لم تكن فكرة إنشاء أكاديمية اللغة العربية حديثة العهد بل وجدت بوادر تأسيسها خلال أواخر القرن التاسع عشر بهدف مواكبة التحولات المتسارعة التي تشهدها الحضارة الإنسانية في مجالات العلم والإعلام والصناعة، والتكنولوجيا، وهو الأمـر الذي استدعى تحديثا في درسها اللغوي والمعجمي بما يستوعب عميق تحولات الحضارة التي تتبدل يوما بعد يوم، وإذا ما كانت هذه هي الدواعي الموضوعية، فإن الأمر بات يستدعي إلحاحية أكبر حين تتعاظم اتهامات التغريبيين أو مسامير الفرنكفونية، وضد دستورية اللغة العربية رأسمال الهوية الثقافية والحضارية.
وحيث أن الوفاء لوطنيتنا والإخلاص لوطننا ولمقدساته يتم من خلال تعزيز دور اللغة العربية في مناح العلم والإعلام والعلوم، وهي دواعي كانت من وراء إقرار الميثاق الوطني للتربية والتكوين بأكاديمية اللغة العربية، وعجلت بإصدار جلالة الملك لظهير شريف رقم 1-03-119 لنفس الغاية في 18 ربيع الثاني (19 يونيو2003) بمثابة قانون رقم 10-02، والذي صادقت عليه وبالإجماع كافة الكتل البرلمانية في غرفتي مجلس النواب الأولى والثانية. هيئة علمية أو مؤسسة ذات سلطة مرجعية وطنية تبت بصفة رسمية في سلامة اللغة العربية وحمايتها أدوار حيوية لإجراء أبحاث ودراسات تطوير وتحديث اللغة العربية وتقوية حضورها في مجالات الإعلام والعلوم والتعليم.
ففيما نحن لا زلنا نتلكأ في إخراج أكاديمية محمد السادس للغة العربية إلى حيز الوجود؛ وعلى مدار نصف عقد من المصادقة على قانونها، وهـو انتظار طويل ومقـرف، وتزداد قرافته، حين نسمع بمبادرة كيان صهيوني معاد لنا (إسرائيل) ينشئ أكاديمية إسرائيل للغة العربية، بعدما صادق كنيستها في الشهر الجاري على قانونها، لتشكيل -ما يسميه- جسرا ثقافيا بين السكان في إسرائيل وبين إسرائيل والدول المحيطة بها، كما تعد اللغة العربية اللغة الرسمية الثانية لإسرائيل. وتزداد قرافة هذا الوضع حين تنتخب لغتنا العربية من بين ست لغات رسمية، استنادا إلى معايير محددة كمعيار عدد الناطقين بهذه اللغات أو المعيار الوظيفي أو المعيار الاقتصادي، ضمن لغات الأمم المتحدة الكيان المعنوي الذي يضم هويات لما يفوق 190 دولة منتمية إليها.
وفي ظل هذه المعطيات التي ترتبط بسياقنا الداخلي الهوياتي، متى يطلق سـراح أكاديمية اللغة العربية ويلوح صبحها في الأفق لترى النور، بعدما بدت كل الفعاليات السياسية الوطنية مهتمة بالموضوع، منذ حكومة الوزير الأول آنذاك إدريس جطـو، وهو ما يفسر عـدد التساؤلات التي ألقيت في غرفتي البرلمان حول جدول زمني للولادة الواقعية لأكاديمية محمد السادس للغة العربية وإخراجها إلى حيز الوجود، إلا أن هذه الطموحات ظلت مخيبة للآمال، وهو ما تثار معه تساؤلات عدة في الأذهان.
إذ في مصلحة مـن تعطيل مبادرة جعل اللغة العربية لغة بحث علمي وإعلام وتواصل يومي، وهل ثمة أيادي خفية تقف ضد هذا العمل الوطني النبيل، وهو ما يثير استفهامات جماعية حول درجة توافر إرادة سياسية جماعية لنفض الغبار عن هذا الملف وترجمة تفاصيله على أرض الواقع وفق منصوص دستور المملكة، وتجسيدا لمقتضيات الميثاق الوطني للتربية والتكوين.
وإلى متى يستمر تقاعسنا في إيجاد مؤسسة علمية بسلطة مرجعية تعمل على تقوية حضور العربية في مجالات الإعلام والعلوم والتعليم، وتصون أساس هويتنا في وقت بتنا نهملها فيه، ولم نعد نؤمن بقدراتنا الذاتية، في مقابل تأكيد تجارب عالمية أن النهضة العلمية والعمرانية التي حققتها التجربة اليابانية والصينية والاسبانية بلغتها الوطنية وقدراتها الذاتية، وهي تجارب تؤكد بما لا يدع مجالا للشك بأن الأصل والطبيعي في تقدمنا ونهضتنا، نابع من مدى تعزيز لغتنا الوطنية، أمـر تحرص عليه بشدة كل الدول الغربية في مؤسساتها العلمية والتعليمية والإعلامية، بالحضور القوي للغتها الوطنية، لأن من شأن ذلك رفع من وطنية وهوية مواطنيها والسمو بمستوى المتعاملين بلغاتها.
فأولم يكن حري بنا أن نقلـد فـرنسا (التي نكاد نقلدها في كل شيء) في تجريم من يتحدث في الوزارات والإدارات العامة غير لغته الفرنسية، وأولم نأخذ عن فرنسا نزعتها اللغوية حين احتج ميتران عن مواطنه الذي تحدث في مؤتمر رجال الأعمال بالانجليزية، وأولم نأخذ عن فرنسا تغيير كل اليافطات التي كتبت باللغة الإنجليزية إلى الفرنسية.. وأولم يكن لبعض رؤساء دولنا العربية أن يتكلموا اللغة العربية في المحافل الدولية، في وقت جعلتها الأمم المتحدة إحدى لغاتها، ودعت أمينها العام إلى التساؤل عن غرابة هذا الموقف، خاصة وأن تكاليف التقنيين والمترجمين مكلفة مادية.
إنها أسئلة تنبه إلى مستقبل هويتنا الثقافية وأنطولوجية حول مستقبل تواجدنا واستمراريتنا أمة بحضارة عريقة تتلاقح ثقافيا ولغويا وترفض الذوبان وتغريب التغريبيين، فقد قال مستشار صاحب الجلالة الدكتور عباس الجراري في ندوة أكاديمية فاس "استعمال اللغة العربية في المغرب" 25 و 26 ماي 2005، إن الابتعاد عن اللغة العربية في كلتا الصورتين، سواء باللجوء إلى لغة أجنبية أو لهجة عامية، لا يؤدي ولن يؤدي سوى إلى تقوية تيار التغريب وزرع بذور النزعات العرقية والنعرات العنصرية التي لا تفضي عند تمكنها من النفوس إلا إلى الصراع والصدام، ثم إلى التفرقة والانقسام، ومن ثم إلى إيجاد هويات ممسوخة وكيانات ممزقة... وهو ما يستدعي تقوية اللغة العربية الخيط الواصل بين المغاربة كافة، وكذا بين العرب والمسلمين على العموم، والجامع لشملهم، والمعبر عن انتمائهم، والرامز لوحدتهم.
عبـد الفتـاح الفـاتحـي: مستشـار الجمعيـة المغربيـة لحمايـة اللغـة العربيـة في الإعـلام والتواصـل والشـؤون القانونيـة
التعليقات (0)