشخصية الثانية التي انحصرت روايتها عنده هي الأخرى مشكوك في صحة وجودها..هذه الشخصية هي"عبدالله بن سبأ اليهودي"..لننظر إذاً لكم المتناقضات والخلافات والأسئلة التي لم توجد لها إجابات..هذا كي نقف على رؤية كاملة الأركان نستطيع بها الوقوف على حقائق التاريخ .
التعليقات (0)