"الدِّيمقراطيِّة الدِّينيِّة - الإسلاميِّة" عنوانٌ بات يتصدر الأدبيات المعرفيّة بعد سلسلة من التراكم النظري السياسي وإرهاصات الفعل الاجتماعي في آن معًا، باعتباره مفهوم لا ينفصل عن المفاهيم التأسيسيّة في الفكر السياسي للإسلام المعاصر؛ وبإمكاننا أن نحدد اتصاله الاصطلاحي بالمنظومة المعرفيّة الحديثة، وحداثته كمفهوم موجبة للإحاطة بكل أبعاده ومبانيه وما يترتب عليه من آثار منعكسة على الواقع، من أجل أن يساهم كل ذلك في تحديد القواسم المشتركة بين "الدِّيمقراطيِّة الإسلاميِّة" وسائر المفاهيم المناظرة له، وكافة مؤشرات التمايز التي تفصله عنها.
وتوليفة اندماج "الدين والديمقراطيّة" ما كانت لتتبلور - معرفيًّا – لولا ما يتمتعان به من خواص داخليّة مؤهلة للعمل سويةً لبناء منظومة إدارية ناجزة لا تغادر الأصيل من خزائن التراث، وتدنو – في الوقت - من عالم يضج بما هو حديث، وذلك وفق التجربة البشرية ومدى الحاجة الماسة للإنسان المعاصر. وهذه التوليفة "الدِّيمقراطيِّة الإسلاميِّة" تنتظم بل تُناظر مع النماذج الأخرى والتي يمثل فيها مصطلح الدِّيمقراطيِّة حجر الزّاوية، مثل "الدِّيمقراطيِّة الليبراليّة، والدِّيمقراطيِّة الاشتراكيّة". وعلى الرغم مما نلمسه من فوارق جوهرية وتطبيقيّة لكل من هذه النماذج إلا أن "الدِّيمقراطيِّة" تظل المائز المستحق والمشترك لكل منها، خاصة إذا ما كان الأمر منوطًا بتنظيم العلاقة ما بين الدولة والمجتمع، أي المبادئ والمعايير التي تحدد كيفية عمل النظام السياسي، وهي ولاشك تُعد السمة المشتركة بين كافة الديمقراطيّات على اختلاف نماذجها.
الدكتور السَّيف ومن خلال هذا الكتاب أراد أن يؤسس إلى مناخ يُعالج فيه إشكاليّة العلاقة ما بين الدين من جهة والديمقراطيّة من جهة أخرى، طمعًا في حلحلة كافة الصعوبات التي تقف عائقة أمام الصيرورة الديمقراطيّة في العالم الإسلامي والعربي، خاصة والمتعلقة بالهويّة والشؤون الثقافيّة منه، والسّيف نفسه أشار في مقدمة الكتاب بأن "محور النقاش هنا هو العلاقة الإشكاليّة بين الدين والديمقراطيّة والإمكانات المتوفرة لاستنباط حلول تسمح بتطوير نظام سياسي يجمع بين قيم الدين الحنيف وفضائل الديمقراطيّة" معتقدًا بأن مناقشة مثل هذا الأمر يسهم بشكل كبير في معالجة أزمة التخلف المزمن الذي يعانيه العالم الإسلامي نتيجة لتحجر الأنظمة السياسية فيه، وهذا من شأنه أن يسهم في توسيع الهوة بين الدولة والمجتمع، وبالتالي تنعدم الإرادة الشعبية العامة، وتتضاءل الحريات، ويصبح المجتمع يعيش الهامش السياسي إذ لاحول له ولا قوة!. وما ينبغي أن يُقال في هذا الصدد بأن معظم المجتمعات الإسلاميّة تعيش – اليوم - تحت وطأة ضغط خانق على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية، حيث لا يمتلك أدنى مقومات الحياة الطبيعيّة بالرغم من جميع الإمكانات والثروات الطبيعيّة التي تتمتع هذه المجتمعات.
ولاشك بأن الديمقراطيّة كمفهوم تؤشر في مقاصدها الجوهرية إلى تحقيق "حكومة الشعب" والتي تولدت نتيجة ترهص سياسي ساد (أثينا) في القرن الخامس قبل الميلاد، وتطورت حتى أصبحت تجربة سياسية ناهضة تحتفي بها معظم الدول الغربية حسب معطيات العالم الحديث، ولا استثناء لأي دولة من الدول العربية، بل إن "فكرة الديمقراطيّة ليست جديدة على العالم الإسلامي فقد جربتها عدد من المجتمعات المسلمة ونجح قليل منها وأخفق أكثرها. وأن تكرار تعثر التجارب الديمقراطيّة في البلدان الإسلاميّة هو – في أحد الوجوه على الأقل – ثمرة لغربة النموذج الديمقراطي وتباعده عن النسيج الثقافي الخاص بهذه المجتمعات، أي التباين الثقافي بين الذهنية العامة للمسلمين والأرضية الفلسفيّة التي تقوم عليها فكرة الديمقراطيّة نفسها" وبهذا المسعى يحاول السّيف نفسه عبر هذا الكتاب التأكيد على ضرورة خلق نموذج ديمقراطي مُعدَّل حسب مواصفات محليّة تتناسب وطبيعة البيئة بكل مكوناتها الخاصة، بحيث يكون قابلا للتفاعل مع المضمون الثقافي الخاص بالمجتمعات الإسلاميّة، وفق بلورة ذهنيّة تجسد للتفاعل الإيجابي بين الفرد ومحيطه، وتساهم في خلق مناخ يدفع الأمور باتجاه المناقدة والتبادل المعرفي والتنافس السلمي على مستوى الشعب نفسه، فإن عرقلة مشروع الديمقراطية في العالم الإسلامي يعني بالضرورة استمرار للدكتاتورية والأنظمة الشموليّة، بيد أنَّ السّيف في جوانب أخرى يؤكد بأن "الديمقراطيّة ليس وعدًا بالمدينة الفاضلة، ولا هي الحل السحري لجميع المشكلات، بل هي ببساطة وسيلة لتنظيم العلاقة بين المجتمع والدولة، وقد أثبتت التجارب وعلى امتداد ليس بالقصير على الزمن، أنها الأنجح والأكثر قابليّة للتطور والتكامل بين جميع نماذج الحكم الأخرى". ويستطرد الكاتب أيضا ويقول: "الديمقراطيّة مفيدة لأنها توفر الفرصة للناس العاديين كي يعيشوا بسلام، ويسعوا في الارتقاء بحياتهم في ظل قانون واحد يتعامل معهم كمواطنين أكفاء لبعضهم، متساوين في الحقوق والواجبات" . وبالتأكيد هذا كله مرهون برفع مستوى الوعي الاجتماعي إلى أقصى درجاته من أجل تهيئة الفعل الثقافي للدخول في العالم الحديث بعد وضع نهاية للتأزم السياسي الذي يتوارثه المسلمون جيلا بعد آخر.
ربما الحاجة للديمقراطيّة بات يدركها العرب والمسلمون على وجه التحديد، لكنَّ المشكلة لا يمكن معالجتها بهذه السهولة كما نتوقع، خاصة والديمقراطيّة إن اتسقت في جوهرها مع بعض المضامين الدينيّة إلا أنها وكتجربة بشرية وغربية فهي لا تلتقي في مخرجاتها وتطبيقاتها مع العديد من الخواص الدينية على وجه التحديد، ومن هنا يأتي جوهر الحوار الذي يقيمه الدكتور السّيف عبر مجموعة من الدراسات والبحوث ضمّنها في هذا الكتاب؛ لأجل المناقشة على أعلى مستوياتها المعرفيّة والتي تولي اهتمامًا بالغًا للمؤتلف منها والمختلف ما بين الدين من جهة والديمقراطيّة من جهة أخرى. ومما لا يدع مجالا للشك بأن مجرد الإقدام على مثل هذه الخطوة يسترعي الكثير من الجوانب المهمة والمتعلقة بالذات بالنظرة الدينية تجاه العديد من التجارب التي تسهم بشكل كبير في تنظيم الحياة العامة للإنسان، بمعنى أنَّ الدِّيمقراطيّة كتجربة إنسانيّة قدمت نجاحات عديدة في مضمار ضبط هذه العلاقة؛ بين الحاكم والمحكوم من جهة، أو ما يتعلق بالشق الحضاري والتنموي. على اعتبار أن الديمقراطيّة كتجربة ساهمت بشكل كبير في إحداث التنمية والتطوير للإنسان المعاصر سواء كان على صعيد الفردانيّة (=الليبراليّة) أو كان يتعلق الأمر بالصورة الكليّة والجماعية (=الاشتراكيّة الاجتماعيّة) إذ لا يقتصر الأمر عند هذا الحد فحسب.
