مواضيع اليوم

أعذبه أكذبه

زكي السالم

2008-09-05 00:26:27

0

أعذبه أكذبه

 

     زارني مساء الأمس صديق عزيز لم أره منذ مدة لعلها جاوزت السنوات الخمس .. قد لا يهمكم هذا التفصيل ولكنه جاءني وهو منتفخ الأوداج .. بادي الانزعاج .. مقلوب المزاج .. لا تكاد شفتاه أن تستقرا من هول ما بهما من اهتزاز .. ولا تكادان تنطبقان من فرط الاشمئزاز .. علت محياه وللمرة الأولى منذ أن عرفته تجاعيد وأخاديد .. وارتسم على عينيه فتور وجحوظ غير معهود .. هالني هذا المنظر المزعج .. وأثر فيّ هذا الحزن المفرط .. فسألته .. والريبة تكاد أن تحشرني في زوايا الخوف والارتباك .. ما الذي دهاك .. ومالي أرى الحزن على محياك ، ؟؟ فزم شفتيه .. وشهق شهقة كادت أن تخرج بروحه .. وقال لي .. إلى متى وأنتم تضحكون على الناس .. وإلى متى وأنتم تحتقرون الخلق .. فقلت له : زدتني ريبة فوق ريبتي وأدخلتني في نفق مظلم .. وكيف نضحك على الناس ونستغفلهم ؟ ومن نحن ؟؟ قال : أما من أنتم .. فمعاشر الشعراء .. وأما ضحككم على الذقون فيتمثل في هذا الكذب المفرط الذي تتفاخرون به في قصائدكم وتُدرجونه تحت مسمى المبالغة حينا والخيال الخصب أحيانا .. وما إلى ذلك من المسميات التي لم ينـزل الله بها من سلطان .. ألم تسمع قول البحتري في مدح المتوكل ..

ولو ان مشتاقا تكلف فوق ما    في وسعه لسعى إليك المنبرُ ..

     أو هل يوجد كذب أكبر من هذا .. ثم ما هذا الهراء الذي يقود الشاعر إلى هذه المبالغة الفجة .. وما الذي يجده المتوكل من لذة في هذا الشعر وهو يعلم أنه محظ افتراء وكذب ..

     قلت له – سيدي – لا تعجل ولا تحاول أن تلقي التهم هكذا جزافاً .. فهل نقّبت في قلب الشاعر واستخلصت كذبه من صدقه .. وهل ولجت في رأسه واستخرجت ما يدور فيه لتحكم عليه بالنفاق والمبالغة .. ثم هذه جدلية قديمة جدا قدم الشعر وهي من الركائز التي يرتكز عليها الشعر ، ولولاها لفقد حلاوته ..

     قال صديقي وعروقه تكاد أن تتفصد من شدة الغيظ .. : لا تدخل معي في جدل عقيم ولا تعد بي إلى زمن تجاوزناه منذ أمد بعيد .. أليس الشعر – أو هكذا يفترض أن يكون – معبرا عن مشاعر الأمة وعاكسا لهمومها وجراحاتها الكثيرة .. قلت : نعم .. قال : إذن نحن متفقان .. قلت له : نحن متفقان على المضمون ولكننا مختلفان في الشكل والإيطار وفي تعريف هذا الفن .. قال : أنا لا أفهم إلا أن يكون الشعر معبرا عن مكنون نفوسنا إذن يجب أن يكون مباشرا وبالغا غايته بأقصر الطرق .. قلت له : هل وجدت بيتا يصل إلى هدفه أيسر من هذا البيت .. :

ألليل ليلٌ والنهار نـهار      والخيل خيل والحمار حمارُ

والديك ديك والحمامة مثله    وكلاهما طير له منقــارُ

     مـارأيك .. هل كذب هذا الشاعر أم بالغ في وصفه .. بل أزعم أنه قال الحقيقة ولم تكتب عليه الملائكة الموكلة به أي سقطة .. وأزعم أيضا أنه أخبرنا بحقيقة قد لا يعرفها الكثير وهي وجود هذا القاسم المشترك بين الديك والحمامة وهو المنقار .. علما أن أحدهما طائر يبلغ السماكين والآخر مسكين يصل أعلى السطح بشق الأنفس .. فهل تريد أن نكون جميعاً مثل صديقك هذا .. ثم ألم تسمع بقصة الشاعر كعب بن زهير مع الرسول عليه الصلاة والسلام عندما وفد عليه في المدينة وأنشده قصيدته العصماء اللامية والمسماة بالبردة وذلك بعد أن أهدر النبي دمه .. والتي يقول مطلعها  :

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول   متيم إثرها لم يفد مكبول

    قال صديقي : وما الذي تومي إليه ؟؟ قلت أومي إلى بيته ..

لا تأخذنّي بأقوال الوشاة ولم     أذنب ، ولو كثرت فيّ الأقاويلُ

 قال : إلى الآن لم أفهم ما تومي إليه ؟ قلت : إذن أنت لم تقرأُ التاريخ جيدا ولم تعرف أن الرسول إنما أهدر دمه بحق – وحاشا النبي أن يظلمه أو أن يصدق فيه قول وشاة – وذلك بعد أن بلغه أن كعباً هجاه بأكثر من قصيدة ..ولم يعد إليه إلا بعد أن ضاقت عليه الأرض بما رحبت .. وبعد أن نصحه الكثير بالوفود على النبي واصفين له خلقه الرفيع وديدنه في العفو عن المسيئين ..إذن لم يكن هناك ظلم له ولم يكن هناك وشاة ولا من يحزنون .. غير أن النبي لما سمع هذا البيت سمعه كأي متبحرٍ في علوم الشعر وفنونه .. ورأى فيه المبالغة المغتفرة للشاعر .. حتى وإن أنكر هذا الشاعر ذنباً ارتكبه عن سبق إصرار وتعمد .. إذن نستخلص من هذا كله أن الشعر قائم ومرتكز على أخيلة ومبالغات هي الركائز الأساسية في بنيته وهي الدعائم التي لولاها لسقط عند أول هبة نقد من هنا أو هناك .. ولست هنا في معرض سرد مقومات هذا الفن تفصيلاً ولكنني أحببت أن أخاطبك بلغة تفهمها ..

قال صديقي – وهو يهم بالانصراف - : دائما تأخذني بكلام منمق .. وزركشات أنت تعلم أني لا أطيقها وإن هربتُ منها شعرا فأنا أشد هربا منها نثرا .. ولكن لي جلسة أخرى معك .. أعدك أنني سارد كلامك إلى نحرك .. ثم تركني ومشى لا يلوي على شيء ..                                           

 

 

     

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات