مقولة نطق بها المرشد الثاني لجماعة الاخوان المسلمين الأستاذ (حسن الهضيبي) رحمه الله تمثل عبقرية هذا الرجل وفهمه العميق وإدراكه الدقيق للنفس البشرية التي منها ينطلق كل تغيير، فهي مقولة شاملة وجامعة ومانعة تبين الطريق بوضوح لإقامة الحكم الاسلامي والدولة الاسلامية المنشودة التي تهفو اليها قلوب المسلمين، وبدون إقامة هذه الدولة في القلوب فلن يكون لها قيام على أرض الواقع.
وقد تعرضت هذه المقولة للانتقاد من قبل بعض سقيمي الفهم من الذين يعتبرون أنفسهم أتباع السلف، حيث حملوه على غير ما قصده المرشد وقوّلوه ما لم يقل واتهموه بالإرجاء كعادتهم في توزيع الاتهامات هنا وهناك، وقالوا انه يرى ان المكلف بإقامة دولة الاسلام والقران هو القلب فقط دون الجوارح!. وتناسوا أن الرجل كان قائدا لأكبر جماعة اسلامية تعمل من أجل الاسلام وإقامة دولة الاسلام وانه دخل سجون عبد الناصر وناله أشد أنواع التعذيب وهو الشيخ الكبير من أجل دولة الاسلام.
إن إقامة دولة القران والاسلام في القلوب لا تعني نسيان الجوارح كما يدعي هؤلاء، فالقلوب هي نقطة انطلاقة تصرفات الجوارح، وإذا لم تصفُ القلوب فلن تصفو الجوارح، وإذا لم تترسخ أوامر القران ونواهيه في القلوب فلن تجد لها انعكاسا في تصرفات الجوارح، فالعبارة تبين الخطوة الأولى من خطوات إقامة الدولة الاسلامية والتي هي عبارة عن تغيير القلوب والنفوس.
لقد استلهم الرجل عبارته هذه من الحقيقة القرانية التي توضح منهج التغيير في قوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] الرعد/11. فالتغيير يبدأ من النفس، ومن يحاول تغيير الواقع دون الانطلاق من النفس فهو كمن يحاول أن يبني على ماء، والتاريخ شاهد على أن كل الحركات والثورات والانقلابات التي حاولت التغيير من السطح متجاوزة بناء النفس وتربيتها وإعدادها، كان مصيرها الفشل والتراجع، رغم تسخيرها لكل الجهود، واستخدامها لكل الوسائل الشريفة وغير الشريفة.
يقول صاحب الظلال الشهيد سيد قطب (رحمه الله) عند حديثه عن هذه الآية الكريمة: "وإنها لحقيقة تلقي على البشر تبعة ثقيلة; فقد قضت مشيئة الله وجرت بها سنته، أن تترتب مشيئة الله بالبشر على تصرف هؤلاء البشر; وأن تنفذ فيهم سنته بناء على تعرضهم لهذه السنة بسلوكهم. والنص صريح في هذا لا يحتمل التأويل. وهو يحمل كذلك - إلى جانب التبعة - دليل التكريم لهذا المخلوق الذي اقتضت مشيئة الله، أن يكون هو بعمله أداة التنفيذ لمشيئة الله فيه".
ولا يجد المرء مثالا على أهمية التغيير النفسي خيرا مما قام قدوتنا الداعية الاول لهذا الدين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي ظل يربي أتباعه على معاني الايمان والتقوى والصبر والجهاد والتضحية والفداء مدة أكثر من اثنتي عشرة سنة قبل أن يقوم ببناء الدولة في المدينة المنورة، فقد قام عليه الصلاة والسلام ببناء دولة القلوب قبل دولة الواقع، وهذّب النفوس وأعدّها للخطوة العملية ببناء الدولة، وكان حتى إذا آن أوان إقامة دولة الاسلام أعلن ذلك لأتباعه وأمرهم بالهجرة وترك الديار والأموال والاتجاه الى الأرض التي قامت عليها الدولة.
وهكذا فإن على الحركات الاسلامية أن تولي هذا الجانب حقه من الاهتمام، وينبغي أن لا ينسيهم الاشتغال بالسياسة وهمومها ودخول البرلمانات والوزارات تربية النفوس وتزكيتها وزرع بذور الايمان والتقوى فيها، والطريق الى بناء الدولة المسلمة تبدأ من بناء الفرد المسلم ثم الأسرة المسلمة ثم المجتمع المسلم الذي إن قام فلن يرضى بغير الاسلام حاكما، فالفرد المسلم هو اللبنة الأولى في الأساس المتين الذي ينبغي أن تقوم عليه الدولة، ومتى كان الأفراد نماذج حية للقران وامتثلوا أوامره ونواهيه فإن دولة الاسلام ستقوم على أيديهم بإذن الله، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله..
التعليقات (0)