إنّ إشكاليّة العلاقة بين الدين والسياسية ليست جديدة في الفكر السياسي المعاصر، فهي ملازمة له منذ نشوء الفلسفة اليونانيّة حين اقتصر الأمر على محورين اثنين: الدين من جهة والأيدلوجيات (=الأفكار والمعارف) من جهة أخرى، فالدين بوصفه القاعدة الأعمق للابستومولوجيا ولتحديد السلوك أيضا، أما الأيدلوجيا – المسار والحراك - فقد ساهمت بشكل كبير في تقويض سلطة الكنيسة بعد أن كرست مفاهيم العلمانيّة ومعايير التمثيل والانتخاب؛ لتكون بديلا عن معايير القداسة التي تمنحها للحاكم، والمتتبع للصيرورة الغربية لا يغيب عنه ما آل إليه فضاؤها الثقافي من ترهصات، فقد ظهرت إشكاليّة أخرى لا تقل أهميّة عن سابقتها، وهي العلاقة بين الدولة والمجتمع، والتي نجحت الديمقراطيّة بشكل كبير على ضبطها كعلاقة حيوية منذ القرن التاسع عشر إلى الوقت الراهن، إذ يتبدى ذلك فيما آل إليه العالم الغربي اليوم من تطورات ملموسة على كافة الصعد الحيوية والإستراتيجية، مع تفاوت نسبة النجاح أو الفشل من بيئة اجتماعيّة إلى أخرى. إلا أننا لا نستطيع إلا القول: بأن هذا العالم يدخل عصر الحداثة بكل اقتدار، فما هو موقع (الدين) بالنسبة لهذا العالم أما الديمقراطيات المعاصرة!؟. إذن النظام الدِّيمقراطي: هو الثمرة الطبيعية للتطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لهذه المجتمعات، والضرورة العلمية لمسار البحث يقتضي وقبل الشروع في مناقشة العلاقة بين (الدِّين والدِّيمقراطيّة) في الحيز الإسلامي، لأن الرهان العلمي البحثي يعي تمامًا مستوى الفارق ما بين القواعد والأسس التي بُني عليها النظام السياسي في ظل الدولة الإسلاميّة وما بين الدول الغربية.
من هذا المنطلق جاء هذا الكتاب ليضع أمامنا دراسات ست بالتحديد، انتقاها الدكتور السّيف بكل عناية وحرص، لا لأنها تضاهي في متانتها العلميّة بحوثًا أخرى فحسب، بل لما تتمتع به من امتياز خاص يسلط الضوء على مدى العلاقة ما بين (الدّين والدّيمقراطيِّة) وما يؤسس عليها من قانون يضمن ضبط النظام العام ما بين الحاكم والمحكومين أو بين الدولة والمجتمع، وقد وضعت معظم هذه الدراسات التجربة الإيرانيّة في نظام الحكم كمحور للمناقشة والمدارسة منذ الثورة الدستورية (1905 – 1906) حتى ما آلت إليه الأمور في الواقع المعاصر، وهنا نستحضر ما تطرق إليه المفكر الإيراني محمد مجتهد شبستري حين أعزى تمييز الإيرانيين لطبيعة النظام السياسي؛ بأن التفويض الإلهي يختلف اختلافًا كليّا عمَّا للشعب، بل أن طبيعة هذا النظام هو ثمرة لعاملين - القول لـ شبستري – العامل الأول: هو التَّطور التَّاريخي الخاص بالمجتمع الإيراني نفسه، ولاسيّما انعكاسات الثَّورة الدستوريِّة والتي شهدت للمرة الأولى في تاريخ المسلمين تنظيرًا فقهيًّا لسيادة الشعب، باعتباره صاحب السلطة ومصدر شرعيتها. أما العامل الثاني: فهو التركيب المزدوج للنخبة التي قادت الثورة، من فقهاء يميلون إلى نمط الحكم المتعارف في التّراث الدِّيني، ومفكرين يميلون إلى الدِّيمقراطيّة الليبراليّة أو الاجتماعيّة. ويستطرد شبستري نفسه ويقول: بأنه وبسبب هذين العاملين فقد شهد النقاش حول دستور الجمهوريّة الإسلاميِّة الذي أُقرَّ في العام 1980م فقد طرح مفاهيم جديدة لم تكن متداولة قبل ذلك في المجتمع الدِّيني أو على الأقل لم تكن من موضوعات انشغاله، ومن بين تلك المفاهيم على سبيل المثال: الإرادة العامة، الجمهورية، تقسيم السلطات، حاكميّة القانون، المواطنة والحقوق الدستورية .. إلخ.
