من بين ألفي شخصية عالمية تركت بصماتها على الحياة الإنسانية خلال القرن الماضي، اختارت أخيراً جامعة كمبردج العالم المصري المقيم في ألمانيا البروفيسور محمد منصور، ليكون واحداً منها. ود. منصور الذي يعد واحداً من ثلاثة علماء متخصصين على مستوى العالم في التحكم الآلي، وترأس معهداً في هذا التخصص داخل جامعة زيورخ السويسرية لمدة 25 عاماً .
ولد عام 1928 في دمياط بدلتا مصر، وحصل على الدكتوراه من جامعة زيورخ وهاجر الى كندا ثم سويسرا، حيث تولى عمادة كلية الهندسة بجامعة زيورخ قبل أن يصبح مندوباً لسويسرا في الاتحاد الدولي للتحكم الآلي ورئيس وفدها في مؤتمرات علمية دولية لسنوات عدة، الى أن أصبح مندوب الاتحاد الدولي للتحكم الآلي لدى هيئة الأمم المتحدة ومندوب أكاديمية العالم الثالث لدى المنظمة الدولية ومستشاراً لليونسكو في الحاسبات الإلكترونية وطرق الاتصالات، ورئيساً للجنة الجوائز بجمعية مهندسي الكهرباء الأمريكية.
قام د. منصور بنشر 170 بحثاً وتحرير خمسة كتب والإشراف على 48 رسالة دكتوراه في مجالات الهندسة والطب والبيئة والاجتماع وعلم الأحياء في الوقت نفسه، ترأس د. منصور جمعية العلميين العرب بسويسرا وجمعية المسلمين السويسرية، الألمانية، كما شارك في عضوية مجلس الوقف الإسلامي بزيورخ ومجلس وقف حضارة البوسنة وأمانة صندوق معهد حوار الحضارات في جنيف وحصل العالم د.منصور على العديد من شهادات الدكتوراه من جامعات في سويسرا والصين، بالإضافة الى جوائز دولية من أستراليا والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق. ويحاوره هنا الدكتور ثابت عيد الباحث في الفلسفة الإسلامية والذي يحاضر حالياً في إحدى الجامعات السويسرية عن الإسلام والمسيحية لطلاب الدراسات العليا.
- كثير من المسلمين والعرب لا يفهم العقلية الأوروبية، والعوامل التي ساهمت في تشكيلها، فهل يمكن أن تلخص لنا رأيك في الحضارة الأوروبية بصفة عامة؟
بعد قراءة بعض مؤلفات الفلاسفة والمفكرين الأوروبيين، بوسعي أن ألخص الأركان الرئيسية للحضارة الأوروبية، كما يلي:
أولاً، استبدال الإيمان بالطبيعة بالديانة المسيحية: من الذين أثروا تأثيراً كبيراً في الفكر الأوروبي، ومهدوا لما يسمى به عصر التنوير، نيوتن وديكارت. وهما من المشتغلين بالعلوم الطبيعية والرياضية، كذلك كان لمحاكمة جاليليو من طرف الكنيسة تأثير في هذا التطور، والمناظر لهذا في العلوم الحيوية هو نظرية التطور لداروين.
تبع ذلك فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر، وهي التي جملت العقل المركز الذي تدور حوله الأشياء، كي يصير موضوع إدراك وعلم، على حسب تعريف الفيلسوف الألماني كانط، تشابهاً بالنظرية الفلكية التي تقول أن الكواكب تدور حول الشمس.
معنى هذا الركن الأساسي هو حرية العقل وإلغاء الوصاية الدينية، وتقديس مبدأ العلية، وجعل العلم والعمل من أسس المجتمع. وأصبح الدين بذلك مسألة خاصة بالنسبة للفرد، ولا دخل له في نظام المجتمع، يتبع الإيمان بالطبيعة أن للقوي الحق دائماً، كما هو سار في الطبيعة.
ثانياً، البحث عن السعادة بالنسبة للفرد هو أساس السلوك، والاعتقاد بأن هذا يحقق السعادة بالنسبة للمجتمع، يقول آدم سميث في الاقتصاد: "كل إنسان حر كل الحرية في اتباع الطريق التي تدله عليه المنفعة، ما دام لم يخالف القانون.
ثالثاً، سلوك الإنسان وأخلاقه يحددهما العقل، مثل قانون الأمر المطلق لكانط: "اعمل فقط حسب الحكم الذي تستطيع أن تريده في الوقت نفسه قانوناً كلياً".
