في أي نهضة تحررية يكون للقلم دوره المحوري، فالنتاجات الأدبية والفكرية والثقافية قد تكون فعلا سياسيا بامتياز إذا استطاعت أن تكون معبرا أو جسرا لحياة إنسانية أفضل.
وعندما تتعلق النهضة بحرية الإنسان وحقه في العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص والمواطنة الكاملة، تكون المسؤولية الملقاة على القلم أكبر وأثقل. فإما أن يكون محرضا على النهوض مساهما في صنعه، أو أن يكون مثبطا للهمم سادنا للتخلف مكرسا للواقع الجائر.
الأدب الأمريكي الأسود لم يتأخر أبدا عن معاناة السود في الولايات المتحدة سواء في المرحلة الاستيطانية المصاحبة للعبودية والاسترقاق، أو ما بعد الحرب الأهلية المصاحبة للعنصرية المؤسساتية وتطبيق قوانين جيم كرو للفصل العنصري، أو ما بعد إقرار تشريعات الحقوق المدنية إلى يومنا هذا.
فيليس ويتلي اختطفت في السنغال عام 1761 على يد البيض. ثم عُرضت للبيع في بوسطن وعمرها ثمانية أعوم. اشتراها تاجر بوسطن جون ويتلي، وحظيت برعايته وزوجته وابنته، حيث تعلمت القراءة والكتابة ثم بدأت بكتابة الشعر في سن الثانية عشرة، وكانت أول من نشر كتابا عبارة عن مجموعة شعرية من الأفريقيين الأمريكيين. وقد شكل ذلك حدثا كبيرا، حيث استطاعت ويتلي أن تثبت إنسانيتها من خلال أشعارها، وأن تبرهن للآخرين أن السود لا يختلفون عن غيرهم في امتلاك أحاسيس شاعرة ومبدعة.
فيليس ويتلي التي كانت مقطوعة من شجرة كما يقول المثل الشعبي، حيث اسمها الأول مأخوذ من اسم السفينة التي أحضرتها إلى بوسطن، واسمها الأخير هو اسم العائلة التي اشترتها، استطاعت أن تغير النظرة السائدة عن السود وقدراتهم.
لم يكن من السهل على المجتمع الاستعماري في بوسطن تقبل فكرة وجود شاعرة سوداء. فالأسود في نظرهم لا يمتلك القدرة على الإحساس الأصيل الذي هو شرط الإبداع الفني. لذا فقد تشكلت لجنة من 18 شخصا للنظر في أعمالها قبل نشرها للتأكد من أنها بالفعل هي من كتبت تلك الأشعار.
ركزت فيليس في أشعارها على فكرة الخلاص والحرية السياسية وموضوعات دينية وأخلاقية، وكانت قصائدها مدخلا لتحررها بعد أن حققت اعترافا دوليا بموهبتها.
وفي فترة لاحقة كان لأدب السير الذاتية للعبيد الفارين أثر كبير في التعريف بقضيتهم ونقل صوتهم للآخرين. وأبرز مثال على ذلك مذكرات فريدريك دوغلاس عن حياته كعبد أمريكي، وكتاب جون براون ( الفرار، قفزة نحو الحرية)، وكتاب بوكر تي واشنطن (النهوض من العبودية)، وكتاب (أحداث في حياة فتاة من طبقة العبيد) للكاتبة هارييت يعقوب والذي نشرته باسم مستعار هو ليندا برينت.
وهنا نحتاج وقفة، إذ يعاني مجتمعنا من فقر شديد في مجال كتابة السيرة الذاتية مما يعيق تراكم التجارب ومشاركة المعرفة knowledge sharing بين الأجيال، ويتسبب بالتالي في إبطاء عملية التغيير. فالسير الذاتية للسود والمدونات التاريخية لحركاتهم مثل مدونة تاريخ الكنيسة المعمدانية للملونين، ومدونة تاريخ العرق الزنجي في أمريكا، عملت جميعا كوسائل لتصحيح التاريخ وسجلاته التي كان بعضها يتعمد تشويه صورة السود في الذهنية العامة.
من المحطات الهامة أيضا في تاريخ الأدب الأمريكي الأسود المحطة المعروفة باسم (نهضة هارلم)، حيث استطاع أبناء الطبقة المتوسطة من المهاجرين الأفارقة المقيمين في حي هارلم بنيويورك جعل هويتهم وحراكهم الثقافي جزءا من النسيج الثقافي الأمريكي العام في الفترة الممتدة ما بين 1920 و1930 متحدين التمييز العنصري وازدراء البيض لهم.
لقد كافح السود بكل الوسائل المشروعة لانتزاع حقوقهم، وكان القلم والبيان على رأس تلك الوسائل التي استطاعت أن تخلق ثقافة جديدة في المجتمع الأمريكي يتقبل الآخر وينظر إليه على أنه نظير له في المواطنة التامة.
لم تكن تتخيل فيليس ويتلي أن تمنح الشاعرة السوداء ريتا دوف لقب أميرة شعراء أمريكا في العام 1994م، أو أن تنال الأديبة السوداء توني موريسون جائزة نوبل للآداب عام 1993م، أو أن يصبح الأسود باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة في العام 2009 م. ولكن ذلك أصبح واقعا بالعمل الدائب والعرق والتضحيات الجسام.
التعليقات (0)