وقد أشار السّيف في مقدمة الكتاب إلى حصيلة مناقشات كانت تدور حول طبيعة الحكومة الإسلاميّة إبَّان انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران عام 1979م، وكان من جملة ما نقله بأنّ "الدّيمقراطيّة لم تكن مطروحة كنموذج محتمل لنظام الحكم المراد إقامته، بل كان الجميع متفقًا على أن حكومة إسلاميّة سوف تكون البديل الأفضل عن كل ما سواها. مثل كل المفاهيم الجديدة، فلم يكن مفهوم "الحكومة الإسلاميّة" الذي طرح يومئذ واضحًا ومحددًا، وكان الميل في أول الأمر إلى نظام يقوم بشكل كامل على سيادة الشعب مع دور إشرافي للفقهاء، حيث دعا بعض زعماء الثورة في تلك الآونة إلى ما يشبه بالدّيمقراطيّة الاجتماعيّة، التي كانت واقع الحال، مع الالتفات أن الإسلام كمنظومة فقهية لا يحتمل غير نظام شديد التمركز على رأسه فقيه يجمع بين يديه كل خيوط السلطة. وفي نهاية المطاف جرى وضع دستور يتسع لجميع هذه الخيارات فثمة دور محوري للنخبة الدينية أي الفقهاء، وثمة تأكيد على سيادة الشعب وكونه مصدر السلطة" . وهذا ولا شك لا يتوافق مع نظرية الحكم عند الشيعة الإماميّة لأن النظام السياسي الديني يتمثل حصرًا في حكومة يرأسها إمام معصوم، وإن قال بعضهم بإمكانيّة حلول الفقيه الجامع لشرائط الاجتهاد والعدالة في مكانه، وأيضا قال آخرون بإمكانيّة ترك الحكم للسياسيين ومنح الفقهاء دورًا رقابيًّا ولوجستيًّا أشبه ما كان عليه الحال للكنيسة في أوربا. وهذا ما أكده الدكتور السّيف في كتاب له صدر في بيروت عام 2002م بعنوان (نظرية السلطة في الفقه الشيعي)، لكنه مع ذلك أراد أن يقول شيئًا آخر يجده لا يقل أهميّة، وهو إشارته إلى أن جوهر الجدل في كل تلك المناقشات تهميشها لدور الشعب أمام مركزية النقاش في الدولة والسلطة، كذلك عدم اختلاف ما عليه الحال إزاء أهليّة الشعب في المشاركة بإدارة الحكم ما بين أهل السنة والجماعة وإخوانهم الشيعة، حتى أن نموذج الخلافة التي كانت قائمة حتى الربع الأول من القرن العشرين، كانت محصورة على حد قوله في (الحاكم) عن مؤهلاته وكفاءاته وصلاحياته، على اعتقاد بأن شرعيّة الحكم مستمدة من السماء، وعلى الناس طاعته لأن الله عزَّ وجلَّ أمر بذلك، لا لأن الناس اختاروه أو رضوا به.
لا غرو انحصار محور الحديث في اتصال الدِّين بالسياسية أو انفصالهما، فالخيط رفيع جدًا بينهما ولمجرد الميل يمينا أو شمالا؛ فيؤول إلى انزياحات معرفيّة شديدة، ومما لا يدع مجالا للشك بأن الأدبيات المعاصرة تسمي فصل الدّين عن السياسة بالعلمانيّة، واتصالهما يعني الوقوف عند ثلاثة أشكال محتملة، كان للتأريخ –الشرقي والغربي - سطوته في ذلك البناء، الشكل الأول: تفوق السياسة على الدين، وهذه سمة مشتركة بين الشرق والغرب طوال التأريخ. الشكل الثاني: العلمانيّة، وقد سبق وأشرنا بأنها فصل من فصول التاريخ السياسي الغربي بامتياز واضح وجلي، هذا لا يعني بالضرورة أن التأريخ السياسي الإسلامي كان بمنأى عن تطبيقات العلمانيّة – حسب الرؤية المعاصرة – بأنماط مغايرة عمَّا عليه واقع اليوم في الغرب برمته، وإنه لمجرد التعمق في هذا الحديث لا محال سيدخلنا في الإغراق المُخل، خاصة وهذه القراءة تحتاج لتتبع تاريخي دقيق يضطرنا للوقوف عند كل مفصل ناجز لها. الشكل الثالث: الديمقراطيّة (=حكومة الشعب) وكما ورد ذكرها في (المعجم النقدي لعلم الاجتماع) : "بأنها طريقة في الحكم تسمح للآراء بأن تعبر عن نفسها بحرية، كما تسمح للفاعلين الاجتماعيين بالمشاركة في الحياة السياسية، وبالتالي تقليص المسافة بين الحكام والمحكومين" . أيضا نستطيع القول بأن "القاعدة المفهوميّة الأولى للنظام الدّيمقراطي هي: أن الدّولة ليست ملكًا للحاكم أو النخبة الغالبة، بل هي مؤسسة اجتماعيّة تديرها الحكومة نيابة عن المجتمع ولمصلحته، وأن النظام يقوم على عقد اجتماعي بين أعضاء المجتمع أنفسهم من جهة وبينهم وبين حكامهم من جهة أخرى، وبعبارة أخرى فإن الدولة في المفهوم الدّيمقراطي ليست ملكًا لشخص أو فريق معين كي يستأثر به دون سائر خلق الله، بل هي هيئة أقامها المجتمع كي تدير مصالحه المشتركة كوكيلة عنه وممثله له. ورجال الدولة موظفون عند المجتمع؛ مسؤولون أمامه وليسوا سادة له أو جبابرة فوقه. يصل الحكام إلى مناصبهم بإرادة الناس ويحصلون على سلطاتهم وصلاحياتهم وفق تفويض علني واضح ومحدد الموضوع والزمان. قد يحكم رئيس الدولة أو حكومته أو نواب الشعب أربع سنين أو خمس أو أقل أو أكثر، لكنهم في نهاية المطاف بحاجة إلى تجديد وكالتهم وتفويضهم، فإن رضي الشعب بهم وإلا نصب غيرهم في محلهم" . إلا أنه لا وجه للمبالغة إن قلنا: بأن الدّيمقراطيّة حسب مضمونها المشار إليه آنفا؛ لم يبصر النور – حتى اللحظة - بكل تفاصيله الدقيقة في العالم الإسلامي والعربي، وإن بدت بعض ملامحها في أكثر من بلد إسلامي، إلا أنها لا تعتبر تجربة ناجزة للديمقراطيّة بتفاصيلها الحضارية، سواء في مجملها أو تفصيلها. فهل يا تُرى يعود السبب للارتباط الوثيق ما بين السلطة الدينية من جهة والسياسية من جهة أخرى أم لأمور أخرى لم تتكشف لدينا لغاية اللحظة !؟ وهذا ما لا يتوافق مع مسار العلمانيّة والدافع الليبرالي السياسي الغربي أيضا.
