تأبى الذاكرة إلا أن تستحضر المثل الغارق في الشعبية عند أهل مكة، «بيت قد المراية ولا كل يوم كراية»، كلما حان موعد دفع الإيجار الشهري للشقة التي أسكنها.
ويقصد المكاويون بهذا المثل أن البيت المملوك مهما كان متواضعا أو صغيرا، أفضل بمراحل من «الكراء»، دفع الإيجار.
تملك منزل العمر في هذا الزمن الموغل في الغلاء، يتعدى كونه مجرد حلم. هو «سوبر حلم»، يشتبك مع الكوابيس.
فمجرد التفكير في تملك الأرض التي سيقام عليها المنزل، يشعرك بالإحباط في ظل الأسعار الجنونية للعقار الخام، في بلد تتعدى مساحته مليونين وربع المليون.
وفي حال شدت بك أفكارك إلى أبعد من ذلك، فإنك ستدخل في قائمة طويلة من الكوابيس، تبدأ بالحديد ولا تنتهي عند آخر مسمار تدقه في جدران «بيت العمر».
المعطيات الحالية تؤكد أن ما نسبته 70 في المئة من السعوديين لا يمتلكون مسكنا، أي أن هناك خللا في الخطط.
ودراسات اقتصادية أخرى تقول إن السعودية مقبلة على أزمة سكن خانقة خلال الخمس السنوات المقبلة، مع الحاجة إلى وجود أكثر من نصف مليون وحدة سكنية خلال الأعوام المقبلة، أي أن الموت قادم لا محالة، فإلى أين سيذهب بك الحلم بعد هذا؟.
لو حصل وتقدمت بطلب قرض من الصندوق العقاري، فإنك ستلتزم بشراء قطعة أرض. وفي حال تمكنت من تحقيق هذا المشروع الضخم (أي الأرض) فإنك ستدخل في نفق الانتظار الطويل و«العمر يجري يا ولدي». من يدري بعد ذلك، هل ستبني أرضك أم ستدفن فيها؟.
البنوك التي من المفترض أن تكون عونا للدولة في تحقيق الرفاء للمواطن مثلت عبئا كبيرا عليه. تماطل في إصدار الأنظمة التي تخدم المواطنين كـ «الرهن العقاري» المعمول به في كل العالم، في الوقت الذي تتفنن في تقديم العروض للقروض الاستهلاكية الميسرة، بل تستغل حاجة العميل من وقت إلى آخر لتسهيل قروضه الإضافية بعد أن تسدد مديونيته وتدخله في نفق جديد من السداد.
لكنها (أي: البنوك) لا تضع أي اعتبار لحاجات المواطن الأساسية، وأولها المسكن، ففي حال طلبت قرض سكن فلا بد أن تسدد المبلغ الإجمالي للمديونية قبل أن تضع نقطة واحدة في طلب القرض السكني، ويعتذر البنك عن السداد بشكل قطعي. هذا خلافا للإجراءات المعقدة التي تتبعها البنوك في هذا النوع من القروض، هل رأيت الفرق بين الموقفين؟
يقول الرجل الذي بنى سنغافورة الحديثة لي كوان يو: «حرصت على كرامة البشرية وحاربت الفقر وجعلت لكل مواطنا بيتا بدل أن يكون لكل ألف مواطن كوخ من الصفيح»، لا علاقة لنا بأكواخ الصفيح، ولكننا لم نجعل لكل مواطن بيتا كما فعل السيد لي.
المنزل المِلك له أثر السحر في تحقيق قيمة الفرد داخل مجتمعه وما لذلك من تبعات، الأجيال السابقة من السعوديين تحقق لهم ذلك بعد أن شهدت البلاد أول أزمة سكن في تاريخها في العام 1970.
انفرجت الأزمة وفتح باب الإقراض على مصراعيه، فسكن المواطنون بيوتهم وضمنوا مستقبلا أفضل لأبنائهم.
اليوم، ماذا سأضمن لابني وكيف سأجعله يترحم على رفاتي كلما دخل من باب أو خرج من آخر؟ سأضطر أن أصرخ هذه المرة باسم كل مواطن لا يمتلك منزلا؛ ليسمعني كل صانع قرار فيما يخص السكن والإسكان: «خذ راتبي وسيارتي وثوبي وحياتي .. فقط أعطني منزلا وارمني في البحر».
التعليقات (0)