هذه الأركان الثلاثة أدت في معظم الأحيان الى الديموقراطية السياسية، وحكم الأغلبية، كما هو متبع في أوروبا الغربية وأمريكا، ولكنها أدت كذلك الى قيام ديكتاتوريات كالاشتراكية الوطنية والشيوعية.
بدأت الحضارة الأوروبية، بترجمة الفلسفة والعلوم من اللغة العربية الى اللاتينية واللغات الأوروبية الأخرى. وتم ذلك عن طريق الأندلس وجنوب إيطاليا، ثم بدأ التقدم العلمي بخطى سريعة بعد عصر التنوير في القرنين الأخيرين، خصوصاً بعد تقدم الطباعة والمواصلات ووسائل الاتصال الإلكتروني والحاسبات الإلكترونية، ومن المعروف أن التعليم في المدارس الأوروبية يهمل إهمالاً يكاد يكون تاماً ما قدمته الحضارات الأخرى. وخصوصاً الحضارة الإسلامية، ولا يعترف بأن الحضارة الإسلامية هي الأساس الذي بني عليه التقدم العلمي والتكنولوجي الحالي. كان من نتيجة ذلك الإحساس بالتفوق على الأجناس الأخرى، مما أدى الى العنصرية، أو ساعد عليها، ومن المعروف أن التعليم في البلاد العربية يؤدي الى العكس، وهو مركب النقص.
ركنان أساسيان
- ولكن الى أين تتجه الحضارة الأوروبية الآن وما هو مصيرها؟ .
للإجابة عن هذا السؤال: لا بد أن نفهم التاريخ في المائتي السنة الأخيرة على ضوء أركان هذه الحضارة، كان الإيمان بالطبيعة، وبأن للقوي الحق على الضعيف، سبباً في ظهور كارل ماركس والشيوعية: "عمال العالم اتحدوا تكونوا قوة تستطيعون بها الحصول على حقوقكم"، وإذا زادت قوتكم تستولون على السلطة، ومن المنطقي أنه إذا تحقق هذا، فلا بد وأن يتحكم قادة الشيوعية في العمال وغيرهم.
كان الإيمان بالطبيعة مؤدياً الى الاستعمار والرقيق والتفرقة والعنصرية والحربين العالميتين الأولى والثانية واستيلاء الصهيونية على فلسطين وطرد أهلها منها، وغير ذلك كثير، وما زال الإيمان بالطبيعة يسير العالم حتى يومنا هذا.
كذلك أدى الإيمان بالطبيعة، والبحث عن السعادة، الى الإباحية الجنسية واستغلال النساء والأطفال وإهمال الأبوين الى حد كبير وإفساد البيئة، أما قانون الأخلاق في الحضارة الأوروبية، فيقع في خطأين كبيرين:
الأول، أن العقل الإنساني قادر على تبرير كثير من الجرائم التي يرتكبها.
والثاني، أنه حتى إذا أدرك العقل التصرف السليم، فما هو الدافع له لاتباعه، إذا لم يعتقد أنه محاسب على عمله. وهذا هو لب العقيدة الدينية: الاعتقاد بيوم الحساب.
أما في حالة اختفاء هذا الاعتقاد، فالمجتمع البشري هالك لا محالة، خصوصاً اليوم، ونحن نملك أدوات الدمار من قنابل ذرية وأسلحة بيولوجية وكيماوية.
إن واجب كل من يؤمن بالله واليوم الآخر أن يفهم الوضع الذي وصل اليه العالم بجعل العقل وحده هو مركز الكون. وأن يعطي الدين مكانته في التأثير في سير الأمور، دون تعصب أو استغلال، وأقصد بالدين هنا: ليس الدين الإسلامي فحسب، بل الأديان الأخرى التي لها نفس المقاييس الخلقية وتدخل الحساب على الأعمال في اليوم الآخر ضمن عقائدها.
ومن الملاحظ أن الحضارة الأوروبية تحتوي على ركنين أساسيين من أركان الدين الإسلامي: وهما العلم والعمل اللذان تركهما معظم المسلمين، وهو الذي أدى الى الانحدار الذي مازلنا نشاهده في عالم اليوم .
