أعداء النزام
كنت أقوم بواجب العزاء فى احدى مدن شرق الدلتا .
قبل الذهاب حذرونى من أن رجال المرور فى هذه المدينة فى غاية التشدد . لدرجة "التلاكيك ".
ركنت سيارتى فى شارع فرعى مظلم بعيدا جدا عن وسط المدينة .
بحثى عن شارع مظلم وغير مأهول كى أخبىء سيارتى بعيدا عن عيون رجالات المرور توحى كأنها ليست سيارتى وكأننى سارقها ولست مالكها .
ما فعلته جعلنى أشفق على لصوص السيارات , اذ كيف يقود اللص سيارة وليس فى جيبه رخصتها , ماذا سيقول لرجل المرور حينما يطلب منه رخصته ورخصة السيارة ؟ وأين عساه يجد مأوى لسيارته مثل الذى وجدته أنا ؟ .
يوم القيامة قد تتفهم الملائكة التى تستجوب السارق دوافعه للسرقة أما رجال المرور أبدا لايتفهمون .
فى الشارع الفرعى البعيد المظلم كنت أخشى على سيارتى من عبث الأطفال , أو لصوص كماليات السيارات , أو لصوص السيارات كاملة , ولكنى حسمت أمرى : اللصوص أهون وأخف ضررا من رجال المرور .
ترجلت لأشترى بعض طلبات المنزل , أخرجت ورقة صغيرة من جيبى –بخط زوجتى وآخر سطرين بخط أبنتى -.
اذ ليس من المعقول أن أعطى الورقة للبقال , أو أن أقرأ منها كأننى أذيع بيان هام .
المهم , حفظتها فى ذاكرتى , ودخلت بشجاعة وثقة ورباطة جأش على البقال , وبدأت أطلب منه طلباتى .
أعطنى كيلو جبن أبيض – فى ورقة زوجتى علبة جبنة بيضاء -. قرارى بكيلو فقط راجع الى ذكائى وحدسى وسرعة بديهتى , فقد قرأت السعر المدون على العلبة وقرأت وزنها فوجدت أن الجبن ( الفرط ) أو ( السايب ) يوفر لى ثلاثة جنيهات .وفعلت نفس الشىء مع الحلاوة الطحينية , فالسايب يوفر جنيها لعله تكلفة العلبة البلاستيكية . ناهيك عن أن السايب عبارة عن كيلو قائم بينما العلبة بها 850 جرام , تكفى لحشو ساندوتش أدسه صباحا فى شنطة أحد الأولاد .
البدلة الكاملة التى أرتديها لآداء واجب العزاء , اضافة للمظهر العام والثقة فى لهجتى عند طلبى حاجياتى لن تترك انطباعا لدى البقال بأننى أبحث عن الأوفر أو الأرخص .
دفعت له ثمن ما أخذته , وأنتشيت لتوفيرى بضعة جنيهات , وحملت حاجياتى فى يدى متوجها الى سيارتى , درت حول السيارة فاحصا المرايات والأبواب والاطارات – كله تمام -.
فى رحلة المغادرة , يجب أن أقطع وسط المدينة , زحام شديد , وحركة بطيئة للسيارات , قلت لنفسى لعله اليوم الخميس والأفراح كثيرة وهذه مواكب الأفراح , ولكن من يتزوج فى ظل هذه الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة .
فقلت لنفسى لعله الخميس ومعظم الأسر تخرج للتنزه أو تغيير الجو أو فرفشة الأولاد بعد أسبوع دراسى كامل .
ولكن دراسة مين ياعم هى العيال أصلا منتظمة فى الذهاب للمدارس .
اذا فهم مثل حالتى نزلوا من بيوتهم لشراء طلبات واحتياجات المنزل , ولكن هل منهم من يستطيع أن يوفر مثلى ؟
كل هذا جال بخاطرى وأنا أقود السيارة بطيئا بطيئا فى رتل من السيارات حتى قدر لى أن أرى القراطيس أ و الأقماع .
دخلت عليهم بثقة , سيارتى ليس بها شىء , رخصتى فى جيبى , الطفاية تحت قدمى , الحزام مشدود على تماما لدرجة ضيق التنفس , تليفونى المحمول يرن وأنا لا أعيره أى اهتمام كأنه لا يخصنى , فأنا لا أريد أن أترك ثغرة لرجال المرور .
طلب الشرطى الرخص , بصعوبة أخرجتها من الجيب الخلفى للبنطال , وناولته اياها , من دون أن ينظر فيها قال :أركن .
قلت : لماذا ؟ قال : ماهذه المتعلقات على مرآة الصالون ؟ نزعتها وقلت له انه معطر للجو , قال هذا ممنوع , بدأ صوته يعلو , أركن على جنب لو سمحت متعطلش الطريق .
ركنت وترجلت من السيارة وبيدى معطر الجو – ابن الكلب – , ناول الشرطى الرخص للرائد ( م .....) , ذهبت اليه : ياسعادة البيه انه مجرد معطر للجو , قال : ماليش دعوة روح قول لسيادة اللواء , هوا أنا اللى مسكتك ؟ يا اما تدفع خمسين جنيه .
تعبير مسكتك جعلنى أشعر بأنه تم ضبطى فى وضع مخل فى الطريق العام , أو تم ضبطى فى وكر مشبوه للشرب أو التعاطى أو لممارسة الرذيلة أو اننى أتمسكت فى اجتماع سرى لقلب النظام .
الخمسين جنيه هزتنى , فأنا المنتشى لتوفير بضعة جنيهات أخسر خمسين جنيها دفعة واحدة .