وكما ذكر محرر الكتاب في معرض حديثه بأن الكِتَاب يتألف من مساهمات (=دراسات) لستة كُتَّاب، تدور جميعها حول محور إحداث التناسب بين الدّين والديمقراطيّة، وكلٌّ يُعالج هذا المحور من زاويته الخاصة، على أنهم قد ركزوا في بحوثهم على فكرة (حاكميّة الشعب) معتبرين ذلك كجوهر لمفهوم الديمقراطيّة الذي قد تبنوه فيها. إلى الحد الذي يتكفل مسار البحث الدوال المكملة لها أو الناتجة عنها، كالمشاركة الشعبية، وحاكميّة القانون، والحريات المدنيّة، والعدل والمساواة. ومن الجدير بالذكر بأن المجمل من هذه البحوث جاء ليميّز ما بين المصدر والمعنى والمسار التأريخي في كيفيّة التعاطي معها، إن كان نصًّا ثابتًّا أو معنىً مختلفًا باختلاف الأفهام وتفاوت العقول، فضلا ما أولوا إليه من أهميّة في المؤثرات ومجالات الدّرس والاشتغال الناتجة عن ذلك، كل ذلك وحسب العنوان العام (الدِّيمقراطيِّة الدِّينيَّة) والتي افترضته –هذه البحوث- كتركيب من الممكن تطبيقه على المستويين النظري والعملي، وبكلام آخر: أنه من الممكن إقامة نظام سياسي يجمع ما بين المبادئ الكبرى للديمقراطيّة والقيم العليا للإسلام، نظرا لما يتمتع به مفهوم الديمقراطيّة من مرونة تسمح له بالتناغم مع الإسلام كما هو الحاصل بالنسبة في تمازجه مع الليبراليّة والاشتراكيّة معًا، وهذا ما سبق الإشارة إليه.
وبعبارة أخرى – والقول للدكتور السّيف – فإن التوصل إلى تمازج مناسب للدّين والديمقراطيّة يحتاج إلى فهم للدين يسمح بهذا التركيب، كما يحتاج من جهة ثانية إلى تعديل في مفهوم الدّيمقراطيّة كي يتناسب مع المضمون الديني الذي سيصبح جزءًا من المنظومة القيميّة للنظام السياسي. وأظنه أي الدكتور السّيف من خلال هذا القول بأنه يدفع الأمور باتجاه قراءة جديدة للدين في شقه السياسي بالذات، وهذا ولا شك ما كان محل بحث وجدل وتجاذب للدراسات الست والمتضمنة هذا الكتاب. فهي بالقدر الذي تُؤسس إلى قراءة جديدة ذات منهجيّة مغايرة عن القراءات الموروثة والتقليدية، هي بالقدر نفسه تؤانس للرؤى الفقهيّة مع حركة تطور الإنسان وتعزيز دوره في الحياة، لا سيّما وأن الاعتبار التقليدي للفقه ما يبرح متخذًا من التدين اللازمة الوحيدة في التهافت إزاء التجارب الحيوية للإنسان وفق تطور منظومة الحياة الجديدة. وهنا يُلفت انتباهنا الدكتور السّيف قد تغيب عن أذهان المهتمين في هذا المجال وهي: أن الفقه كونه أحد الأجزاء الرئيسيّة للدين، هذا لا يعطيه المكانة بأن يحوي كل الدين، بكلام آخر: إنّ الدّين أوسع من أن ينحصر في حدود الفقه، لذا ليس من المستغرب إن اعتبرت مثل هذه البحوث الستة الدين باعتباره جزءًا أساسيًّا في تشكيل الهوية، ومصدرًا للأخلاقيات والمثل العليا التي تثري الحياة الإنسانيّة برمتها، أن تصبح لازمة ضرورية لأي نظام سياسي في أي مجتمع مسلم، وحسب تعبير المفكر عبد الكريم سروش فإن أي حكومة في مجتمع ديني لا بد أن تكون دينيّة، كي تكون ديمقراطيّة، لأن معاني الحكومة الديمقراطيّة هو تمثيلها لثقافة المجتمع وقيمه وتطلعاته.
التعليقات (0)