- وماذا عن موضوع القيم والأخلاق ومصدرهما في الإسلام؟
يستمد الإنسان القيم والأخلاق من مصدرين أساسيين: أولهما خارجي هو الدين أو التقاليد الشائعة في المجتمع، وثانيهما داخلي هو العقل. وبما أن العقيدة الإسلامية تعترف بالرسالات السماوية السابقة من يهودية ومسيحية، فلا بد أن تكون القيم المستمدة من الدين واحدة في الرسالات الثلاث، أما دور العقل، فهو القيام بالتعديل اللازم المتوقف على الظروف والأوضاع، والمعتمد على الغرض الأسمى الذي هو دفع الأضرار، وجلب المنفعة للفرد والمجتمع، بمقاييس وضعها القرآن والسنة الصحيحة.
لقد تدخل عقل عمر ـ رضي الله عنه ـ في عام المجاعة، وأوقف إقامة حد السرقة، وهذا مثل بسيط لدور العقل، القارئ للقرآن الكريم يفهم، يستطيع أن يجد آيات كثيرة تحض على الأخلاق الكريمة من أمانة وصدق وسلام..الخ، وهذه الأخلاق هي من أركان الدين التي يجب أن يقوم عليها المجتمع المسلم.
الديني والدنيوي
- هل يمكن أن توضح لنا مكانة العلم في الحضارة الإسلامية وامتدادها في الغرب؟
ذكرت أن العلم ركن أساسي في الإسلام، كما هو واضح من القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وأن المسلم مطالب بأخذ الحكمة من أي مصدر كان، هذا وقد كان علم الفلك من أول العلوم التي سعى المسلمون لفهمها والتفوق فيها، بدافع من القرآن الكريم، وصلته الوثيقة بأداء العبادات من صلاة وصوم، وهذه حقيقة يعترف بها مؤرخو العلوم في الغرب.
وقد ذكر عالم الطبيعة المشهور الباكستاني عبد السلام أن هناك سبعمائة وخمسين آية قرآنية تحض على العلم واستعمال العقل في كل شؤون الحياة، ومن كبير الخطأ التفرقة بين علم ديني وعلم دنيوي، فالدين شامل للدنيا والآخرة، ومن يؤمن بوحدانية الله سبحانه وتعالى لا بد وأن يعلم أن العلم واحد.
وكما ذكر الدكتور عبد الحليم محمود عن الإسلام والعلم .
1))لعلم في الإسلام شطر (= جزء) من الغاية التي من أجلها نزلت الرسالة. وذلك أن مهمة الرسول (صلى الله عليه وسلم) كما حددها القرآن: العلم والتزكية: "يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم".
2) )نشأالإسلام حليفاً للعلم منذ ابتداء الوحي بقوله تعالى: "اقرأ".
3) )الإشادة بالعلم في القرآن والسنّة لا يماثلها في سموها وجلالها إشادة في كل الآداب العالمية.
4) )العلم الذي يدعو اليه القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة هو العلم بكل نافع في مجال الكون وفي مجال ما وراء الكون في ميدان العقائد والأخلاق والطبيعة.
5) )المنهج العلمي الأوروبي الحديث منهج أخذته أوروبا عن الإسلام باعتراف الواضع الحقيقي للمنهج الأوروبي، وهو روجر بيكون.
لقد قسم جورج سارتون في كتابه: "Introduction to the history of science" النشاط العلمي على مدى التاريخ الى فترات تستمر كل منها نصف قرن (وهذا هو أقصى ما يمكن لفرد بعمره المحدود القيام به)، وذكر اسم شخص واحد يرمز لكل نصف قرن على مستوى العالم. فمن سنة 750م الى سنة 1100م، أي على مدار 350 سنة، كان كل العلماء الرامزين من العالم الإسلامي: جابر، والخوارزمي، والرازي، والمسعودي، وأبو الوفا، والبيروني، وعمر الخيام. كانوا علماء عرباً وأتراكاً وأفغاناً وفرساً في علوم الكيمياء والرياضة والطب والجغرافيا والطبيعة والفلك، بعد سنة 1100 م ولمدة 250 سنة أخرى ابتدأ اشتراك الأوروبيين مع علماء العالم الإسلامي أمثال ابن رشد، والطوسي، وابن النفيس، في تلك الفترة قامت النهضة الأوروبية الحديثة التي بدأت بترجمة علوم العالم الإسلامي ودراستها والإضافة اليها، حتى يومنا هذا.
ومع الأسف بسبب التعصب والعداوة في القرون الوسطى، أثناء الحروب الصليبية وبعدها، اختفى جزء كبير من الأمانة العلمية.
