صعوبة الاختبار ، حرارة الجو ، قلة المنوم الملازمة لأيام الامتحانات ؛ كل تلك الأشياء امتزجت معا لتخرج مني في نظرة غضب وجهتها له بقوة وهو يدلف من باب لجنة الامتحان .
كان قصير القامة بشكل ملحوظ ، نحيل الجسم ، يكسو رأسه شعرا فضيا وافرا يكاد يغطي أذنيه تماما ، أنفه الكبير المعقوف يحمل فوقه عدسات طبية سميكة تدل على أن هاتين العينين الزرقاوتين القابعتين خلف العدسات قد احتملتا فوق طاقتهما حتى أوشكتا على إعلان التقاعد ، كلماته العربية أثرت أصوله اليونانية على معظم حروفها .
لكبر سنه كنا نشفق عليه من ثقل الحقيبة الجلدية المنتفخة التي لم تكن تفارق يده قط إلا عند دخوله لدورة المياه تاركا إياها أمانة غالية بيد تلميذته " سعاد " المعيدة معه بنفس القسم والتي كانت تلازمه كظله حتى أصبح هذا الثلاثي أكثر شهرة في الوسط الجامعي من ثلاثي أضواء المسرح " الدكتور أفلاطون ، سعاد ، والحقيبة البنية المنتفخة " ، يقال أنه يحتفظ في تلك الحقيبة بصور لكل أبحاثه ودراساته التي أجراها في حياته فهي أغلى ما يملك من حطام الدنيا .
بدأت همهمات الطلبة في لجنة الاختبار تردد : " دكتور أفلاطون " ، واختلطت الأصوات كلها تشكو من صعوبة الاختبار ، وعلى الرغم من ملامح الغضب التي تكسو وجوه الجميع ؛ إلا أن ابتسامته الميتة لم تكن تفارق وجهه ، ولم تكن إجابته عليهم أكثر لطفا من ملامح وجهه القاسية ، وبكلمات عربية ركيكة قال لهم : " أنتم طلبة غير مجتهدين ، طالب الجامعة الذي يدرس اللغة الإنجليزية ، لابد وأن يتعمق في دراسة الشعر الإنجليزي قديمه وحديثه حتى يكتسب روح اللغة " ، ثم استدار في هدوئه القاتل وانصرف تاركا طلابه يواجهون مصيرهم مع ورقة الأسئلة ، حاولت أن أستجمع كل ما أذكره من القصائد الخمسة والثلاثين التي ناقشها معنا أو فرضها علينا خلال العام الدراسي .
مضت الساعات الثلاثة التي هي كل زمن الاختبار سريعا ، خرج الجميع وقد ازدادت حالتهم سوءا وألسنتهم تلهج بالدعاء على ذلك الإنسان المعقد ، غطى على الشكاوى والاعتراضات والابتهالات صوت سيارة إسعاف تقترب ، تعلقت العيون بما قد استجد من أحداث ، لحظات وكان " الدكتور أفلاطون " يخرج من أكبر أبواب ذلك المعقل العلمي محمولا على النقالة ليستقر داخل سيارة الإسعاف وخلفه مباشرة " سعاد " حاملة حقيبته البنية .
وهناك ، في غرفة الإنعاش بالمستشفى كان " الدكتور أفلاطون " ممدا على سرير معدني أبيض ، يحيط بجسده النحيل رداء أخضر اللون من قطعة واحدة ، وقد امتدت مجموعة من الأسلاك والخراطيم تنتهي أطرافها عند أنحاء متفرقة من جسده في محاولة لإعادة قلبه العجوز إلى حالته الطبيعية ، فوق فمه يستقر جهازا يمده بالأكسجين ، وخارج الغرفة تقف سعاد تتطلع إليه بأسى عبر زجاج الغرفة .
فتح عينيه بصعوبة ، دارت عيناه في أنحاء الغرفة ، انتبه إلى وجود سعاد بالخارج ، رفع جهاز الأكسجين من على فمه ، أشار إليها أن تكلمه عن طريق سماعة الهاتف التي تصل بين داخل الغرفة وخارجها ، رفعت السماعة ، استمعت إلى كلماته تخرج من بين شفتيه بصعوبة ، قال لها : " سعاد ، تذكري جيدا " ، سكت قليلا ليلتقط أنفاسه ، ثم استكمل قائلا : " نسبة نجاح الفرقة الرابع ، يجب ألا تزيد عن ثلاثين بالمائة " ، ثم ارتخى جفناه ليذهب في غيبوبة طويلة .
التعليقات (0)