(مقالي في جريدة الوفد المصرية يوم السبت 15 مايو 2010)
ولد الفتى "سليمان" في القرن الثامن عشر في قرية "جَوْسَق" التابعة لمركز بلبيس في محافظة الشرقية، نشأ محروما من نعمة البصر، التحق بكتّاب القرية وحفظ بعضا من القرآن الكريم، ثم انتقل إلى الجامع الأزهر، وكان حلم أهله أن يتخرج فيه ليكون أحد مشايخه، لم تقف الإعاقة حائلا أمام طموح الفتى، امتلك عقلا قد لا تجد مثيلا له لدى المبصرين، ينظر إلى المستقبل كأنه يراه أمامه، لا يفكر في مصلحة نفسه فحسب، وإنما جعل همه إنقاذ مصر من الجبروت الذي تتعرض له من قبل المماليك مصاصي خيرات مصر، استطاع بشخصيته الودودة أن يكسب محبة زملائه من المكفوفين. تخرج الفتى سليمان الجوسقي في الأزهر، وانطلق لتحقيق طموحاته، تمكن من تنظيم أمور المكفوفين في جميع البلدان المصرية، جمع منهم ما فاض من الأموال، أنشأ لهم مشروعات تكفل لهم المعيشة الكريمة، أدار دولة العميان بحكمة وبراعة، أقام لهم تجارة عظيمة وأنشأ لهم المطاحن والمخابز، ونظم أمور الشحاذين منهم، وتستطيع أن تتعرف على بعض مما فعله هذا الأعمى صاحب البصيرة القوية من خلال كتاب "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" للجبرتي، والذي تستطيع قراءته في موقع "نداء الإيمان" على الإنترنت، يقول الجبرتي عن تعامل الجوسقي مع العميان: "وسار فيهم بشهامة وصرامة وجبروت وجمع بجاههم أموالًا عظيمة وعقارات".
قرر "الجوسقي" استخدام جيشه من العميان في مقاومة ظلم المماليك وطردهم من البلاد، لكن الحملة الفرنسية كانت أسبق، ورأى الرجل ظلم الفرنسيين الذي لا يقل قسوة عن ظلم المماليك، فجهز جيشه لمواجهتهم، وأمر باستخدام جميع الأسلحة الممكنة للمقاومة، وفي مقال لعبدالله الطنطاوي على موقع "التاريخ" بعنوان "المجاهد الشهيد سليمان الجوسقي.. الأعمى الذي تحدّى نابليون" يذكر أنه طلب من المصريين "أن يتحصّنوا ويتسلّحوا بكل ما يقع تحت أيديهم من أنواع السلاح، من الحجارة والعصيّ والسكاكين والفؤوس، وما إلى ذلك من أنواع السلاح"، ويشير إلى أنه كان يرسل أتباعه من جيش العميان إلى الوجهاء والمشايخ وزعماء المدن والقرى، وكان من مهمة بعض العميان اغتيال الجنود الفرنسيين بعد خروجهم من الحانات ليلا سكارى، وعندما توصل نابليون إلى أن "الجوسقي" وراء هذه الاغتيالات أمر بالقبض عليه، وحاول استمالة الشيخ، قدم له العديد من العروض التي رفضها وقابلها بالاستهزاء، إلى أن قدم له العرض الأكبر، وهو أن يجعله سلطانا على مصر، فأظهر الشيخ قبولا للعرض، ومد نابليون يده إليه متنفسا الصعداء، ومد الشيخ يده اليمنى مصافحا إياه، وكانت المفاجأة أن رفع يده اليسري ليصفع الأوروبي العظيم صفعة قوية على وجهه لا ينساها، وسجل الأديب الكبير علي أحمد باكثير هذا الموقف في مسرحيته "الدودة والثعبان"، وأورد على لسان هذا البطل قوله: " معذرة يا بونابرتة هذه ليست يدي .. هذه يد الشعب"، فجن جنون نابليون وأمر بقتل الرجل وإلقاء جثته في النيل.
هذه صفحة من صفحات العزة والكرامة، تعبر عن قدرة الشخصية المصرية على الفعل والإنجاز إذا توفرت القيادة القادرة على تنظيم الصفوف واستغلال الموارد، فقد أظهر "الجوسقي" قدرة بارعة في الإدارة الاقتصادية والسياسية رغم أنه أعمى، ووجد العميان فيه قائدا يحقق أحلامهم دون شعارات أو أقوال لا تتجاوز الحناجر، استطاع استثمار أموالهم القليلة وأن يضمن لهم لقمة العيش. أثبتت تجارب الأمم –ومنها تجربة الجوسقي- أن الشعوب تستطيع أن تفعل الكثير وتقدم الإنجازات الخيالية عندما تجد القائد الذي تقوم خطته على التنظيم والتخلص من العشوائية والفوضى، الشعوب تريد من يأخذ بأيديها حتى لو كان أعمى!
التعليقات (0)