فهناك كثير من الكتب العلمية المترجمة من اللغة العربية الى اللاتينية قد اختفى اسم مؤلفها، وظهر على غلافها اسم المترجم، كما لو كان هو المؤلف، كما أثبتت ذلك دراسة في جامعة كاليفورنيا سنة 1960م. كذلك هناك نظريات كثيرة اكتشفها علماء العالم الإسلامي نسبت الى علماء أوروبيين، وتدرّس في مدارس العالم العربي الأسماء الأوروبية، دون دراية بمصدرها الحقيقي. وذلك نتيجة للانحدار الحضاري والتخلف على مدى ثمانية قرون.
لقد نهض العالم الإسلامي بترجمة العلوم في شتى الحضارات السابقة أولاً، ثم بنى عليها، كذلك الحال بالنسبة لأوروبا، فقد نهضت بترجمة العلوم من الحضارة الإسلامية وحدها تقريباً (لأن الحضارة الإسلامية جمعت أولاً الحضارات السابقة) ثم بنت عليها. وهذا يلهم العقلانيين في العالم الإسلامي الطريق الصحيح للنهضة.
أزمنة الانحطاط
- اذا كيف يمكنّا تفسير الجهل المتفشي اليوم بين المسلمين (حيث تصل نسبة الأمية في بعض البلاد الإسلامية الى ثمانين في المائة) بالرغم من وجود أئمة المساجد، والمشايخ، وعلماء الدين، والجامعات الإسلامية؟
علاوة على ما سبق يلزم فهم عام لتاريخ العالم الإسلامي: في عهد الخلفاء الراشدين طبقت الشورى، وتولى أمر المسلمين من اختاره المسلمون، وشهد الإسلام أروع عصوره في خلق مجتمع يعتمد على الأعمدة المذكورة سابقاً، ويحقق الأركان الرئيسية الى أن حدثت الفتنة الكبرى، وبدأ انحراف المسلمين عن أصول دينهم حتى يومنا هذا.
دخلت الإسلام شعوب كثيرة، واهتم المسلمون بدراسة دينهم، وبتفسير القرآن الكريم، وعلوم الحديث والفقه واللغة العربية، ونقلوا الى العربية علوم الحضارات الأخرى من يونانية وسورية وفارسية وهندية وصينية. وصاروا بعد ذلك قادة العلوم المختلفة لمدة ستمائة عام في مجالات الفلسفة والمنطق والرياضة والفلك والعلوم الطبيعية والكيماوية وعلوم الحيوان والنبات والطب والصيدلة والزراعة والجغرافيا وعلم الاجتماع وفلسفة التاريخ والقانون. ويجب هنا الإشارة الى حرية الفكر والتسامح اللذين اتسم بهما المجتمع الإسلامي، إلا في فترات وجيزة اضطهد فيها الحاكم فرقة معينة في مجال العقيدة، مثل اضطهاد ابن حنبل وأصحابه، أو اضطهاد المعتزلة.
في القرن الثاني عشر الميلادي بدأ انحطاط المسلمين، بسبب الحجر على حرية الفكر، وما يسمى بإغلاق باب الاجتهاد، ونسيان أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، والفهم الضيق للعلم، وانصراف الناس الى النزاعات الداخلية، كذلك كان لسقوط بغداد مركز الحضارة في الشرق على يد المغول، وسقوط قرطبة مركز الحضارة في الغرب على يد الإسبان، في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي تقريباً في الوقت نفسه، أثر كبير في تدهور حال المسلمين، وحتى يومنا هذا لم يبدأ المسلمون بعد بداية جدية للخروج مما هم فيه، بل أن التعليم في العالم العربي الإسلامي يهمل جزءاً كبيراً من الحضارة الإسلامية، فيتعلم المسلم ما أخذه الأوروبيون من نتاج الحضارة الإسلامية على أنه من إنتاج أوروبا وبأسماء أوروبية، فهل هناك ضياع أكثر من هذا؟
الأخلاق والعمل
- يتميز فهمك للإسلام بالمكانة الخاصة التي تضع العلم فيها، هذا الفهم يصعب على الغالبية العظمى من المسلمين استيعابه، فهل يمكن أن تلخص لنا فهمك للإسلام؟
تعتمد إجابتي عن هذا السؤال على محاضرتي في مجمع الفقه الإسلامي (التابع للمؤتمر الإسلامي) في البحرين سنة 1998م. الإسلام هو باختصار: الإيمان بالله وكتبه وملائكته ورسله واليوم الآخر، وما يتبع ذلك من سلوك الفرد والجماعة. فهمنا للإسلام نأخذه من القرآن الكريم والسنّة الصحيحة، أقول السنّة الصحيحة لأنه من المعروف أن أعداء الإسلام وبعض المسلمين أدخلوا على السنّة كثيراً من الأكاذيب والتحريفات، وما يناظر الى حد ما التحريفات التي حدثت في الديانتين اليهودية والمسيحية.
لأبدأ بالحديث الشريف: "بُني الإسلام على خمس.. " وهو من أوائل الأحاديث التي سمعتها في درس الدين كتلميذ صغير، والآن أفهم هذا الحديث فهماً آخر، غير الفهم الذي يشرحه معظم من يسمّون برجال الدين، أو علماء الدين أو أئمة المساجد، فإذا تصورت الإسلام كبناء يرتكز على أعمدة، فالأعمدة هي ما ذكر في هذا الحديث الشريف، ولكن ليس الإسلام هو الأعمدة فقط التي يرتكز عليها البناء، كما يتصور كثير من الناس، نتيجة جهلهم بدينهم، إذن ما هو البناء؟
إن القارئ للقرآن الكريم بفهم وتأمل يستطيع أن يستخرج ثلاثة أركان رئيسية هي: الأخلاق، والعلم، والعمل، بعد أن يرى العدد الكبير من الآيات التي تركز على هذه الأركان، وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى باستعمال العقل الذي هو نعمة الله الكبرى على بني آدم، والذي يميزهم عن سائر مخلوقاته. فاستعماله هو بمنزلة شكر على هذه النعمة، وإذا طلب مني أن أذكر الركن الرئيسي للإسلام، لذكرت العلم، لأن العلم بكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم يتضمن الركنين الآخرين: الأخلاق والعمل.
والعلم في الإسلام هو العلم بمعناه الشامل، ولا يقتصر على ما يسميه البعض بالعلوم الدينية، فالعلم بمخلوقات الله، والعلم بسنن الله في الخلق، هو من عبادة الله سبحانه وتعالى، كما ورد في القرآن الكريم، وبوسعي أن أقول: "إذا كانت الجاهلية من الجهل، فالإسلام من العلم، كذلك: ليس هناك دين ودنيا. بل هناك دنيا وآخرة، فالدين شامل للدنيا والآخرة".
هذا هو فهمي للإسلام الذي استخلصه من القرآن الكريم والسنّة الصحيحة. والذي يرتكز على الأركان الأساسية، دون الدخول في التفصيلات، والفارق بين هذا الفهم، وفهم الأغلبية العظمى من المسلمين هو أن هذه الأغلبية تركز إما على بعض الفروع وتترك الأساسيات، أو تركز على أشياء داخلية على الدين بعيدة عن نصّه وروحه، وفي رأيي أن المسؤولية الكبرى، بعد المسؤولية الشخصية، تقع على عاتق من يسمون برجال الدين أو علماء الدين. لأنهم إما لم يفهموا الإسلام الفهم الصحيح" إذ أنهم لا يستعملون عقولهم الاستعمال المطلوب، ويعتمدون على النقل، وحفظ ما كتبه السابقون "
وإما أنهم يستغلون جهل معظم المسلمين للحصول على مكسب دنيوي زائل من سلطة أو مادة، والقليل منهم من يبتغي وجه الله سبحانه وتعالى، ويفهم الإسلام فهماً صحيحاً.
علاجات ناجعة
- ما رأيك في الفكر العربي اليوم؟
الفكر العربي اليوم في أزمة ألخصها فيما يلي:
(1) توقف الفكر في العالم العربي منذ ثمانية قرون، وقد ذكرت بعض أسباب ذلك فيما سبق، كان ابن رشد هو آخر كبار المفكرين العرب في قرطبة بالأندلس، ولم يأت بعده من المفكرين ذوي التأثير غير ابن خلدون حوالي سنة 1400م، بمقدمته الشهيرة، ويعتبر ابن خلدون فلتة نور في ظلام القرون الثمانية.
(2) مفكرو اليوم في عالمنا العربي متأثرون بنظام تعليمهم من ناحية، وبخبراتهم واطلاعاتهم من جهة أخرى، أما بالنسبة للتعليم في العالم العربي، فهو تعليم ناقص الى حد بعيد.
