يحسب للاعلاميين الفلسطينيين، ريادتهم في تأسيس و أو تطوير وسائل الاعلام العربية المسموعة منها والمرئية، منذ انشاء اذاعة الشرق الأدنى التي أنشئت في اوائل اربعينات القرن الماضي، الى حين تقديم الاستقالة الجماعية لفريقها الاعلامي العملاق، على أثر العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. انطلق بعدها الفريق وانتشر مؤسسا ومطورا الأجهزة الاعلامية في البلاد العربية...
ما أعاد الى ذاكرتي هذا الموضوع، هو مشاهدتي للتلفزيون الفلسطيني البائس بقدراته وامكانياته. تساءلت في نفسي: اين تبخرت طاقات هذا الشعب؟ نعرف ان كبريات الفضائيات العربية كالجزيرة وقناة العربية، تزخر بالطاقات الفلسطينية، فلم لا يتم الاستعانة بها؟ يبدو السؤال سازجا وسطحيا ربما.. ولا أعرف من المسؤول عن ادارة التلفزيون الفلسطيني، لكن زيادة ميزانية هذا المنبر الاعلامي الهام هو ضرورة، كونه السلاح الغير محظور استيراده.. كلنا يدرك صعوبة الظروف التي تمر بها المناطق الفلسطينية، لكن يفترض بالاعلاميين القيّمين على هذا المشروع، التفرغ له وتطويره باستقدام أصحاب الطاقات والخبرة.
وأيضا أقول، ان ما دفعني لطرح هذا الموضوع هو مشاهدتي للعديد من حلقات برنامج رمضاني، أعجز عن تصنيفه في أي خانة ! اعتقد ان معد ومقدم البرنامج هو ماهر الشلبي ان لم أكن مخطئة ! يقوم مقدم البرنامج بجولة في مخيمات لبنان، يلتقي أناسا في الازقة، او يطرق الابواب بشكل عشوائي، او هكذا يفترض، يوجه لهم بعض الاسئلة، وصاحب الاجابة الصحيحة يحصل على مئة دولار، اي على طريقة فوازير رمضان. كان الهدف هو توزيع مبلغ من المال من احد البنوك الفلسطينية، ولكن بطريقة محترمة لا تبدو تسولا او صدقة احتراما لمشاعر الناس، وهذا شعور انساني لا شك بذلك. لكن عجز الناس عن الاجابة في أكثر الاحيان، ومساعدة مقدم البرنامج لهم تنسف هذا الهدف السامي.. ما يهمنا هو نوع الاسئلة الموجهة وهي ذاتها تتكرر في كل الحلقات... شو عاصمة فلسطين؟ سمّي لي خمس مدن فلسطينية؟ ما هي حدود فلسطين... واسئلة بسيطة من هذا القبيل !! والمفجع ان غالبية المسؤولين، لم يوفقوا في الاجابة !!! والفاجعة الكبرى تكمن في تكرار هذه المهزلة! قد تحدث في حلقة او ثلاث حلقات فيتم تفادي الموقف! لكن يبدو ان الاعلامي كان سعيدا بلعب دور " بابا نويل" او " سانتا كلوز"، بين هؤلاء البؤساء.. وربما لم يتوفر من يوجه له الملاحظات من الفريق المرافق له على الأقل، ان لم نقل من ادارة التلفزيون.
ما شكل ردّة فعل المراقب لهذا البرنامج؟ سوف يسخر بالتأكيد من شعب مستعد للموت، ولا يتنازل عن حق العودة، ويرفض الاستسلام و.. و.. وهو لايعرف اسم عاصمة بلده التي تتكرر ملايين المرات يوميا.. ولا يستطيع تسمية عدد بسيط من قراه او مدنه، علما ان أحياء المخيمات تحمل اسماء القرى من مثل: حي الكابري او حي الصفصاف او جورة التراشحة، نسبة لترشيحا... وفي اسوأ الظن نقول ان هذا البرنامج كان خدمة مجانية لاسرائيل ان لم يكن مقصودا! علمت لاحقا ان مقدم البر نامج كان قد عمل في قناة الجزيرة!! فكيف لم يكتسب الخبرة والتقنية العالية للقناة؟؟ هذا ان صحّت المعلومة.
قد يبدو الأمر عاديا للكثيرين منا، ولكن ليس لمن درّسوا في مدارس الانروا، ونشطوا في مجال حقوق الانسان، وتغلغلوا في حياة ووعي سكان المخيمات وانا واحدة منهم ! أذكر المسابقات التي كانت تجريها لجان التوعية في معظم فصائل المقاومة، في سبعينات وثمانينات القر ن الماضي، وكان بعض الزملاء يطلبون مساعدتي في اعداد تلك الاسئلة.. وكانت النتائج تعكس وعيا عالي المستوى لدى الطلاب والناس. فما الذي تغيّر؟؟
الذي تغيّر هو سيطرة الحركات الأصولية على المخيمات، وانتشار الدعاة واقامة الدروس الدينية، التي حلّت محل التوعية الوطنية، حيث لم يعد التاريخ الفلسطيني او الجغرافية الفلسطينية ما يهم الفلسطيني، بقدر ما يهمه عذاب القبر، والأفاعي، وطقطقة العظام ، وجهنم والزقّوم والتزهيد في الحياة الزائلة طمعا في فردوس دائم ينتظرهم.. وكل فريق ديني يحشو في دماغ انصاره، بكونهم الفئة المختارة عند الله.. وتطالعنا الاخبار اليومية عن ولادة ميمونة لفصيل ديني جديد يحمل اسم الله، فتغيّرت وجهة الصراع من صراع وطني سياسي لشعب اغتصبت أرضه وحرم من ابسط حقوقه الانسانية، ويعيش في مخيمات لا تصلح للسكن الآدمي، الى قضية نشر الاسلام، واقامة الخلافة الاسلامية، والترويج لثقافة الآخرة. والمرأة التي يفترض بها توعية اولادها اصبح هاجسها، هو الخوف من اغضاب زوجها حتى لا تلعنها الملائكة، فتكون عبدة له.. وكيف يمكن للعبد ان يربي أحرارا وبكرامة انسانية؟؟
تدخل تلك الحركات المشبوهة التمويل، بكل امكانياتها المادية من بوابة الفقر والعوز، لأناس قد حرموا من ابسط حقوقهم في حياة كريمة ولو بحدودها الدنيا، فتركت ضحية سهلة لحركات أقل ما يمدن ان يقال فيها انها عدوة الحياة بامتياز للآخرين، فيما هم يدركون أصول اللعبة، ويقبلون على الحياة بشبق وطمع..
التعليقات (0)