ذهبت الى السيد اللواء , رجل ربعة متوسط الطول , يرتدى بالطو ( هتلر ) , أذنه عليها لاصق طبى صغير جدا فى عدة مواضع , علامات الرتبه فوق كتفه تلمع كأنها من الذهب الخالص أو كأنه قد أشتراها توا , أكبرت فيه أن يكون بهذه الرتبة وينزل الى الشارع ليمارس عمله – فعلا مصر بخير يا رجاله – .
سلامو عليكو ياباشا , لم يرد , عذرته , فلو رد السلام على كل المخالفين لأتبرى لسانه وأصبح بنص لسان .ولا يستقيم وهو لواء أن يرد على المواطنين العاديين .
كلمته , ياسعادة الباشا : هل هذه تستحق المخالفة ؟ وأريته معطر الجو فى حجم نصف كف اليد , اننى ضيف عندكم - كنت أحاول استثارة الكرم المشهور عنهم - , قال لى : دا أنا اللى ضيف عندكم , ثم انك عامل لى فيها متدين أدفع بقى , يا ( م ....) بيه دفعه المخالفة ولو ممعهوش أديله وصل .
فقلت له :هل تعليق معطر فى مرآة صالون سيارة تعد مخالفة ؟ أنا لم أكن أعلم .
ولأنه لواء وأنا مواطن , فقد قال لى ما يعرفه تلاميذ ابتدائى , من أن الجهل بالقانون لا يعفى من العقوبة , ولأنه لواء فقد زاد ان مجرد نشر القانون فى الجريدة الرسمية أصبح ملزما وليس مهم أنك تعرف أو لا تعرف .
ما علاقة التدين بالمعطر ؟
كان على أحد وجهى المعطر آيه قرآنية نقشت بحروف صغيرة , ولأنه لواء فقد عرف أنها قرآن ,
هل مجرد آيه مدلاة من المرآة تعنى أنك متدين ؟ وتستوجب المخالفة ؟
توجهت الى الرائد ( م.....) ودفعت المخالفة وأخذت ايصالا وأسترددت رخصى .
فى طريق عودتى الى السيارة وجدت جموع ( الممسوكين ) مثلى ,
سألنى أحدهم ماهى مخالفتك ؟ فأريته معطر الجو الذى بيدى , فقال لى انها تلاكيك , لقد أمسكنى لأن الاكصدام مشروخ وقال لى صلاحية , وقال آخر أنا علشان حاطط علبة مناديل على التابلوه , ورد آخر وأنا علشان حاطط مصحف .
وجدت نفسى بصوت مسموع أقول "حسبى الله ونعم الوكيل " وقال آخر" ربنا ينتقم منهم " ورد ثالث " الله لا يبارك له فى ماله ولا عياله " .
سألنى أحدهم هى عربيتك نوعها أيه ؟ فأجبته , فرد أحد الواقفين علشان كده اتمسكت , لم أفهم , فسألته : تقصد أيه ؟ تطوع أحد الواقفين للشرح , من أنهم لايعترضون السيارات الفارهة , خشية أن يكون بها أحد الكبار , أو أن يكون لصاحبها معرفة بأى من البهوات .
كانت ملاحظة ذكية , حيث مرقت سيارة بزجاج فاميه يقودها شاب فى العشرينيات , ولم يعترضها أحد , وأخرى بأنوار نيون , أدى الشرطى التحية لقائدها , وبدأت أتابع , فاذا بسيارة تمر تعلق مسبحة بخرزات زرق تصلح لباب زويله وليس صالون سيارة ملاكى ولم يوقفه أحد .
أحسست أن السادة ( تلاكيك ) من أعداء النظام .
فهم يزيدون سخط الناس وكراهيتهم للنظام , ويوسعون الهوة بين المواطن والنظام , ويجعلون الناس تؤدى عملها بتراخى , ويجرفونهم نحو الرشوة وعدم الضمير فى العمل لمحاولة تعويض مادفعوه من مخالفات , كل هذا وهم " يحسبون أنهم يحسنون صنعا " .
سخط الناس وتبرمهم زاد حينما رجع أحد الممسوكين وهويخبر الواقفين أن تليفونه المحمول سرق من السيارة أثناء دفعه المخالفة , زاد السخط ونحن نرقب سيارة أرقام وحروف لوحاتها المعدنية فى حجم الخط الذى على معطر سيارتى , وأخرى مكتوبة بخط يحاكى خط طفل فى مراحله الأولى لتعلم الكتابة .
وأنا أراجع الايصال الذى فى يدى وجت أن المخالفة ( ملصقات ) ولا أدرى ماهى علاقة المعلقات بالملصقات , أم أن القانون ليس به معلقات فأعتبروها ملصقات , ورغم أن من عبأ الايصال كان برتبة رائد فقد وجدت الايصال ممهورا بأسم ملازم أول ( م .ح ) ولعله كان الرائد يؤدى عمله نيابة عنه فى الوقت الذى كان فيه ( م . ح ) فى دورة المياه , أو يزور خطيبته , أو أن دفاتر الايصالات عهدته .
eg_eisa@yahoo.com
عموما , ما فعلوه ويفعلوه متوهمين أنه لاقامة أركان وحماية النظام هو فى الحقيقة ينشر السوس لينخر فى أركان النظام .
ان نظاما بهذا الترهل والاهتراء ليس نظاما ولكنه متعدد الأنظمة .
عفوا ليس نظام ولكنه نزام كما أشرت فى العنوان .
التعليقات (0)