فهو إما ما يسمى بالتعليم الديني الذي يعبّر عن التخلف الحضاري، والذي يحتوي على رواسب هذا التخلف ويهمل جزءاً كبيراً من تاريخ الحضارة الإسلامية، وإما تعليم علماني أوروبي يتجاهل الحضارة الإسلامية تجاهلاً شبه تام، وأصحاب هذا النوع من التعليم هم المهيمنون على السياسة والاقتصاد في العالم العربي. من الطبيعي إمكان تدارك النقص في التعليم بالخبرة والاطلاع، بشرط أن يكون الاطلاع ليس مقصوراً على ما كُتب أو يكتب باللغة العربية فحسب، بل يتعداها الى كل المنشورات باللغات الأخرى، والموجودة غالباً خارج المنطقة العربية، بيد أن هذه الفرصة لا تتاح، إلا لعدد قليل من الباحثين العرب.
التعليم هو منبع المفكرين، فكيف ينتظر تقدم الفكر، بعد جفاف المنبع الى حد كبير؟ والشيء نفسه ينطبق على البحث العلمي. فلا يمكن الحديث عن بحث علمي جاد مع غياب نظام تعليم متطور.
(3) للمفكر العربي حدود موضوعة له ممن يسعون الى المحافظة على سلطتهم يتحاشى نشر أي أفكار تنقدهم، أو قد تؤدي الى تقليص هذه السلطة أو فقدانها، في هذه الظروف، يكاد يكون من المستحيل تحليل الأوضاع القائمة تحليلاً أميناً، نتج عن هذا ظهور تشخيصات خاطئة لمرض المجتمع العربي، والتشخيصات الخاطئة لا تؤدي بدورها إلا الى علاجات غير ناجعة ولا مجدية. ومن الطبيعي أن ينضج الفكر عن طريق نقاش موضوعي وعقلاني بين المفكرين، ولكن هذا الباب يكاد يكون مغلقاً أمامهم.
4) المواطن العربي اليوم هو إما إنسان استيقظ لتوّه من سبات عميق دام حوالي ثمانية قرون، فوجد تاريخه قد تراكمت عليه الأتربة، وامتزج بكثير من الخرافات، وإما إنسان ما زال يغط في سباته العميق، والمهمة الأولى للمفكر في هذه الحالة هي إنقاذ نفسه أولاً، كي يستطيع أن يعطي غيره، وهذا في حد ذاته على درجة كبيرة من الصعوبة، ونرى أمثلة كثيرة من مفكري اليوم من الذين انبهروا بتقدم الغرب العلمي والتكنولوجي والفكري، فانتابهم مركب نقص، فأصبحوا تابعين منفصلين عن جذورهم، بحيث لا يمكن اعتبارهم مفكرين، خلاصة الأمر أن الفكر العربي يمر بأزمة خطيرة أساسها فساد التعليم والأوضاع السياسية ومركب النقص النابع عن الهوة السحيقة بين الفكر العربي والفكر الأوروبي، بسبب توقف الفكر العربي عن التطور لقرون طويلة.
ركن أساسي
- سؤال أخير: كيف لعالمنا العربي _ الإسلامي أن ينهض اليوم؟
مما سبق يتضح ما يجب القيام به كي يعود العالم الإسلامي لدور المعطي، لا دور المستهلك الذي هو عالة على المجتمع البشري:
1) الإلمام بتاريخ الإسلام الحضاري، وعلاقته بالحضارة الأوروبية هو من الضروريات التي تساعدنا على الفهم الصحيح للوضع الذي نحن فيه اليوم، كما أن هذا سوف يؤدي الى إزالة مركب النقص الذي أصابنا نتيجة جهلنا بتاريخنا، ونتيجة نقلنا الأعمى للنظرة الأوروبية المتعصبة لتاريخ الحضارة.
2) إزالة الغبار المتراكم والخرافات التي علقت بفهم الناس للدين الإسلامي، والتركيز على أن العلم ركن أساسي من الإسلام، وبذلك يعود العرب والمسلمون الى المشاركة في التقدم العلمي والتكنولوجي، معتمدين على تطوير الفكر الذي توقف منذ حوالي ثمانية قرون.
3) القضاء على الأمية والجهل المتفشيين في الجماهير، باستخدام وسائل الإعلام الحديثة، الى جانب التعليم والنشاط التربوي، لتوجيه الأمة في اتجاه نهضة عامة. 4) الاستفادة من العوامل الإيجابية في الحضارة الأوروبية وغيرها، فالحكمة ضالة المؤمن.
خلاصة القول أن الفهم الصحيح للقرآن والسنّة الصحيحة، والمعرفة غير المتعصبة لتطور الحضارة، كفيلان بإنارة الطريق أمام كل من يريد الخير للبشرية.
http://www.diwanalarab.com/spip.php?article62
التعليقات (0)